كتابة في الكتابة

منذ 2021-10-03

وما زال للكتابة التأثير الأعظم والأعمق عن سائر المسموعات، ما عدا جانب الحماسة، فإن كان الخطيب حماسيًّا بارعًا، فعل مالم تفعله الكتب كلُّها في إذكاء الحماسة في قلوب مستمعيه.

كتابة في الكتابة

الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه.

 

بدأت الكتابة في التاريخ البشري مع بداية الكلام، فتعلَّم الإنسان أن يرسم الصور والرسومات المختلفة التي يعبر بها عن مكنونه، وتطورت كتاباته من حيث ما يكتب به، وما يكتب عليه، وصور المكتوب، فأصبح يقسم الكلام إلى أحرف، ويرمز لهذه الأحرف برسم يميزه عن غيره، فإذا جمع الأحرف تكونت الكلمة، فكانت كتاباته هكذا، يعبر بها كما يعبر بالكلام، هذا في الأصل، ثم بدأ يكتب المنطوق لكيلا يضيع أو لحاجة في نفسه، فكانت الكتابة تعبيرًا موازيًا للكلام.

 

والعقل الذي يتميَّز به الإنسان عن الحيوان هو محل الأفكار والمعارف والعلوم، وبه يرى الإنسان الحياة، والعقل البشري المعجز قابل للحفظ والتخزين، والمادة المخزَّنة قابلة للتشكيل وأن يتولد منها معانٍ أخر، وهذا ما يُسمى بالفكرة والخاطرة التي بهما صنع الإنسان كلَّ ما تراه، ولولا فكره وخياله لما استطاع ذلك، وهذا العقل يُخرج هذه الأمور المذهلة بطريق الكلام، وبطريق الكتابة، وبطريق الرسم، وغيرها من الطرق، وإن كان الغالب على الناس ما خرج من أفواههم من الكلام الجيِّد، ولكن هناك بعض الأمور لا يستطيع أحد قولها ولا إخراجها إلا من مخرج الكتابة، فترى الواحد إذا أمسك قلمه وكتب سلك طريقًا صامتًا ذا سواد وبياض، الكلمات تنبع من عقله، والألفاظ تتطاير لتقع على الورق.

 

وليس كل ما يجول في الخاطر تستطيع قوله، سواء بحضرة أحد أو بخلوة، وكثير منه تستطيع كتابته، ويبقى بعضه لا يمكن أن يخرج من فمك إلا بصورة بشعة، أو من قلمك إلا بأحرف باردة، فتتركه كما هو، وهذا ما يميِّز العقلاء؛ أنهم لا يتكلمون بكل ما يدور بخاطرهم، بل بما عرَفوا قيمته واستطاعوا قوله بصورة بهية.

 

وللكتابة فضل على التحدث، فإن كل كتابة تستطيع قراءتها بصمت أو بصوت مرتفع، ولها تأثير مختلف كذلك بحسب طريقة قراءة القارئ، أما المنطوق فلا تستطيع كتابته كله، فربما تخلَّف معنى لا تدركه إلا بنبرة صوت أو بطريقة إلقائه، أو كان باردًا كالكلام الأعجمي، والمنطوق لا يكون بنفس عمق الكتابة ولا بأثرها، والله أنزل على أنبيائه كتبًا يهتدي الناس بها، وما ذلك إلا لفضل الكتابة وأثرها في إصلاح الأمم، والكلام المنطوق يقع على أذنٍ لا تملك أن تغلقها، ولا تملك أن تنصت هي مع كل ما يقع فيها، أما القراءة فلا تكون إلا بالعين التي تفك الرموز بالعقل فتقع في القلب مباشرة، فتأثير ما تقرأ أعمق مما تسمع.

 

وما زال للكتابة التأثير الأعظم والأعمق عن سائر المسموعات، ما عدا جانب الحماسة، فإن كان الخطيب حماسيًّا بارعًا، فعل مالم تفعله الكتب كلُّها في إذكاء الحماسة في قلوب مستمعيه.

  • 2
  • 0
  • 981

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً