الوقاية خير من العلاج

الشريعة الإسلامية تنهى المسلم عن التعرض لما يصيبه بالأذى في دينه أو جسده أو ماله، فعلى المسلم أن ينأى بنفسه عن مواطن البلاء وأن يحذر أن يكون سببًا في انتشاره بتقصيره في تعلم دينه واتباع سنة نبيهﷺ، نسأل الله أن يحفظ بلادنا وأهلنا من كل مكروه وسوء.

  • التصنيفات: الفقه وأصوله - استشارات طبية -

الحمد لله رب العالمين، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

أمَّا بعد:

فإن الإسلام ينشد في أتباعه أن يكونوا أقوياء، أصحاء، لينهضوا بأعباء الرسالة التي كلفوا بحملها إلى أهل الأرض جميعًا، والمؤمنون جميعًا يحبهم الله لكن «المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف» (أخرجه مسلم).

 

وإن من العبادات مالا ينهض بأدائها الضعفاء، ولا يصلح لها إلا الأقوياء، فالحج والجهاد مثلا لا ينهض بأعبائهما الضعفاء، ولا يقوى على القيام بهما إلا الأقوياء، لهذا جاءت أوامر الشرع بالمحافظة على الأبدان وعدم تعريضها للأمراض التي تؤدي بها إلى الضعف والهلاك.

 

ولقد سلك الشرع في المحافظة على الأبدان من الأمراض مسلكين، فأما المسلك الأول: فهو الوقاية من الأمراض التي لم تقع بعد، وفى هذا السبيل وضع الشرع من التدابير الوقائية جملة لو أخذ بها الأصحاء لما عرفت الأمراض إلى أبدانهم طريقا إلا إذا أراد الله شيئًا فلا راد لمشيئته سبحانه.

 

فمن هذه التدابير الواقية إباحة الفطر في رمضان للمسافر والمريض.

 

لقد فرض الإسلام على أتباعه أن يصوموا شهرًا في السنة هو شهر رمضان تقرُّبًا إلى الله بغية الوصول إلى المرتبة السَّامية  {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] لكن هذا الصيام مع أنَّه لغرضٍ سامٍ قد لا يستطيع المرؤ تحقيقه بدون الصيام، إلا أنَّ الشَّرع الحنيف وضع الصِّيام عن المسافر حتى لا تجتمع عليه مشقَّتان، مشقَّة الصوم ومشقَّة السفر وفى هذا إبقاءُ عليه، وحفظ له من الإجهاد الشديد الذي قد يؤدى به إلى المرض، أو ربما إلى الهلاك.

 

وأمر الشرع المريض بالفطر في رمضان خشية زيادة مرضه أو تأخُّر بُرئه، وقاية له من المرض، وفى هذا حفظ للمسلم من المرض المتوقع، أومن زيادته إن كان قائمًا.

 

وجاء الشَّرع باستحباب الوضوء لكل صلاة وهى سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم دائمًا، حيث كان من سنته صلى الله عليه وسلم أن يتوضَّأ لكل صلاة، حتى أنَّه لمَّا صلى عددًا من الصَّلوات بوضوء واحد، قال له عمر: يا رسول الله فعلت شيئًا لم تكن تفعله، فقال صلى الله عليه وسلم:«إني عمدًا فعلته يا عمر»  (رواه مسلم).

 

ومع ذلك فقد أبيح لمن لا يستطيع الوضوء خوفًا من المرض أو خشية من تأخٌّر البرء أن يتيمم ويترك استعمال الماء إبقاءً على نفسه.

 

وأباح الشَّرع للمُحرِم أن يحلق شعره إذا آذته هوامُّ رأسه، قال تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196].

 

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة وقد رآه تتساقط هوامُّ رأسه على وجهه: «أيؤذيك هوامُّ رأسك»؟  قال: نعم، فأمره أن يحلق. رواه الإمام أحمد.

 

فمع أنَّ المُحرم يُمنع من حلق شعره مادام محرما إلا أنَّه هنا أمره الله عز وجل، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلق، وفى هذا منع من انتشار الداء أو تسرُّبه للجسد، وهو داخل في الوقاية من الأمراض.

 

وأمر الله عز وجل باعتزال النساء في المحيض خشية الإصابة بالأمراض، ومنعًا من مباشرة الأذى، وفى هذا حفظ للبدن، ومنع من تلوُّثه بالمرض قال تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].

 

وجاء في سنًّة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بتغطية الآنية ليلًا حتى لا ينزل البلاء فيصيب الآنية غير المغطَّاة، وفى هذا إبقاء على البدن، ومنعا له من وصول البلاء إليه، قال صلى الله عليه وسلم:«غطوا الإناء، وأوكوا السِّقاء، فإنَّ في السَّنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وِكاء، إلا نزل فيه من ذلك الوباء» (شرح السنة).

 

قال الليث: والأعاجم يتقون ذلك في كانون الأول.

ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشُّرب من فم السقاء خشية أن يكون في السِّقاء مالا يراه الشارب، فيدخل في جوفه فيؤذيه، وذلك حفاظا عليه من الأمراض المتوقعة الحدوث، فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُشرب من في السقاء. متفق عليه.

 

هذا وغيره من التدابير قد اتخذها الشرع لمنع الأمراض من الوقوع إن لم تكن قد وقعت بعد.

 

وأما المسلك الثاني الذي سلكه الشرع الحنيف في الوقاية من الأمراض فهو الحد من انتشار مرض قد وقع بالفعل وأصيب به البعض، فهنا يسلك الشرع مسلك تقليل الخسائر والحد من انتقال المرض من المرضى إلى الأصحَّاء، وهذا ما نراه في مسلك عمر رضى الله عنه بفهمه قبل أن يصل إليه النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: خرج عمر بن الخطَّاب رضى الله عنه إلى الشَّام حتَّى إذَا كانَ بسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأجْنَادِ، أبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ وأَصْحَابُهُ، فأخْبَرُوهُ أنَّ الوَبَاءَ قدْ وقَعَ بأَرْضِ الشَّأْمِ. قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ: ادْعُ لي المُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ، فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، وأَخْبَرَهُمْ أنَّ الوَبَاءَ قدْ وقَعَ بالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قدْ خَرَجْتَ لأمْرٍ، ولَا نَرَى أنْ تَرْجِعَ عنْه، وقَالَ بَعْضُهُمْ: معكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وأَصْحَابُ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولَا نَرَى أنْ تُقْدِمَهُمْ علَى هذا الوَبَاءِ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُوا لي الأنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ المُهَاجِرِينَ، واخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لي مَن كانَ هَا هُنَا مِن مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِن مُهَاجِرَةِ الفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ منهمْ عليه رَجُلَانِ، فَقالوا: نَرَى أنْ تَرْجِعَ بالنَّاسِ ولَا تُقْدِمَهُمْ علَى هذا الوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ في النَّاسِ: إنِّي مُصَبِّحٌ علَى ظَهْرٍ فأصْبِحُوا عليه. قَالَ أبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ: أفِرَارًا مِن قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لو غَيْرُكَ قَالَهَا يا أبَا عُبَيْدَةَ؟ نَعَمْ نَفِرُّ مِن قَدَرِ اللَّهِ إلى قَدَرِ اللَّهِ، أرَأَيْتَ لو كانَ لكَ إبِلٌ هَبَطَتْ وادِيًا له عُدْوَتَانِ، إحْدَاهُما خَصِبَةٌ، والأُخْرَى جَدْبَةٌ، أليسَ إنْ رَعَيْتَ الخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بقَدَرِ اللَّهِ، وإنْ رَعَيْتَ الجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بقَدَرِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ - وكانَ مُتَغَيِّبًا في بَعْضِ حَاجَتِهِ - فَقَالَ: إنَّ عِندِي في هذا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: إذَا سَمِعْتُمْ به بأَرْضٍ فلا تَقْدَمُوا عليه، وإذَا وقَعَ بأَرْضٍ وأَنْتُمْ بهَا فلا تَخْرُجُوا فِرَارًا منه قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ .

 

هذا الحديث أصل لما عرف باسم الحجر الصحي، ومنع انتقال المرض من المرضى إلى الأصحَّاء.

 

وقد سبق المسلمون العالم إليه، وإنما عرفه من عرفه من خلال التقائه بالمسلمين.

 

ففي هذا الحديث نرى أن عمر رضى الله عنه قد جاء إلى قوم قد انتشر فيهم الوباء، فالحكمة تقضى بأن نقلل من الخسائر وأن نحاول منع زيادتها بقدر المستطاع، ولهذا مال المحدَّث الملهم (قبل أن يعلم بالنص) إلى الرجوع وعدم الدخول إلى بلد قد انتشر فيه الوباء إبقاء على الأصحاء ومنعا لانتشار الوباء، فلما جاءه النص كان نورًا على نور، ففرح به عمر رضى الله عنه وحمد الله ورجع.

 

ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فر من المجذوم كما تفر من الأسد» (أخرجه البخاري).

 

وورد أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجع فقد بايعتك» (أخرجه النسائي).

 

فهذا رجل مصاب بمرض منفِّر وقد تنتقل العدوى منه إلى غيره، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول بالفرار منه، وبايع الرجل المجذوم دون أن يقربه أو يمس يده بيده الشريفة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصافح كل من يبايعه من الرجال، لكن في حالة المجذوم، هناك تعامل بحذر خشية انتقال مرضه إلى غيره، وهذا مراعاة لعدم انتقال المرض من السقيم إلى الصحيح.

 

وهذه الأوامر ليست خاصة في تعامل البشر مع بعضهم فقط، بل هي مما ينبغي أن يكون سلوكا دائمًا يتخذه الناس في التعامل مع المرضى سواء كانوا من الآدميين أو من غيرهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا يوردن ممرض على مصح» (رواه البخاري).

 

وهذا نص عام يشمل الآدميين وغيرهم، وهذا لمنع انتقال العدوى من المريض إلى الصحيح.

 

ومن هذا الباب أيضا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد خشية تلويثه على الناس، ومنعًا من انتقال المرض إلى الآخرين إن كان ثمة مرض، فقال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الملاعن الثلاث البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل» (رواه أبوداود).

 

إن الحكماء يقولون: الوقاية خير من العلاج، والعلماء يقولون: الدفع أيسر من الرفع، ولقد جاء الشرع بقاعدة عظيمة هي قاعدة سد الذرائع، وهذه القاعدة لو تدبرتها لعلمت أنها هي نفس ما قاله العلماء من أن الدفع أسهل من الرفع، وهي عبارة عما كان مباحًا في نفسه لكن الوقوع فيه يؤدى إلى محرم، فحرمه الشرع من أجل غيره.

 

إن الشريعة الإسلامية تنهى المسلم عن التعرض لما يصيبه بالأذى في دينه أو جسده أو ماله، وقديما قال علماؤنا: السلامة لا يعدلها شيء، فعلى المسلم أن ينأى بنفسه عن مواطن البلاء وأن يحذر أن يكون سببًا في انتشاره بتقصيره في تعلم دينه واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، نسأل الله أن يحفظ بلادنا وأهلنا من كل مكروه وسوء.

_______________________________

الكاتب: المعتز بالله الكامل