استقرار البيوت

منذ 2021-08-27

إذا أردتَ أن تكون مستقرًّا، مرتاحًا، محبوبًا للناس، ومحل ثنائهم وتقديرهم - فانظر إلى من هُمْ في سنِّك ممن يجلُّهم الناس ويقدرونهم، فاسلكْ مسلكهم.

ما مِنْ أَحَدٍ إلا وينشد الاستقرارَ له ولأسْرته، وَيَتَمَنَّى أن تُرَفْرفَ السعادةُ على بيتِه، فينشأ الأولادُ في جوٍّ تَسُودُه المحبَّة والاحترامُ، فيؤثِّر ذلك في أخْلاقِهم، وفي تعامُلهم فيما بينهم، وفي تعامُلهم مع أهْل حيِّهم وأقاربهم.

والرجلُ قد شَرَّفَهُ الله تعالى وكلَّفَهُ بالقوامة على أهْل بيته، فهو ربان السفينة، فبالصبرِ والحكمةِ وترسُّم هدْي النبي يَعْبُر بأسرته - بإذن الله - إلى برِّ الأمان.

فمِن أسباب استقرار الأسْرة: الاحترامُ المتبادَل بين الزوجَيْنِ.

ومما يزيد الألْفة بين الزوجَيْن: مناداة المرأة وتكْنيتها بما تُحِب من الكنى، وتلقيبها بالألْقاب الحسنة التي فيها ميزة على غَيْرِها منَ النساء؛ مِن صلاح دين، أو حُسْن خُلُق، أو زيادة جَمال، أو حُسن تدْبير في بيتها، أو غير ذلك مما تمْتاز به عنْ غيرِها من النساء، وترخيم اسمها عند ندائِها، وذلك بحذْف أواخِر الاسْم؛ تمْليحًا لها، وإظْهارًا لقَدْرِها عند زَوْجِها؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالتْ: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عائش، هذا جبريل يُقرئك السلام»، قلت: "وعليه السلام ورحمة الله"، قالت: وهو يرى ما لا نرى"؛ رواه البخاري (6201)، ومسلم (2447).

فالعربُ تُرخِّم المنادَى لأغراضٍ بلاغيةٍ، منها: تَمْليح الاسم، فيُستبعد منَ المرأة حينما تسمع الكلام الطيب من زَوْجِها أن تُسْمِعه كلامًا يسوءُه؛ بل غالبًا تُسمعه خيرًا مما سمعتْه منه، وهذا الكلامُ الطيب الذي يزيد الألْفة والمحبَّة بين الزوجَيْن، ويَحُول بين كثير من المشاكل التي قد تقع بين الزوجين؛ بسبب الملاسَنة - فهذا الكلام الطيب عبادةٌ وقربة يؤجَر عليه الزوجان.

حينما تجْتهد المرأةُ في عملِها في البَيْت، ثم تخفق في صنْعة طعام، أو تدريس لولد، أو علاج مشكلة، أو غير ذلك، فليس من الحكمة إظهار الامتعاض ونقْدها؛ بل الأفْضَل التغاضِي عن هذا الخطأ؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ما عاب النبي - صلى الله عليه وسلم - طعامًا قط، إن اشتهاه أكله وإلا تَرَكَهُ"؛ رواه البخاري (3563)، ومسلم (2064).

لكن لو سألتِ المرأةُ واستفسرتْ، بيَّن لها الخطأ بأُسْلوب لا يَجْرح مشاعِرها؛ فحينما امتنع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عنْ أكل الضبِّ، سألَهُ أصحابه، فبَيَّنَ لهم سبب تَرْكه.

فعن عبدالله بن عباس، قال: دخلْتُ أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت ميمونة، فأتي بضب محنوذ، فأَهْوى إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِه، فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يريد أن يأكل، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده، فقيل: أحرامٌ هو يا رسول الله؟ قال: «لا، ولكنه لم يكنْ بأرض قومي، فأجدني أعافه»، قال خالد: "فاجتررته فأكلْته"، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر"؛ رواه البخاري (5537)، ومسلم (1945).

ومِن أسباب اسْتِقرار البيوت، وقلَّة المشاكل فيها: ترْك كثْرة العتب والتعنيف على مظاهِر القُصُور، التي تُرَى على الزَّوْجة والأولاد، وربما بعض هذه الأشياء لا كسْب لهم فيها، ويحب البعضُ أن يَتَجَاوَزَها؛ لكنه لا يستطيع؛ لأنها مما لا يُقدر عليها، فلننظرْ إلى النواحي الحَسَنَة فيهم، وهي كثيرة.

وَمَنْ ذَا الَّذِي تُرْضَى سَجَايَاهُ كُلُّهَا        كَفَى  المَرْءَ  نُبْلاً  أَنْ   تُعَدَّ   مَعَايِبُهْ


وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كمل منَ الرجال كثيرٌ، ولم يكملْ منَ النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران»  (رواه البخاري (3411)، ومسلم (2431).

فالكمال في الرِّجال عزيزٌ، فكيف نطْلب الكمال في النساء والصغار؟! وحينما سأل النبي بريرة عن أم المؤمنين عائشة في قصة الإفْك، قالت: والذي بعثك بالحق، إن رأيت منها أمرًا أَغْمِصُهُ عليها قط أكثرَ من أنها جارية حديثة السِّن، تنام عن العجين، فتأتي الداجن فتأكله"؛ رواه البخاري (2661)، ومسلم (2707).

فهذه عائشة تعجن العجينة لطَبْخ الطعام، فتنام عن العجينة، فتأتي الشاة في البيت فتأكل العجين، وفي الغالب أن النبي لن يأكل الطعام، أو سيتأخر طعامه، ولم ينقل عنه العتب عليها، فضلاً عن الشَّتْم والسَّبِّ، فضلاً عن الضَّرْب والتَّهديد بالطلاق.

إخوتي:
لِين الكلام وطيبه عبادةٌ وقُربة نؤجَر عليها؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل سلامَى مِنَ الناس عليه صدقة، كل يوم تطلُع فيه الشمسُ يعدل بين الاثْنَيْن صدقة، ويُعين الرَّجل على دابته فيحمل عليها أو يرْفع عليها متاعَه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خُطوة يَخْطوها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عنِ الطريق صدقة» (رواه البخاري (2989)، ومسلم (1009).

فإذا كانت الكلمةُ الطيبةُ مع الأباعد صدقة، فكَوْنها صدقة مع الأقارب أَحْرى وأَوْلَى.

لنحْرص على الدُّعاء، ومدْح مَن أَحْسن من أهْلِ البيت، ولنثْني على عمَلِه الحسن؛ سواء كان زوجةً أم ابنًا أم بنتًا، فبالثناءِ يشعر الممدوحُ أن له قدرًا، وله ميزة على غيره، فيحاول أن يزدادَ من الأعمال التي تزينه، وترفع قدره، وعلى أقل تقدير يُحاول أن يحافظَ على نظرة أهلِه إليه، بخلاف من يسمع التأنيب والذم، يستمرِئ ذلك، ويشعر أنه لا يوجَد عنده شيء يحرص على ألاَّ يخسره ويحافظ عليه.

معاشر الإخْوة:
ربما وَقَع في نفْس البعْض: عَلامَ المدح والثناء على أمْرٍ واجبٍ؟! فلم يفعل أهْل البيت إلا ما وجب عليهم، فهو يظن أنه لا يستحق الثناء إلا مَن تطوَّع بأمْرٍ غير واجب عليه، ولا شك أنَّ هذا الفَهْم مجانِب للصواب، فلو تأمَّلْنا كتابَ ربِّنا، وسُنة نبينا، لوجَدْنا فيهما مدْحًا وثناءً على مَن فعل الواجبات، وتَرَك المحرَّمات، كما أن فيهما توبيخًا وتهديدًا لِمَن أخَلَّ بالواجبات، وارْتَكَبَ المحرَّمات، وهذا غاية في العدْل، فيمدح ويُثاب المحسن، ويوبَّخ ويعاقَب المُخْطئ؛ يقول ربنا - تبارك وتعالى -: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 - 11]، فامْتَدَحَ اللهُ في هذه الآيات المؤمنين، الذين يفعلون الواجبات، ويتْركون المنهِيَّات، ووَصَفَهُم بالمُفْلحين، وهي صِفة مدْح، وبَشَّرَهم بالخُلُود في الفِرْدوس.


كثيرٌ مِن تصرُّفات الشباب الخاطئة - سواء داخل البيوت أم خارجها - يجب أن ينظرَ إليها من غير معزل عن السن، فسن الصِّغَر سن يغلب عليه كثرة الحركة، والعَبَث، والتهرُّب من المسؤولية؛ فعن أنس قال: خدمْت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - تسع سنين، فما أعلمه قال لي قط: لمَ فعلتَ كذا وكذا؟ ولا عابَ عليَّ شيئًا قط"؛ رواه البخاري (6083)، ومسلم (2309).

فأنس خَدَم النبي حينما قدم المدينة، وكان صغيرًا، ويبدر منه ما يبدر منَ الصبيان، ومع ذلك لم يعاتبْه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ترْك ما يجب عليه فعْله، وعلى فعل ما يجب عليه ترْكه.

فالصَّغير لا يقدِّر عواقب كثيرٍ منَ الأعمال؛ فلذا في بعض الأحيان هو أول من يتضرَّر بتصرُّفاته الخاطئة، فلْتعالج هذه الأخطاء بشيءٍ من الصبر والحكمة، ولنوطِّن أنفسنا أننا لن نتمكَّن من أن نجعلهم يتصرَّفُون تصرُّفات الكبار، فلْنتحمّل بعض أخطائهم، ومَن يُكثر العتب عليهم، فلْيَرْجع بذاكرته إلى الوراء، وليتذكَّر ماذا كان يبدر منه ومن أتْرابه من تصرُّفات حينما كان صغيرًا، وأثناء فترة المراهقة، لا شك أن الأمر مختلفٌ بعض الشيء؛ لكن الاختلاف راجع إلى طبيعة العصر والأشياء المتاحة.

ولستُ في مقامي هذا أدعو لترْك متابَعة الأولاد، أو أبرِّر أخطاءَهم؛ بل أدْعو إلى النظرة الواقعية في نقْد تصرُّفاتهم وتوجيهها، ففرْق بين إهمال الأولاد، وبين الغِلظة في معاملتهم، وكثرة التَّوْبيخ، والتَّبْكيت لهم.

معاشر الآباء:
الكثيرُ من الشباب لا يتعامَلون مع الأب على أن له حقًّا افْترضَه الله عليهم، من طاعته، وبرِّه، والإحسان إليه، والقيام بمصالحه، فهُمْ أبعد مِن أن يدركوا ذلك في صغرهم، فهم يتعامَلون مع الأب وفْق المصالح، فإنْ كان الأب يوفِّر لهم بعض ما يطلبونه، بادَرُوا الأب بشيء من التقدير، والسَّمْع والطاعة، ومراعاته، وإن كانت الأخرى حصل التمرُّد والعصيان، وخصوصًا إذا شبُّوا عن الطوق، فلْنَحْرِص على توفير ما نقدر على توفيره لهم مما لا يضرهم، فما عندنا في نهاية الأمر يؤول إليهم.

معاشر الأبناء:
لعلكم تُلاحظون أن كثيرًا منَ الأحاديث؛ سواء كانت خاصة بين أبويكم، أم عامة من خلال خطبة الجمعة، أو عبْر وسائل الإعلام المختلفة - منصبَّة عليكم، فأنتم تأخذون حَيِّزًا كبيرًا منَ الأهمية، فمن يتعاهدونكم بالنُّصح والتوجيه هم لكم ناصحون، يُريدون لكم الخيرَ، حتى مَن يقْسو عليكم بالنُّصح هو ناصِح مُحب لكم، فاسمعوا وأطيعوا.

معاشر الأبناء:
ليحرص الواحد منكم على ضبْط تصرُّفاته، ولْيتجنّب ما يُؤذي الآخرين، فليس من العقلِ أن نسيءَ إلى مَن حولنا؛ خصوصًا الضُّعفاءَ من صغار السن والعمال.

تذكروا مقدرة الله عليكم؛ لتقدِّروا مَن هم أكبر منكم سنًّا، لا تُسيئوا للأماكن العامة؛ كالمساجد، والمدارس، والحدائق، ولا تتسبَّبوا في إدخال الضَّرر عليها، وكذلك ممتلكات غيركم، من بيت، أو سيارة، أو درَّاجة.

معاشر الأبناء:
إذا لم تحسنوا للأبوين، فعلى الأقل لا تسيئوا لهما، فلا تكونوا مصدر هَمٍّ وقلق لهما، فلا تجعلوهما دائمًا في شغْل بكم؛ بحثًا عنكم، وانشغالاً بكم، لا تَتَسَبَّبوا في إحْراجهما بعتب الناس عليهما؛ بسبب تصرُّفاتكم، فهل ترضى أن يتعرَّض أبوك وأمك إلى عتب الناس المباشر لهما، أو أن يتحَدَّثوا عنهما في مجالِسهم، ويصفوهما بالتقصير في تربيتك؛ بسبب ما يصدر منك من تصرُّفات يتأذَّى بها الناسُ.

أخي الشاب:
إذا أردتَ أن تكون مستقرًّا، مرتاحًا، محبوبًا للناس، ومحل ثنائهم وتقديرهم - فانظر إلى من هُمْ في سنِّك ممن يجلُّهم الناس ويقدرونهم، فاسلكْ مسلكهم.

_________________________________

الكاتب: الشيخ أحمد الزومان

  • 1
  • 0
  • 1,548

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً