خواطر حول عبارة (لا يعرف الحق بالرجال)

منذ 2021-10-25

قال العلامة أبو إسحاق الشاطبي في آخر (الاعتصام): إذا كان الحق هو المعتبر دون الرجال فهو أيضا لا يعرف دون وسائطهم فهم الأدلاء عليه.

قال العلامة أبو إسحاق الشاطبي في آخر (الاعتصام):

((إذا كان الحق هو المعتبر دون الرجال فهو أيضا لا يعرف دون وسائطهم فهم الأدلاء عليه)).

قرأت هذه العبارة في آخر كتاب الاعتصام للشاطبي منذ خمس عشرة سنة، وساءني أنه قد مات دون أن يتم هذا الكتاب الفذ الذي لم ينسج على منواله، فلم يذكر بعد هذه العبارة شيئا!!


ثم خطر لي أن أعلق على هذه العبارة بما يعِنُّ لي:

فإن كثيرا من الناس يقول هذه العبارة ولا يفهم مقتضاها ولا ما ينبغي أن تحمل عليه (الحق لا يعرف بالرجال، وإنما يعرف الرجال بالحق)!!.


نقول: إنما عُرف الحق عن طريق نقل الرجال، ولولا أن أحدنا وَقَفَ على ما نقله له العلماء والحكماء والفقهاء والثقات من الرواة لما أمكنه بحال من الأحوال أن يعرف الحق الذي يظن أنه هو الحق.


ثم إن هذا الحق إما أن تكون وقفتَ عليه لغيرك فعرفتَ أنه الحق، أو تكون عرفته من قبل نفسك، فإن كنت وقفت عليه لغيرك فقد جاءك الحق من الرجال، وإن كنتَ عرفته من قبل نفسك فلا يخلو إما أن تكون استنبطته من العقل أو من النقل، فإن كان من النقل فقد جاءك هذا النقل عن طريق الرجال، وإن كان من العقل فلا يخلو إما أن يوافقك عليه بعضُ العقلاء أو لا يوافقك عليه أحدٌ، فإن وافقك عليه بعضُ العقلاء فقد صار لقولك قوة بانضمام قول الرجال إلى قولك، فهذا اعتبار لقدر قول الرجال، وإن لم يوافقك عليه أحدٌ من العقلاء فقبيح بك أن تقول قولا لم تسبق إليه ولا يوافقك عليه أحد من عقلاء العالم.


والناس قسمان: عامة مقلدون و مجتهدون مستنبطون، ولا نزاع في أن القسم الأول أكثر من القسم الثاني، بل هو الكثرة الكاثرة والغالبية العظمى، وهؤلاء يكتفون بالتقليد في غالب أحوالهم، وأحسن أحوالهم الاتباع مع فهم الدليل، وفي الحالين إنما عرفوا الحق بالرجال.

والناس في اتباع الرجال أقسام: منهم من يأخذ بالمشهور من الأقوال، وإنما صار المشهور من الأقوال مشهورا بقول الرجال.

ومنهم من يأخذ بمذهب من المذاهب الأربعة، وإنما اشتهرت هذه المذاهب بشهرة رجالها، وبكثرة الرجال المتبعين لها، وبكثرة المصنفات فيها وفي أصولها وفروعها، وبكثرة من يتبعها ويلتزمها ويدافع عنها وينافح عنها.

ولهذا ذكر كثيرون أنه لا يصح اتباع غير هذه المذاهب الأربعة، وهذا القول إنما قاله من قاله لأنه يرى أن الحق إنما يعرف بالرجال.

بل ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الراجح في المسائل الفقهية لا يخرج عن المذاهب الأربعة إلا قليلا جدا.

بل صنف بعضهم المصنفات في وجوب اتباع المذاهب الأربعة وعدم الخروج عنها، وذكروا من الأدلة على ذلك ما لا يحصى، منهم ابن رجب الحنبلي.

وذهب بعضهم أبعد من ذلك، فصنفوا في وجوب اتباع أبي حنيفة فقط، أو مالك فقط، أو الشافعي فقط، أو أحمد فقط.

ففي أبي حنيفة قالوا: قد ثبتت الخيرية في الحديث للصحابة والتابعين وفي غيرهم خلاف، وأبو حنيفة هو الوحيد في الأربعة الذي يندرج في سلك التابعين.

وفي مالك قالوا: إمام أهل المدينة ولا يفتى ومالك في المدينة، وقد أخذ العلم عن أبناء الصحابة عن الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو أوثق وأقعد وأضبط، ولذا كان يحتج بعمل أهل المدينة كثيرا.

وفي الشافعي قالوا: أول من جمع بين علوم العقل والنقل ولغة العرب وأصول الفقه حتى كان الإمام أحمد رحمه الله يؤثر الحديث النازل على العالي لكي لا يفوت مجلس الشافعي.

وفي أحمد ذكر ابن رجب الحنبلي وغيره أنه لا يعرف غيره قد أحاط بالمنقول من أحوال الرسول وأصحابه، مع سعة علم بالأصول.

ولولا أن الحق يعرف بالرجال ما ذهب هؤلاء هذه المذاهب ولا قالوا هذه الأقوال.

والمصنفات في ترجيح مذهب على مذهب أو قول على قول لا تحصى.


ولهذا قال إسحاق بن راهويه: إذا اجتمع الثوري والأوزاعي ومالك على أمر فهو سنة.

فهذا معرفة للحق بالرجال، ولولا أن فلانا وفلانا من هؤلاء قد اشتهر علمه وذاع صيته وعرف قدره ما قال هذا القائل مثل هذا القول.


ولننظر في تفصيل العلوم الأساسية المتعلقة بالشرع كالفقه والحديث واللغة:

فعلم الحديث مبني على الأسانيد، وعلم الأسانيد نقل محض، ومعرفة ثقات الرواة من ضعفائهم إنما هو أيضا نقل عن اجتهاد هؤلاء الرجال، وليس لنا الآن أن نعرف القرائن والأحوال التي بنى عليها هؤلاء الرجال أحكامهم بأن فلانا ثقة أو فلانا ضعيف، وهذا في الأعم الأغلب، وإلا فقد نعلم بعض ذلك، ولكن كلامنا على أنه لا يشترط معرفة ذلك، وأكثر المتأخرين يكتفون بقولهم: وثقه أحمد وضعفه ابن معين، وهذا هو قول الرجال المحضُ، وإنما صار هذا هكذا لما عُرف عن هؤلاء من سعة العلم والحفظ والرواية والفهم والذكاء وسيلان الذهن، ولولا أن ذلك قد اشتهر وذاع لما كان لنا أن نقف عند التقليد المحض لمن هو غيرُ معروف.


وعلم اللغة مبني على نقل النقلة الثقات عن الأعراب والفصحاء، وهذا الأصمعي أو ابن الأعرابي أو الكسائي أو غيرهم ينقل لنا كلام العرب أو يذكر قاعدة أو استنباطا له فلا نعترض عليه ولا نقول له: سمِّ لنا من سمعتَ من العرب لنعرف أفصيحٌ هو أو لا، بل غالب اللغة إنما نقل هكذا عن هؤلاء الأعلام العلماء وأحيانا يذكرون: سمعتُ أعرابيا أو فلانا، ولا نعرف أن أحدا اشترط عليهم أن يبينوا مستندهم فيما يقولون، هذا فيما اتفقوا عليه أو انفردوا به، أما إذا اختلفوا فالأمر يختلف، إذ ليس قول أحدهم بأولى أن يقدم على قول الآخر.

والمقصود أن المسألة انصرفت إلى أن نوازن بين قول رجال ورجال، وليس أن يقال: اعرف الحق تعرف الرجال.


وإذا أتيت إلى النحو تجد الرجال لهم التأثير الكبير فيه في جميع الاتجاهات، وما أمر سيبويه منكم ببعيد، فكم منتصر له ومتعقب، والتأثر بعبقرية سيبويه النحوية كان له أثر كبير في ميل كثير من المتأخرين لمذهبه.


وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته فأقضي له بنحو ما أسمع...» فالنبي صلى الله عليه وسلم بين هنا أن ذا البيان الفصيح، أو ذا المنطق البليغ يمكنه أن يصوغ من الكلام جواهر ودررا بحيث يقتنع السامع بكلامه – وليس هو أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم – فيصور الحق باطلا والباطل حقا، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا»، ولولا أن البيان بهذه المنزلة ما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.

فعلم مما سبق أن الجماهير الغفيرة قد تتأثر بقول الباطل إذا صدر ممن له مقدرة بيانية عالية بحيث يجيد وضع الباطل في صورة الحق، أو وضع الحق في صورة الباطل.

وليس شرطا أن يكون ذلك عن تعمد، بل قد يكون مقتنعا بما يقول، ولكنه يطوع مقدرته البيانية والبرهانية في إثبات ما يراه صوابا أو إبطال ما يراه باطلا.

وقد ذكر ابن رشد وغيره أنواع الخطاب ومنها الخطاب الجدلي والخطاب البياني والخطاب البرهاني، وذكر أن العامة لا يؤثر فيهم إلا الخطاب البياني.


وهناك مسألة أخرى، وهي أن العالم أو الباحث قد يكون مقتنعا بشيء وصل إليه بعد سنوات من البحث، وبعد سنوات من البحث والاطلاع، ولكنه لا يستطيع أن يبوح به؛ لأنه يعلم أن ذلك قد يضعه في قائمة المخالفين أو الشواذ، وبذلك يهدر قوله كله فيما أصاب فيه أو أخطأ، ولذلك كان ابن عباس رضي الله عنهما يخفي بعض قوله على عهد عمر رضي الله عنه ثم أعلنه بعد وفاته، وكذلك غيره من الصحابة رضي الله عنهم.


بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى الحق في بعض الأمور ولكن يمنعه خشية أن يظن الناس به ظنا خاطئا، كقوله لعائشة: «لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة...» إلخ، وكقوله: «لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه».

فلا نكير على العالم إن سار هذا المسير، أو نهج هذا النهج.


وأنت تلاحظ أن كبار العلماء وفحول الرجال ينهجون هذا النهج فلا يفتون الفتوى إلا منضبطة بالضوابط الشرعية والضوابط الكلامية حتى لا يؤخذ الكلام على عواهنه ويفهم بالفهوم الباطلة ثم يسير كل مسار وينكر عليه كل منكر.


وأنت ترى الناس حاليا إذا استشهدت بقول العالم في مسألة يحتجون عليك بأنه أخطأ في المسألة الفلانية أو شذ في المسألة الفلانية، ولولا أن الحق معتبر عندهم بالرجال لما كان لما قالوه فائدة، إذ لو سلمنا أنه أخطأ في مسألة فليس شرطا أن يكون قد أخطأ في كل مسألة كما هو واضح.

ولكن المشكلة أن الخطأ إذا كان واضحا أو شاذا فإن ذلك يؤدي إلى أن يطرح الناس قوله كله، وهذا مخالف لهدي الصحابة رضي الله عنهم إذ قال أحدهم ((إياكم وزلة العالم... اجتنب من قول العالم الكلمة الشاذة التي يقال لها ما هذه)).


ولولا أن الرجال معتبرون في الحق وتأثيره على الناس ما قال النبي صلى الله عليه وسلم «أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان» وإنما كان ذلك كذلك لأن العالم إذا زل زل بزلته عالَم.


ولولا أن الحق معتبر بالرجال ما قال الناس أمثال هذه الجمل: هل أنت أعلم من فلان، هل فلان أعلم من فلان؟ وهذا إن اعترضنا عليه في أحيان فإنه لا يسعنا إلا أن نذعن له في كثير من الأحيان.


وكثير من الناس يطمئن قلبه للفتوى بمكانة من يفتون بها، فإن سمعت القائل يقول: أفتى بذلك ابن باز أو ابن عثيمين أو الألباني أو اللجنة الدائمة.. أو.. أو، فإن القلب يطمئن إلى هذا القول، ولذا صار بعضُ الكذبة يدعمون أقوالهم بنسبة فتاوى باطلة لأمثال هؤلاء الجبال.


وأما قول القائل من السلف: السنة معرفة الحق وإن كنتَ وحدك، فهو يعني – والله أعلم – ما بعد عصر السلف؛ لأن العبرة كما هو معلوم بأقوال السلف، فإن خالفها الخلف فالمرجع فهمُ السلف، ولولا أن قول الرجال معتبر ويعرف به الحق ما كان رجوعنا لفهم السلف – وهم رجال – فائدة.

غير أن معرفة الحق بالرجال مشروط بأن يكون لهؤلاء الرجال وصف زائد على وصف المخالَف، فالصحابةُ لا شك في قدرهم وتقديمهم على غيرهم، وأقوالهم أحب إلينا من أقوالنا لأنفسنا، ولولا أن أقوال الرجال لها قوة ما اختلف العلماء في حجية قول الصحابي.


وقد اختلفوا في حجية قول الجمهور، ولكن لا نزاع في التقوية به عند الخلاف، ولا جدال في قوة التأثير به عند الجدل البياني لا البرهاني.


وحجية الإجماع مشهورة عند علماء الأمة، وما الإجماع إلا أقوال الرجال، ولذلك ذهب بعضُ الشذاذ إلى عدم حجية الإجماع، وما كان ذلك منهم إلا غلوا في رفض أقوال الرجال، وذهبوا يتمحلون الأعذار في رد حجية الإجماع تارة بأنه لا يمكن ثبوته، وتارة بأنهم اختلفوا في تعريفه، وتارة في رد الدليل الدال على حجيته، وهذا الرد للدليل إما بالطعن في صحته، أو بالطعن في مدلوله.


وإذا نظرت إلى أي علم من العلوم، فلا تجد سبيلا إلى معرفة هذا العلم أو الاطلاع عليه إلا بالتلقي عن الشيوخ أو مطالعة الكتب، وكلاهما معرفة للحق بمعرفة الرجال، فالشيوخ رجال، والكتب إنما وضعها رجال، ولا ينفعك أن تقول: يكفيني كتاب الله، فالله عز وجل إنما أنزله ليبينه لنا أعظم رجل وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم {وأنزلنا عليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44]، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم إنما نقله لنا الرجال، وبينه لنا الرجال، ودلنا عليه الرجال، وإذا اختلفنا في فهمه فإنما نرجع عند الترجيح لفهم السلف من الرجال.


ولا يستطيع أي إنسان مهما كان حاليا أن ينكر الاستفادة من الكتب، ولا أظن أحدا على ظهر الأرض يستطيع أن يكتب أو يؤلف أو يخطب أو يفتي أو يناظر أو نحو ذلك إلا بالاستفادة من الكتب.

ولهذا كان للعلماء كلام طويل الذيل في أهمية الكتب وكثرة المطالعة، وإنما كرهها من كرهها لأنها تصد عن الحفظ؛ لا لذمها في ذاتها، والحفظ لا يغني عن الكتاب كما هو معلوم.


ولولا ما للكتب من تأثير على الحاضر والمستقبل ما كان لها هذه الشهرة العظيمة عند الناس.

ولولا ما للكتب من تأثير ما قام بعضهم بحرق كتب المخالفين أو بمصادرة بعض الكتب.

يقول ابن حزم:

فإن يحرقوا القرطاس لا يحرقوا الذي        تضمنه القرطاس بل هو في  صدري

ولهذا عظم النكير على من يتصرف في كتب أهل العلم بلا بيان.

______________________________________________________________
الكاتب: أبو مالك العوضي

  • 1
  • 0
  • 2,270

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً