المدرسة الفرانكفونية وسلطة الأفضلية!
إبراهيم محمد صديق ( الأراكاني )
لا يوجد وقت تألَّبَت فيه كلُّ الوسائل ضد الدين مثل هذا الوقت؛ بالإعلامِ والكتب وغيرها، والناشئ المحب للثقافة ينشأُ بين محبٍّ لهذا وذاك
- التصنيفات: قضايا إسلامية -
الصراع من نواميس الله في كونه؛ فلا ينفكُّ منه شعب من الشعوب، ولا حضارة من الحضارات، والصراعات مستمرة منذ أن خلق اللهُ النوعَ البشري إلى يومنا هذا، ومِن أشرس أنواع الصراعات - بل تكاد تكون هي المهيمنةَ والموجِّهة للصراعات الباقية - صراع السُّلْطات!
وصراع السطات صراعٌ قديم جدًّا قِدَمَ وجود النوعِ البشري، ومِن أقدم السلطات الموجودة: سلطة الأفضلية؛ لذلك قَتل قابيلُ هابيل، ولسان حاله: كيف يفضِّلك الله عليَّ ويتقبَّل منك دوني؟! والحقيقة أن هذا الصراعَ وُلد مع خلق آدم، فهو نفس الصراع الذي خاضه إبليس، فتكبَّر وتجبَّر؛ لأنه اعتقد أنه الأفضل، ثم استمرَّت سلطة الأفضلية إلى يومنا، وهذا ما نراه من كبريات الحضارات الموجودة الآن؛ فكلُّ حضارة تعتقد أنها الأفضل؛ ولذلك هي تستسيغ وَأْدَ الحضارات الأخرى وقتلَ شعوبها؛ لإيمانهم بأن حضارتهم هي الأفضل وهي التي يجب أن تُتَّبع، وهذا موجودٌ وملموس في كلام كبار الأمريكيِّين والأوروبيين[1].
لا يهمُّنا هنا هذا الصراع؛ فهو صراعٌ قديم، وهناك سلطات أخرى تؤدِّي نفس الدور، وتمارس نفس الصراع: سلطة القديم، وسلطة الجديد، وسلطة العدد[2] غيرها، ولكن ما يهمنا للعرض هنا هي: سلطة الأفضلية واستغلالها من المدرسة الفرانكفونية حتى أصبحَت تؤثّر على المجتمع المسلم، وخاصَّة أتباعَ المنهج السلفي!
بداية الأمر:
المدرسة الفرانكفونية هي في معناها البسيط الساذج: منظمة دولية للدول الناطقة باللغة الفرنسية "كلُغةٍ رسمية، أو لغة منتشرة"[3].
لكن الفرانكفونية في تعريفها الأعمق: هي أيديولوجية فرنسية تُخفي خلفَ قناع المنظَّمة نيَّة إخضاع الدُّول المستعمَرة - المحتلَّة - من قِبل فرنسا (سابقًا) لاستعمارٍ ثقافي لغوي بعد خروجها من تلك البلدان!
وهذه المنظَّمة تأسَّسَت بشكلٍ فِعلي مع انسحاب قوَّات فرنسا، وقد مرَّرَت أهدافَها عبر قِيم الحداثة والتنوير وأخواتها[4].
تلقَّف الفرانكفونيةَ وتبعهَا العديدُ من مثقَّفي العرب، ثم راجَت حتى طالَت الكثيرَ من النُّخَب المثقَّفة والمؤثِّرة في المجتمع؛ ومن أبرز من تلقَّفها: محمد الجابري، وعبدالمجيد الشرفي، وحسن حنفي، وأركون، وأمثالهم، ومعروفة لدى المطَّلع مشاريعُهم الكثيرة حول التنوير، ومحاولةِ تغيير فَهْم النصوص إلى فَهمها فهمًا إنسانيًّا أو عقلانيًّا، حتى آل بهم الأمرُ إلى إقصاء الدِّين وترك شعائر الله صراحةً، بل جعلوا الشريعةَ إنما جاءت لنُطبِّق روحَها، فهي مجرَّد روح، أما أحكامها فأوَّلوها كما شاؤوا؛ لذلك يُخطئ الناسُ - في نظرهم - حينما يظنُّون أن تطبيق الشريعة يعني تطبيق أحكامها، والحق أنه تطبيق روحها[5].
هذا التوجه (الفرانكفوري) قدَّم العديدَ من المشاريع في عالمنا الإسلامي؛ لإعادة قراءة نصوص الشريعة وتفريغها من مضامِينها، وإحلال معانٍ جديدة فيها، والتزلُّف للثقافة الغربية بتطويع النصوص لما يلائم الثقافة الفرانكفونية، ولا يهمنا كثيرًا هنا عرضُ هذا التوجُّه فقد نُقد في دراسات كثيرة.
الذي يهمنا هنا هو تأثُّر بعض الأطياف الإسلامية بهذا الفِكر، خاصَّةً الطبقةَ السوسيو ثقافية في العالم الإسلامي، وهذا بدأ بعد أن رفضَت هذه الأطيافُ الفكرَ العلماني والتنويري؛ (المدرسة الفرانكفونية) بشكلها الأساسي، ولكنها تأثرت ووقعَت تحت ضغط تلك التيَّارات؛ لكونها راجَت لدى أصحاب التأثير الثقافي في العالم العربي.
وسنستعرضُ هنا أبرز ما أنتجته هذه الأفضليَّة للفكر الفرانكفوني في العالم الإسلامي ليؤثِّر بشكل مباشر على الفكر الإسلامي، وأخصُّ بالذكر التوجُّه السلفي، حتى أصبحَت العلمانية وغيرها رائجة، ولكن ليسَت بأسمائها، وهذا أبرز ما حاوله الفرانكفونيون العرب!
يقول محمد عابد الجابري: "نادَيْنا منذ الثمانينيات من القرن الماضي بضرورة استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفِكر العربي وتعويضه بشعارَي: الديمقراطية، والعقلانية"[6].
من أبرز ما أنتجَته الفرانكفونية في التيار الإسلامي - مع العلم أنها تبعد عن الفرانكفونية الأصيلة؛ لكنها داخلة تحت تأثيرها -:
1 - تسفيه الجهود الدعويَّة:
قبل عشر سنوات على الأكثر كنَّا نرى الكثيرَ من المخيَّمات الدعوية، والمحاضراتِ الوعظية، والتي تقلَّصت كثيرًا، ليس هذا هو الخطيرَ في الموضوع؛ بل نظرة المجتمع للدعوة أو الخطاب الوعظي بشكلٍ عام بات يشوبُه الكثير من التنقُّص والتسفيه، بل تجد من يأتي بمشاريعَ عملاقةٍ غربية ليقارنَها بمخيَّمٍ دعوي أو محاضرة بسيطة؛ ليبيِّن لك - في نظره - البَون الشاسِع بين الغرب والإسلاميين؛ في نظرتِهم للإنسان والعقل، وأن المفترضَ عدم الخوض في مثل هذه المشاريع، والاهتمام بمشاريع كتلك التي استشهَد بها، ولا شكَّ أن في هذه المقارنة حيفًا كبيرًا، وليس هذا موضعَ الردِّ، ولكن هذا نتاج عَمْلَقة الغرب، والتأثُّر بكلِّ منتج غربي، وهو الفكر الذي زرعَته الفرانكفونية حتى أنتجَت جيلاً منهزمًا، أوَّل كلَّ نصوصها المقدَّسة من أجل التزلُّف للغرب، وهذا ظاهر جليًّا في مشروع محمد عبده ومحمد الجابري.
ولا شك أن الخطاب الوعظي يحتاج إلى تعديلِ بعض الجوانب، لكنه يواجه مدًّا هائلاً من التسفيه وتصيُّد الأخطاء وتضخيمها مِن قِبَل الكثير من الصُّحف ومواقع التواصل، بينما لا نرى عُشرها في التصدِّي لمنكرٍ من المنكرات.
2 - خطاب التسامح الخاطئ:
الإسلام دينُ تسامح، وليس ثمَّة دينٌ يدعو إلى التعايش، وجَمْع أكبر عدد من الناس باختلاف عرقياتهم ولغاتهم وثقافاتهم كالإسلام، لكن ظهور بعضِ الفِرَق الغالية في التشدُّد والتكفير، وممارستها لأنواعٍ من القتل والتفجير باسم الإسلام، أنتجَ - بالتزامن مع التنوير - فكرًا مائعًا؛ حيث أصبحَت بعض شعائر الإسلام أمرًا مذمومًا ومحارَبًا، وأصبحَت الدعوةُ إلى تمييع الدين سائدةً، بل أصبح من يقف ضدَّ ذلك يعدُّ متشدِّدًا متطرفًا.
ومن أمثلة هذا التميِيع: إلغاء الجهاد بالكليَّة، وإلغاء حدِّ الرِّدة، وغيرها حتى يصبح الإسلام - في نظرهم - حضاريًّا يليق بهذا العصر، ولذلك قدَّموا العديدَ من المشاريع حول أسلمة العلمانية والديمقراطية، وكل هذا نتاج السقوط في أتُّون التبعيَّة، وأنه يجب علينا أن نقتبِس ممن نتَّبعهم ثقافتنا وهُوِيَّتنا.
3 - الخلافات الفقهية:
الخلافات موجودة وقديمة، وهي منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والخلافاتُ الفقهية مقبولةٌ، بل لا إنكار في المسائل الاجتهادية منها.
يقول ابن تيمية: "إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تُنكر باليَد، وليس لأحدٍ أن يُلزم الناسَ باتِّباعه فيها، ولكن يتكلَّم فيها بالحُجج العلميَّة، فمن تبيَّن له صحَّة أحد القولين تبعَه، ومن قلَّد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه"[7].
كان الخلاف طيلة هذه السنوات في البحث عن القول الراجح للتبيين، والبحث عن القرائن لاختيار هذا الراجح، وكان البحث أصلاً في المسألة لإقرار الحق وإبطال الباطل، لكن اللغة اليوم أصبحَت متأثِّرة، فلا يجوز الإنكار على صاحب القول الآخر، وإن كان قولاً ضعيفًا لا اجتهاد فيه، بل أصبح البحثُ في التراث الإسلامي فقط لمجرَّد البحث عن أيِّ مستندٍ يمكن أن يستند إليه المشروع التنويري، ونرى الآن هذا المشروع يمضي على قدمٍ وساق تحت سِتار الخلاف الفقهي[8].
أما أسباب هذا التأثُّر بالفكر الفرانكفوني فمنها:
1- اصطدام الشبابِ بحضارةٍ متفتِّحة ومتَّزنة وقائمة، كما يقول جعفر شيخ إدريس: "ليست هناك حضارةٌ قائمة إلا الحضارة الغربية"؛ لذلك مع انبهارهم بهذه الحضارة وضعف التيار الإسلامي - بعد أن ضُيِّق عليه الخناق كثيرًا - وَجد هذا المسار التنويري طريقَه ليكون بديلاً للثقافة الإسلامية، وهم في الحقيقة لم يتلقَّوه كبديل، ولكن كوجهٍ جديد للفكر الإسلامي أكثر نضارة وتفتُّحًا وملاءمة للثقافات والحضارات الموجودة، وظنوا أنَّهم بذلك يقدِّمون خدمةً للفكر الإسلامي من حيث ترويجُه وتحسينه، وفي الحقيقة فَهُم قد مَسخوه وشوَّهوه.
2- بَعد الموجةِ العارمة التي وجِّهَت إلى السلفية، أصبح الكثيرون يتنازلون تحت ضغط الواقع، ويقفون على قَنطرة بين الحقِّ الذي اعتقدوه، والباطلِ الذي فَرضه الواقع!
فلا يوجد وقت تألَّبَت فيه كلُّ الوسائل ضد الدين مثل هذا الوقت؛ بالإعلامِ والكتب وغيرها، والناشئ المحب للثقافة ينشأُ بين محبٍّ لهذا وذاك، فهو يحاول انتزاعَ نفسه من التيار الإسلامي؛ لأنه يرى زيف الإعلام فيراه حقيقة، كما يحاول في الوقت ذاته التزلُّف للأفكار الأخرى الموجودة على الساحة بحجَّة الانفتاح الفكري وعدم السقوط في تبعية أيِّ فكر دون تمحيص!
وقد تنكشف له الحقيقة في لحظة صفاءٍ، كما حدث لقوم إبراهيم حينما قالوا: {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء: 64]، ولكن التفكير في العواقب وما يترتَّب على ذلك يحول دون إذعانه للحقِّ، ولازلنا - في نظري - في بدايات التأثُّر، والجيل الناشئ مصابٌ بهذا الداء، ولكن يقدِّمه على استحياء؛ لأن الفكرَ الإسلامي لا زال متجذِّرًا، فقد يقع الإنسان بسبب هذا في مغالطاتٍ كبرى، وربما كان عالمًا بقزامَة موقفه، فيقدّم الفكرةَ مع آلاف التبريرات، مع ضبابيَّةٍ في الطَّرْح وعدم تحديد للمراد، إلا أنه فقط يريد أن يثبت أنه ليس مع التيار الإسلامي؛ ظنًّا منه أن ذلك يُعدُّ انفتاحًا فكريًّا وثقافة محمودة.
3 - من أكبر أسباب تأثُّرنا بهذا الفكر: قراءتُنا الدائمة في الكتب التنويريَّة التي تورث بعض الشكِّ في كثير من القضايا، وأنا هنا لا أدعو أبدًا إلى ترك هذه الكتب أو التنحِّي عنها، ولكن يجب أن نوازِن بين القراءة في هذه الكتب والكتبِ الإسلامية أو أصحاب التوجُّه الإسلامي من المفكرين، والإنسان يجذبه الطَّرْح الجميل والفكري، وقد يقرأ كتابًا فتؤثِّر عليه أفكارُه؛ لأنه لا يملك جوابًا للشُّبه التي يعرضها الكاتب، والحلُّ أن يرجع فيقرأ للمفكرين الإسلاميين حتى يعود إليه بعضُ التوازن.
والحمد لله ساحتنا الثقافية الآن مليئةٌ بالمراكز التي تهتمُّ بالفكر المعاصر، لكن بإطارٍ شرعيٍّ إسلامي، وهي أيضًا تقدِّم قضايا معاصرة وتعالجها بطرحٍ متَّزن.
في الختام أسأل اللهَ أن يرينا الحقَّ حقًّا ويرزقنا اتِّباعه، وأن يرينا الباطلَ باطلاً ويرزقَنا اجتنابَه.
[1] راجع مثلاً كتاب: "صراع الحضارات"؛ لجعفر الشيخ إدريس.
[2] راجع ندوة للباحث: إبراهيم السكران، بعنوان: "سلطة طرح الأسئلة"، وهي موجودة في اليوتيوب.
[3] ويكيبيديا http://cutt.us/xSm4e.
[4] راجع: تناغم الفرانكفونية مع التنصير http://cutt.us/9awSq الفرانكفونية: أيديولوجية استعمارية بغطاءٍ ثقافي http://cutt.us/EsEMQ.
[5] انظر: "جوهر الإسلام"؛ محمد سعيد العشماوي ص37.
[6] نقد الحاجة إلى الإصلاح.
[7] فتاوى ابن تيمية ج30 ص80.
[8] يراجع كتاب: "معركة النص"؛ لفهد العجلان.