قلم الإصلاح
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
قلم الإصلاح يجعل الله عز وجل فيه الخير والبركة, ولا يقتصر نفعه على عصره, بل يستمر نفعه لقرون, وها هي كتب علماء الإسلام التي سطرتها أقلامهم باقية
- التصنيفات: الدعاة ووسائل الدعوة -
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فقد أقسم الله سبحانه وتعالى بالقلم, فقال الله عز وجل: ( {ن والقلم وما يسطرون} ) وإقسامه عز وجل بالقلم دليل على أنه من عظيم آياته, قال العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: القلم وما يسطر به من أنواع الكلام من آياته العظيمة التي تستحق أن يقسم بها.
والقلم نعمة من الله جل جلاله على عباده, قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: قوله: ( { والقلم} ) الظاهر أنه جنس القلم الذي يكتب كقوله: ( {اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم} ) [العلق:3_5] فهو قسم منه تعالى وتنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم.
فالقلم من أكبر نعم الله وأجلها على العباد, فبه كُتِبَ القرآن الكريم ونُقِلَ إلينا, وبِه كُتبت السنة النبوية ونُقلت إلينا, وبِه كَتَبَ أهل العلم مصنفاتهم ونقلت إلينا, فالحمد والشكر لله عز وجل على نعمه الكثيرة ومنحة الجزيلة.
من علامات الساعة: ظهور القلم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( « إن بين يدي الساعة: تسليم الخاصة, وفُشو التجارة, حتى تعين المرأة زوجها على التجارة, وقطع الأرحام, وشهادة الزور, وكتمان شهادة الحق, وظهور القلم» .) [أخرجه الإمام أحمد, وصححه العلامة الألباني برقم (647) في السلسلة الصحيحة]
قال العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله: " ظهور القلم " يريد الكتابة. وكذا قال الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا الساعاتي رحمه الله, في كتابه: بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني.
لقد ظهر القلم في عصرنا وانتشرت الكتابة, وصار الكثير يكتبون في الصحف, والمجلات, والمواقع, وغيرها. وما يكتب فيها يكشف ما في القلوب, قال أحد السلف: الألسن مغارف القلوب يظهر فيها ما في القلوب, من الخير والشر
فإذا كان اللسان يكشف ما في القلب من خير وشر, فإن القلم كذلك يكشف ما في القلب من خير وشر, لأنه لسان ثاني للإنسان, ولكنه لسان صامت, يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: القلم بريد القلب, ورسوله, وترجمانُه, ولسانه الصامت.
ومن يكتب فقلمه: إما أن يكون داعية إلى طاعة الشيطان, وإما أن يكون داعية إلى طاعة الرحمن, فإن كان الأول فقلمه قلم فساد وإفساد, وإن كان الثاني فقلمه قلم صلاح وإصلاح.
وقلم الإصلاح من الجهاد في سبيل الله, فالجهاد مراتب: فهناك جهاد النفس, وجهاد الشيطان, وجهاد الأعداء.
وجهاد الأعداء يكون بوسائل متعددة, فمنها الجهاد بالنفس, والجهاد بالمال, والجهاد باللسان, فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( «جاهدوا المشركين بأموالكم, وأنفسكم, وألسنتكم» .) [أخرجه الترمذي, وصححه العلامة الألباني برقم: (3090) في صحيح الجامع]
والجهاد باللسان يكون: باللسان الناطق, ويكون باللسان الصامت, وهو القلم.
فقلم الإصلاح قلم جهاد في سبيل الله, هدفه: نشر الخير والفضائل في المجتمع, ابتغاء وجه الله تعالى والدار الآخرة.
وقلم الإصلاح قوامه ومادته: قال الله عز وجل, وقال رسوله علية الصلاة والسلام, وقال أهل العلم الربانيين.
قلم الإصلاح هدفه الإصلاح, قال الله عز وجل عن شعيب عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه: ( { إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله } ) [هود:88] فالمقصد: إصلاح حال الناس, مع اليقين التام أن ذلك لن يكون إلا بتوفيق الله وإعانته, لا بسيلان القلم وجودته.
قلم الإصلاح متى أخلص العبد فيه النية له أثره الكبير على قارئه, فكم سعد وانتفع بقلم الإصلاح من أناس, حيث كان سبباً لمعرفتهم للعقائد الصحيحة, وتركهم للبدع والاهواء, وهدايتهم لطريق الاستقامة, وتوبتهم من دروب التيه والضياع, وسلوكهم لدرب الأمان.
قلم الإصلاح صاحبه ليس مجرد آلةٍ يكتب بدون روح, أو مشاعر, بل هو قلب نابض, ومشاعر متدفقة, يكتب بحيوية, وبحماس, يكتب ليعالج ما يعانيه المجتمع من خلل في عقيدته, وفي عبادته, وفي أخلاقه, وفي سلوكه, وممن منً الله الكريم عليهم من فضله فكان قلمه سيالاً, وله جاذبية: العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى, قال العلامة بكر بن عبدالله أبو زيد رحمه الله: مؤلفاته...تتصف بعذوبة اللفظ, وقوة البيان, وتبسيط المعلومات بأسلوب سمح سهل خال من الجفاف والتعقيد, مما أكسب القراء جاذبية غربية لاقتناء كتبه وقراءتها. وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ابن القيم رحمه الله قلمُه سيَّال، ومن نعمة الله على العبد أن يكون قلمه سيَّالًا، ويكون كلامه منتظمًا ومتآلفًا"
قلم الإصلاح يجعل الله عز وجل فيه الخير والبركة, ولا يقتصر نفعه على عصره, بل يستمر نفعه لقرون, وها هي كتب علماء الإسلام التي سطرتها أقلامهم باقية بعد موتهم بمئات السنين, وتصلهم أجور ما كتبوا وهم في قبورهم.
قلم الإصلاح يعلم صاحبه أن طريقه لتحقيق أهدافه طويل, لأنه يبني, والبناء يحتاج إلى وقت, بخلاف نقيضه قلم الإفساد, فالغالب أن طريقه لتحقيق أهدافه قصير, لأنه يهدم, والهدم لا يحتاج إلى وقت طويل, فليصبر ممن يكتب بقلم الإصلاح, فسوف يكون لمداد قلمه, ولأنامل يده, الآثار الحسنة, والثمار الطيبة التي قد يشاهدها في حياته, وقد تكون بعد وفاته.
وكما أن هناك أقلام للإصلاح, فهناك أقلام للإفساد, زين لهم الشيطان أن ذلك هو عين الإصلاح, قال الله عز وجل: ( {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} ) [البقرة:11_12] فهم لأمراض قلوبهم لا يشعرون بإفسادهم لغيرهم بأقلاهم.
الأقلام التي تدعو إلى الفساد والإفساد: تزين العقائد الباطلة, وتحسن البدع المضللة, وتثير الشبهات المشككة, وتجمل الشهوات المحرمة, عبر مقالات, وأبحاث, وكتب, وقصص, وروايات, ودواوين شعر, في الصحف, والمجلات, والمواقع, والدوريات, ووسائل الاتصال, وغيرها, وهؤلاء يذكرون عسى الله الكريم أن يهديهم بالاتي:
أولا: يذكرون بقول الله سبحانه وتعالى: ( {فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} ) [البقرة:79] فــــــ " ويل " كلمة تهديد ووعيد. قال الإمام البغوي رحمه الله: قال الزجاج: " ويل " كلمة تقولها العرب لكل واقع في هلكة, وقال ابن عباس: شدة العذاب. وقال سعيد بن المسيب: " ويل " واد في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لأنماعت ولذابت من شدة حره.
فلتكن هذه الكلمة على بال من يكتبون الكتابات التي تدعو إلى الفساد والإفساد.
ثانياً: يذكرون بقول الله عز وجل: ( {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم} ) قال العلامة السعدي رحمه الله: أي: موجع للقلب والبدن,...فإذا كان هذا الوعيد لمجرد محبة أن تشيع الفاحشة, واستحلاء ذلك بالقلب, فكيف بما هو أعظم من ذلك من إظهاره ونقله ؟!!
وقال العلامة بكر بن عبدالله أبو زيد رحمه الله: " وهذا الوعيد الشديد ينطبق على دعاة تحرير المرأة في بلاد الإسلام من الحجاب, والتخلص من الأوامر الشرعية الضابطة لها في عفتها, وحشمتها وحيائها."
ثالثاً: يذكرون بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» [أخرجه مسلم] فكل إنسان ضلً بسبب كتاباتهم فعليهم وزر من آثامه.
رابعاً: يذكرون بأسلافهم ممن كانت أقلامهم حرباً على العقيدة الصحيحة, ودعوة لاعتناق البدع المضللة, وتزيناً للفاحشة, ومحاربةً للفضيلة, أين أكثرهم ؟ لقد ماتوا, ودفنت أجسادهم في القبور, والله عز وجل أعلم بحالهم فيها, فالقبر إما حفرة من حفر النيران, وإما جنة من الجنان. لقد غابت أجسادهم لكنت بقية كتاباتهم شاهدة على ما خطتهم أقلامهم من شرور وفساد, فمن أحب النجاة من العذاب والنيران فليسارع وليكسر قلم الفساد والإفساد, وليحوله إلى قلم صلاح وإصلاح.
أسأل الله الكريم أن يوقظ القلوب من غفلتها, وأن يوفق كل من أعطاه الله نعمة القلم السيال أن يكتب به ما يجعله من السعداء في الدنيا والآخرة.
وأخيراً فهنيئاً للمصلحين الذين سخروا أقلامهم للإصلاح, وبارك الله في جهودهم, وحفظهم من كل سوء ومكروه.
كتبه/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ