من أسرار الاستغفار

الاستغفار: ندمٌ واعتذار، وتذللٌ وانكسار، وتذكرٌ واعتبار، الاستغفار أيها الموفقون، هو دأب المؤمنين الأبرار، وسبيل الصالحين الأخيار، وطريقٌ مضمونةٌ توصلُ إلى رحمة العزيز الغفار...

  • التصنيفات: الذكر والدعاء -

الاستغفار أيها الكرام، كنزٌ حقيقيٌ مليءٌ بالأعاجيب والأسرار.

 

الاستغفار: ندمٌ واعتذار، وتذللٌ وانكسار، وتذكرٌ واعتبار، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}  [آل عمران: 135].

 

الاستغفار أيها الموفقون، هو دأب المؤمنين الأبرار، وسبيل الصالحين الأخيار، وطريقٌ مضمونةٌ توصلُ إلى رحمة العزيز الغفار؛ قال جل وعلا: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64].

 

الاستغفار سنة الأنبياء والمرسلين المستقدمين منهم والمستأخرين، فها هما الأبوين الكريمين يستغفران الله: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وهذا نبي الله نوح يستغفر لنفسه ولوالديه ولكل مؤمن ومؤمنة: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28]، وها هو إبراهيم عليه السلام يستغفر لنفسه ولأبيه قبل أن ينهى، ولكل مؤمنٍ سابق ولاحق: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41]، وها هو نبي الله موسى عليه السلام يستغفر الله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16]، وها هو نبي الله داود يستغفر: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]، وها هو نبي الله سليمان يستغفر: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35]، وها هو خيرهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم يأمره ربه جل وعلا بالاستغفار لنفسه وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]، وامتثل صلى الله عليه وسلم الأمر، فكان يستغفرُ اللهَ في اليوم أكثرَ من مائة مرة، مع أنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى قد غفرَ له ما تقدمَ من ذنبه وما تأخر، وما من نبي إلا وأمرَ قومهُ بالاستغفار: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} [هود: 52]، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10]، {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل: 46].

 

وتأملوا يا عباد الله، فقد وصفَ ربُنا الكريمُ نفسهُ في كتابه العظيم, بأنهُ غافِرٌ, وبأنهُ غفورٌ، وبأنه غفَّارٌ، وبأنه ذو المغفرة، وبأنهُ واسِعُ المغفرة، وبأنهُ أهلُ المغفرة، وبأنهُ يغفرُ الذنوبَ جميعًا، وبأنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.. ودعا عبادهُ للمغفرةِ وطالبهم بها, فقال جلَّ وعلا: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 221]، وقال عزَّ وجلَّ: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ} [إبراهيم: 10]، وقال جلَّ وعلا: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135]، وقال تبارك وتعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد: 21]، وقال عزَّ وجلَّ: {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل: 46]، وقال سبحانه: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199]، وقال جلَّ وعلا: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 74]، ووالله يا عباد الله ما دعانا الله لها، ولا طالبنا بها إلا وهو يريد أن يغفرَ لنا ويتوبَ علينا، قال جلَّ وعلا: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27]، وفي الحديث القدسي الصحيح: "يا عبادي، إنكم تُخطِئون بالليل والنهار، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعًا، فاستغفروني أَغْفِرْ لكم"، بل إنَّ الكريمَ الرحيم جلَّ جلالهُ قد وعدَ كلَّ من صدقَ في طلب المغفرةِ أن يغفرَ له، واللهُ لا يخلِفُ الميعاد, فقال جلَّ وعلا: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268]، وقال عزَّ وجلَّ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]، وقال تبارك وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 9]، وقال الكريمُ الرحيمُ سبحانه: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]، وفي الحديث الحسن: قال الربُّ عزَّ وجلَّ: «وعزتي وجلالي، لا أزالُ أغفرُ لهم ما استغفروني»، وفي الحديث الصحيح: «مَن قال: «أستغفرُ اللهَ العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأتوبُ إليه ثلاثًا، غُفِرَت له ذنوبُه، وإن كان فارًّا مِن الزحف»، بل إنَّ اللهَ تعالى يفرحُ بتوبة عبدهِ واستغفارهِ فرحًا لا تطيقُ العباراتُ وصفَهُ، كما في حديث صاحبِ الراحلةِ الذي وجدها بعد أن آيسَ منها، فلما أرادَ أن يحمدَ الله تعالى أخطأ من شدة الفرحِ.

 

ولشدة أهميةِ الاستغفارِ تُختمُ به كُلُّ الأعمالِ: فعَنْ أمنا عَائِشَةَ، قَالَتْ: "مَا جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَجْلِسًا قَط، وَلاَ تَلاَ قُرْآنًا، وَلاَ صَلى صَلاَةً إِلا خَتَمَ ذَلِكَ بِكَلِمَاتٍ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَاكَ مَا تَجْلِسُ مَجْلِسًا، وَلاَ تَتْلُو قُرْآنًا، وَلاَ تُصَلِّي صَلاَةً إِلا خَتَمْتَ بِهَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ.. قَالَ «نَعَمْ، مَنْ قَالَ خَيْرًا خُتِمَ لَهُ طَابَعٌ عَلَى ذَلِكَ الْخَيْرِ، وَمَنْ قَالَ شَرًّا كُنَّ لَهُ كَفارَةً: سُبْحَانَكَ [اللهُم] وَبِحَمْدِكَ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ» والحديث حديثٌ صحيح.

 

أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

 

معاشر المؤمنين الكرام، جاء في الحديث الصحيح: «طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا»، وفي رواية أخرى: «مَن أحبَّ أن تَسُرَّه صحيفتُه، فليُكثِر فيها مِن الاستغفار»، ولم لا يا عباد الله؟ وللاستغفار ثمارٌ كثيرة، وفوائدٌ عجيبة.

 

فمن أراد استنزالَ رحمة الله تعالى فعليه بالاستغفار؛ قال جلَّ وعلا: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199]، وقال تعالى: {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل: 46]، ومن أراد مغفرة ذنوبه فعليه بالاستغفار؛ قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]، ومن أراد الأمن والأمان ودفع البلايا والشرور والفتن، فعليه بالاستغفار؛ قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]، وفي الحديث الحسن: «العبدُ آمنٌ مِن عذاب الله ما استغفَرَ اللهَ».. ومن أراد الرَّي والخِصبَ ونزولَ الأمطار والغيث المِدْرَار، فعليه بالاستغفار، ومن أراد نماء الأموال, وكثرة النسل وصلاح الأحوال, وبركة الارزاق والثمار، فعليه بالاستغفار، قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا}، ومن أراد الصحة والقوة والعافية، والسلامة من الأمراض والأوبئة، فعليه بالاستغفار، قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52]، ومن أراد الحياة الطيبة، وسعادة الدنيا والآخرة، فعليه بالاستغفار، قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52].

 

على أن الاستغفار ينبغي أن يكون بتذللٍ وانكسار، وأن يكونَ معهُ حرارةُ الندمِ والاعتذار.. ويستحبُ أن يكونَ متواصِلًا بالليل والنهار، وبالأخص في أوقات الأسحار، لقول العزيزِ الغفار: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18]؛ حيث ينزلُ ربُنا جلَّ جلالهُ إلى سماءهِ الدنيا نزولًا يليقُ بجلاله وعظمتهِ، ويُنادي عبادهُ بذلك النداء اللطيف: «من يدعوني فأستجيبَ له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفرَ له » (رواه البخاري)..

 

وعلى المؤمنِ أن يحرصَ على أن يستغفرَ بالصيغ الواردةِ في القرآن والسنةِ الصحيحة، فهي أنصعُ بيانًا، وأرجحُ مِيزانًا، وأجمعُ للمعاني، وأقربُ للاستجابة، ولأنَّ فيها أجرين: أجرُ الدعاءِ وأجرُ الاقتداء.

 

والعبدُ إذا جاهدَ نفسهُ على طاعة ربه، ولازمَ التوبةَ والاستغفار، انقادت نفسهُ لذلك شيئًا فشيئًا, حتى تألفَ الطاعة وتتعودَ عليها.. ثم تُحبُها وتأنَسُ بها.. ثم تجدها بعد ذلك أحرصَ ما تكونُ عليها: قال جلَّ وعلا: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7]، فلنتُب إلى اللهِ يا عباد الله، لنتُب توبةً صادقة، ولنكثر من الأعمال الصالحة ومن الاستغفار ولنبشِر بالقبول والمغفرة، فربنا الكريم الرحيم يقول في الحديث القدسي الصحيح: يا بنَ آدمَ, إِنَّكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لكَ على ما كان منكَ ولا أُبالي، يا ابنَ آدمَ, لو بلغَتْ ذنوبُكَ عنانَ السماءِ ثُمَّ استغفرتَني غفرتُ لَكَ ولَا أُبالِي، يا بنَ آدمَ, لَوْ أَنَّكَ أَتَيْتَني بقُرابِ الأرضِ خطايا ثُمَّ لقيتَني لا تُشْرِكُ بي شيئًا لأتيتُكَ بقُرابِها مغفرةً".

________________________________________________

الكاتب: الشيخ عبدالله محمد الطوالة