مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا....

أسماء محمد لبيب

كيف تتعلمُه يا موسى وأنت لن تصبرِ على رؤيةِ ما خَفِيَ عليكَ خبرُه وشَقّ عليك تحمّلُه؟

  • التصنيفات: التاريخ والقصص -

سيدنا موسى هو أكثرُ إنسانٍ غالبًا، قد عاين بنفسِه مَدَى الإدهاشِ في عَجيبِ حِكَمِ وألطافِ أقدارِ الله:

-حين تعرّض للبُعد عن أمه والنبذِ في البحر رضيعًا وَحيدًا،
-ثم ذهابُه إلى قصرِ "قاتلِ الأطفال" للعيشِ فيه،
-ثم تحريمُ الرضاعِ عليه وَقتًا،
-ثم لَسْعُ لسانِه بالجَمرَة وما نجمَ عنها من لَثغَةٍ فيه لازَمَتْهُ عمرًا طويلًا..
وتبين له أن بُعدَه عن أُمِه إنما كان لكي يظلَ بجوارها بأمان..!
وأن حرمانَه من الرضاعة إنما كان لأجل إسباغِها عليه من حِضن أمه..!
وأن عيشَه مع قاتلِ الأطفالِ إنما كان لحمايتِه منه..!
وأن لسعةَ لسانِه إنما كانت لإنجائه من غَضبِ وقتلِ فرعون..! حيث أنها كانت دليلًا على براءته كطفل صغيرٍ لا يعقل، من تَعَمُّدِ شَدّ لِحيةِ فرعونَ وإيلامه..
فتبين وتيقّن لموسى منذ نعومة أظفارِه، مرةً بعد مرة، كيف أن المؤمن الحق عليه أن يصبرَ على ما لم يُحِطْ به خُبرًا، لأن الله وحده هو من أحاط بكل شيئ عِلمًا وقدرًا وحِكمةً ولُطفًا..
ومع ذلك..؟
لم يَقضِ موسى نهمتَه من هذا العِلم الإيماني الجليل المُدهش:
((علمُ الحكمةِ من أفعالِ الله))،
فقطَعَ مَشقةَ السفرِ الطويل وتواضَع لغيره من البشر ممن هُم أدنَى فضلًا من الأنبياء، وهو مُوسى كليمُ الله..!
كل ذلك لأجل  {أن تُعَلمَنِ مما عُلِّمتَ رُشْدًا}
لأجل أن ينهَل مَزيدًا من تلك الأنوارِ المعرفيةِ الفريدةِ المُدهِشة،
وهذا الرشاد الإيمانيّ الذي لا غِنَى عنه للمسلم في الحياة ليَحيَا حياةً بقلبٍ سليمٍ مطمئنٍ غير مُضطَرِبٍ بالشكِ مُرتابٍ في رحمةِ وحِكمةِ ربِه..
هذا النهم لتعلم هذا الرُشدِ لم يَفتُر لدى سيدنا موسى، وهو نَبِيُ يُوحَى إليه من أمرِ السماءِ ما يُثَبِّتُ القلبَ ويُسَكّنُ الخواطر....
فكيف بنا نحن المساكين؟
نجزَعُ حين نَعجَزُ عن فَهمِ ((لماذا يحدث لنا هذا؟))،
ونضطربُ ونتعبُ كثيرًا حين يطول علينا أمدَ ذلِك..
ثم نَسكُنُ ونرتاحُ حين تتلألأُ لنا الحكمةُ بعد حينٍ..
وأدركُ تمامًا أننا لا غِنَى لنا كبشر عن هذا الأمانِ المستدام..
ولكن...
المؤمنُ الراشدُ هو المؤمن ((المطمئن))، الذِي اطمأنّ قلبُه وانتهَى الأمرُ..
لِتعَاقُبِ حكمةِ اللهِ أمامَ ناظريه مِن قَبْلُ مِرارًا مِرارًا،
فلم يَعُد يرتابُ أو يضطربُ كلما حَلَّ به ما يَحِلُّ بالقلوب من لَسعاتٍ أو نقصِ ثمرات..
لذا قال الخضر لموسى حين طلبَ منه أن يُلَقّنَهُ مما لديه من الرُشد:
كيف تتعلمُه يا موسى وأنت لن تصبرِ على رؤيةِ ما خَفِيَ عليكَ خبرُه وشَقّ عليك تحمّلُه؟
وكأني أقرأ ما بين سطورِ حوارهم:
-علمني مما عُلِّمتَ رُشدًا.....؟
-تؤتى الرُشدَ، حينَ تَصبِرُ على ما لم تُحِطْ به خُبرًا..
اللهم علِّمْنا رُشدًا واجعلنا من الراشدين..