الثبات بعد رمضان

منذ 2021-05-12

رمضانُ ولَّى هاتِها يا ساقي   ***   مشتاقةً تسعى إلى مشتـاقِ  مــا كـان أكثـره عليَّ إلافها   ***   وأقـلــه فــي طاعـة الخـــــلاقِ

قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].

 

نداء موجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستمرَّ على عبادة ربِّه حتى يأتيه الموت، وهكذا يجب أن يكون حال العبد مستمرًّا على طاعة الله، ثابتًا على شرعه، يعلم وهو يودع شهر رمضان أن ربَّ رمضان هو ربُّ بقية الشهور والأيام.

 

والمسلمون عند وداع رمضان ينقسمون إلى فريقين: فريق يفرح بانقضائه، وكأنه الجبل على صدره؛ لأنه ما عرَف حقيقة الصيام، ولا تلذَّذ بالقرآن، ينتظر انتهاء الشهر على أَحَرَّ مِن الجمر ليشرب ما حرَّم الله، ويأكل ويشرب، ويطلق العنان لنفسه، يهتف بلسان حاله عند نهاية الشهر:

رمضانُ ولَّى هاتِها يا ساقي   ***   مشتاقةً تسعى إلى مشتـاقِ 

مــا كـان أكثـره عليَّ إلافها   ***   وأقـلــه فــي طاعـة الخلاقِ 

 

وهذا الصنف هم المحرومون في رمضان؛ لأنه إن صام لا يزيد عن صوم العموم.

 

والفريق الثاني: هم العابدون الذين يفرحون بقدوم رمضان، وعند فراقه ينادون بلسان الحال على شهر رمضان، يقولون له في نهايته: "يا حبيب الصالحين، يا حبيب المستغفرين، يا حبيب التوابين، يا شهر رمضان ترفَّق، دموع المحبين تتدفَّق، قلوبهم من ألم الفراق تشقق.

 

بين الجوانحِ في الأعماق سُكنــــــــــــــــــاهُ   ***   فكيف تنسى ومن في الناس ينساهُ 

في كل عامٍ لنا لُقيا محبَّبــــــــــــــــــــــــــــة   ***   تهزُّ كلَّ كيانـي حيـن ألقــــــــــــــاهُ 

بالعين والقلب بالآذان أرقُبُـــــــــــــــــــــــــه   ***   فكيف لا وأنا بالروح أحيــــــــــــاهُ 

ألقاه شهرًا لكن في نهايتــــــــــــــــــــــــــــه   ***   يمضي كطيف خيال قد لمحنـــــاهُ 

في موسم الطُّهر في رمضان الخير تجمعنا   ***   محبةُ الله لا مالٌ ولا جـــــــــــــــاهُ 

من كل ذي خشية لله ذي ولـــــــــــــــــــــعٍ   ***   بالخير تعرفه دومًا بسِيمـــــــــــــاهُ 

قد قدروا موسم الخيرات فاستبقـــــــــــوا   ***   والاستباق هنا المحمودُ عُقبـــــــاهُ 

صاموهُ قاموه إيمانًا ومحتسبــــــــــــــــــــا   ***   أحيَوْه طوعًا وما في الخيـر إكراهُ 

فالأُذْن سامعة والعين دامعـــــــــــــــــــــــة   ***   والروحُ خاشـعــة والقلــــــب أوَّاهُ 

وكلُّــهم بات بالـــقرآن منــدمــجًـــــــــــــــا   ***   كأنــه الـدم يَســري فــي خـــلاياهُ 

 

إن بعض الصالحين يستقيم حالُه في رمضان، فإذا ما انتهى الشهر عاد إلى حالته القديمة وسِيرته الأولى، فأفسَدَ ما أصلَحَ في رمضان، ونقض ما أبرم مع الله، فهذا عمره في هدم وبناء، ونقض وإبرام.

 

أخي الصائم الكريم، كن عبدًا ربانيًّا، ولا تكن رمضانيًّا، من كان يعبُد رمضان فإن رمضان قد ولَّى وانقضى، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، ولتكن الشهور كلُّها رمضان، وحياتك كلها رمضان، واعلم أن رمضان الصالحين لا ينتهي؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الناس كإبل مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة»[1] ؛ أي: تصلح للسفر؛ أي: القليل من الناس هو الذي يشكر ربَّه، هو الذي يثبت على طريق الله، فلماذا لا تكون صاحب همة عالية؟ لا ترضى بالدون، ولا تقنع بما دون النجوم، فأهل العزائم علموا حقيقة الحياة، وأنها حياة كدٍّ وتعب وعناء، وفقهوا قوله تعالى لنبيِّه: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7]؛ أي: فرغت من عبادة يا محمد، فادخل في عبادة جديدة، وقرَّروا أن تكون الراحة في الجنة إن شاء الله.

 

ولما سئل إمام أهل السُّنة أحمدُ بن حنبل: "متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة"، وسار على الدرب إبراهيم بن أدهم؛ حيث أرشد أهل العزائم، فقال: "إذا أردت أن تقترب من درجة الصالحين، فأغلق باب الراحة، وافتح باب الجهد، وأغلق باب النوم، وافتح باب السهر، وأغلق باب الأمل، وتأهب للموت".

 

من وسائل الثبات بعد رمضان:

1- المحافظة على صلاة الجماعة: المساجد تشكو بَثَّها وحزنها إلى الله بعد رمضان؛ تسأل عن عُمَّارها في رمضان، فالمساجد بيوت الأتقياءُ عمَّارُها {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37]؛ فقد صح في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة»[2].

 

أتدري كيف كان حال السلف مع صلاة الجماعة؟ يحكي حاتم الأصم موقفًا حدث له، يقول: فاتتني الصلاة في الجماعة، فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده، ولو مات لي وله لعزَّاني أكثر من عشرة آلاف؛ لأن مصيبة الدِّين أهون عند الناس من مصيبة الدنيا.

 

أحد السلف يسمى سليمان بن حمزة المقدسي، لم يصلِّ الفريضة منفردًا قط في حياته إلا مرتين، مع أنه قد قارب التسعين عامًا.

 

يا أخي الصائم، كن مسجديًّا، ولا تنسَ نصيبك من الصفِّ الأول، وحافظ على هذه الجماعة ما استطعت إلى ذلك سبيلًا.

 

2- المحافظة على الوِرد القرآني: من أهم وسائل الثبات بعد رمضان قراءة القرآن، أنيس الصالحين، وروح المؤمنين، فمن ذاق حلاوة القرآن في رمضان فلن يهجره أبدًا، ومن طهر قلبه فلن يشبع من كلام ربه، قال سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه: "لو طهُرت قلوبُكم، ما شبعتم من كلام ربِّكم".

 

3- الصحبة الصالحة: من أهم المعينات على الاستقامة والثبات الصحبة الصالحة الصادقة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، وقال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120]، الرسل والصالحون يثبتون، وجاءنا عن رسول الله أنه قال: «من يرد الله به خيرًا يهده خليلًا صالحًًا؛ إنْ نسي ذكَّره، وإنْ ذكَرَ أعانه»[3].

 

4- الدعاء: من أعظم وسائل الثبات بعد رمضان أن تلحَّ في الدعاء، أن تنكسر وأن تخضع لله، اسأل ربَّك الثبات، وألحَّ عليه في الدعاء؛ فقد لجأ إليه خير البشر وأفضل الرسل محمدٌ صلى الله عليه وسلم.. كان دائم الشعور بالافتقار إلى الله، كان يدعو ويقول:

«اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد» [4].

 

وكان يكثر في دعائه: «يا مقلِّبَ القلوب، ثبِّتْ قلوبنا على دينك»، وفي رواية أخرى يقول: ((اللهم يا مصرِّفَ القلوب، صرِّفْ قلوبنا إلى طاعتك)).

 

واجب عملي:

احفظ وردِّد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد"، ودعاء: "يا مقلِّب القلوب، ثبِّت قلوبنا على دينك".


[1] رواه مسلم (6451).

[2] رواه مسلم (540).

[3] رواه أبو داود (2934).

[4] رواه أحمد (16788)، والترمذي (3539).

_____________________________________________
الكانب: عصام محمد فهيم جمعة

  • 4
  • 0
  • 3,013

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً