من علاج الهموم
الدنيا دارُ ابتلاءٍ وامتحان، ومن طبيعتها الهمومُ والغمومُ التي تصيبُ الإنسانَ بسبب الأمراض والشدائد والمصائب والمُنغِّصات، ولهذا كان مما تميَّزت به الجنةُ عن الدنيا أن الجنة ليس فيها همٌّ ولا غم
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته، ولنعلم أن الدنيا دارُ ابتلاءٍ وامتحان، ومن طبيعتها الهمومُ والغمومُ التي تصيبُ الإنسانَ بسبب الأمراض والشدائد والمصائب والمُنغِّصات، ولهذا كان مما تميَّزت به الجنةُ عن الدنيا أن الجنة ليس فيها همٌّ ولا غم؛ كما قال سبحانه: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48]، وأن أهلها لا تتكدرُ خواطرُهم ولا بكلمة: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [الواقعة: 25، 26]، وطبيعة الحياة الدنيا المعاناةُ والمقاساةُ التي يواجهها الإنسانُ في ظروفه المختلفة وأحواله المُتنوعة؛ كما قال عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]، فهو حزينٌ على ما مضى، مهمومٌ بما يُستقبَل مغمومٌ في الحال؛ لأن المكروهَ الواردَ على القلب إنْ كان من أمرٍ ماضٍ، أحدثَ الحُزْنَ وإن كان من مُستقبَلٍ أحدثَ الهمَّ، وإن كان من أمرٍ حاضرٍ أحدث الغَمَّ، وقد جعل اللهُ تعالى للهموم والغموم والأحزان علاجاتٍ وأدويةً ربانيةً، على المؤمن أن يأخذَ بها ويستفيدَ منها، ومن أهم علاجات الأحزان والهموم والغموم[1]:
1- التسلحُ بالإيمان المقرونِ بالعمل الصالح؛ كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وقال عليه الصلاة والسلام: «عجبًا لأمرِ المؤمنِ، إن أمرَه كلَّه خيرٌ، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمنِ، إن أصابته سراءُ شكرَ، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر، فكان خيرًا له» [2].
2- النظر إلى غُموم الدنيا وهُمومها على أنها للمسلم تُكَـفِّرُ ذُنوبَهُ وتُمحِّصُ قلبَه وترفعُ درجاتِه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يُصيبُ المُسلِمَ، مِن نَصَبٍ ولا وَصَبٍ، ولا هَمٍّ ولا حُزْنٍ ولا أذًى ولا غَمٍّ، حتى الشَّوْكَةِ يُشاكُها، إلا كَفَّرَ اللهُ بِها مِن خَطاياهُ» [3].
3- ومن علاج الهموم: معرفةُ حقيقة الدنيا وأنها فانية ومتاعَها قليل وما فيها من لذة فهي مُكدَّرة ولا تصفو لأحد، وهي كذلك نَصَبٌ وعناء، ولذلك يستريح المؤمن إذا فارقها كما جاء عن أبي قتادة رِبْعيِّ الأنصاري أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُرَّ عليه بجنازةٍ، فقال: «مُستريحٌ ومُستراحٌ منه»، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، مَن المستريحُ والمستراحُ منه؟ فقال: «العبدُ المؤمنُ يستريحُ مِن نصَبِ الدُّنيا وأذاها إلى رحمةِ اللهِ والمستراحُ منه العبدُ الفاجرُ، يستريحُ منه العبادُ والبلادُ والشَّجرُ والدَّوابُّ» [4].
4- ومن علاج الهموم: التأسي بالرُّسل والصالحين واتخاذُهم مثلًا وقدوةً: وهم أشدُّ الناس بلاءً في الدنيا والمرءُ يُبتلى على قدر دينه، والله إذا أحبَّ عبدًا ابتلاه، عن سعدٍ قال: قلتُ: يا رسولَ الله أيُّ النَّاس أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياءُ ثمَّ الأمثلُ فالأمثلُ، فيُبتلَى الرَّجلُ على حَسْبِ دينهِ فإنْ كان دينُهُ صَلبًا اشتدَّ بلاؤهُ، وإن كان في دينِهِ رِقَّةٌ ابتُليَ على حسْبِ دينهِ، فما يبرَحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يتركَهُ يمشي على الأرضِ وما عليه خطيئةٌ[5].
5- ومن أنفع علاج الهم والغم الصلاة، قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة 45]، عن حذيفةَ قالَ: كانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ إذا حزبَهُ أمرٌ صَلَّى[6]، وكذلك الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
6- ومن علاج الهموم التوكلُ على الله - عز وجل - وتفويضُ الأمر إليه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، فالمتوكل على الله قويُّ القلب بالله، يعلمُ أن اللهَ قد تكفَّلَ لمن توكَّلَ عليه بالكفاية التامة، ويثقُ بالله ويطمئنُ لِوَعْدِه فيزولَ - بأمر الله - همُّهُ وقلقُه ويتبدلَ عُسرُهُ يُسرًا وترَحُهُ مرَحًا وخوفُه أمنًا.
7- من علاج الهموم: أن يجعل العبدُ الآخرةَ همَّه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «مَن كانتِ الآخرةُ هَمَّهُ، جعل اللهُ غِنَاهُ في قلبِه وجَمَع له شَمْلَه، وأَتَتْه الدنيا وهي راغمةٌ، ومَن كانت الدنيا هَمَّه، جعل اللهُ فقرَه بين عَيْنَيْهِ، وفَرَّق عليه شَمْلَه، ولم يَأْتِهِ من الدنيا إلا ما قُدِّرَ له» [7].
8- ومن علاج الهموم أن يعلم المهمومُ والمغمومُ أنَّ بَعْدَ العُسر يُسرًا وأن بعد الضيق فَرَجًا[8]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس رضي الله عنهما: «واعْلمْ أنَّ النصرَ مع الصبر، وأنَّ الفرَج مع الكرب وأن مع العُسر يُسرًا» [9].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6].
فعباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته، ولنعلم أن من علاج الهموم: دُعاءُ اللهِ سبحانَه وتعالى[10] الذي بيده كُلُّ شيء، ومن الدعاء ما هو وقاية، ومنه ما هو علاج، فأما الوقاية فإن على المسلم أن يلجأ إلى الله تعالى ويدعوَه مُتضرِّعًا إليه بأن يعيذَه من الهُموم ويباعدَ بينه وبينها، كما كان يفعلُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِنَ الهمِّ والحَزَنِ، والعَجزِ والكسَلِ، والجُبنِ والبُخلِ، وضَلَعِ الدَّينِ، وغَلبةِ الرِّجالِ» [11]، وهذا الدعاء مفيدٌ بأمر الله لدفع الهم قبل وقوعه، ومن أنفع ما يكونُ في ملاحظة مستقبل الأمور استعمالُ هذا الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به، فعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهمَّ أَصلِحْ لي دِيني الذي هو عصمةُ أمري، وأَصلِحْ لي دنياي التي فيها معاشي، وأَصلِحْ لي آخرَتي التي فيها مَعادي، واجعلِ الحياةَ زيادةً لي في كل خيرٍ، واجعلِ الموتَ راحةً لي من كلِّ شرٍّ» [12].
فإذا وقع الهمُّ وألَمَّ بالمرء، فبابُ الدعاء مفتوحٌ غيرُ مُغلَق، والكريمُ عز وجل إن طُرِق بابُه وسُئِل، أُعطيَ وأجاب، يقول سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، ومن أعظم الأدعية في إذهاب الهمِّ والغمِّ، ذلك الدعاءُ العظيمُ المشهورُ الذي حثَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم كلَّ منْ سمِعَه أن يتعلَّمَه ويحفظَه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أصاب أحدًا قط همٌّ ولا حزنٌ، فقال: اللهمَّ إني عبدُك، وابنُ عبدِك، وابنُ أَمَتِك، ناصيتي بيدِك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤُك، أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سميتَ به نفسَك، أو علَّمتَه أحدًا من خلقِك، أو أنزلتَه في كتابِك، أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندَك، أن تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي، ونورَ صدري، وجلاءَ حزني، وذَهابَ همِّي، إلا أذهبَ اللهُ همَّهُ وحزنَه، وأبدلَه مكانَه فرجًا، قال: فقيل: يا رسولَ اللهِ ألا نتعلَّمُها؟ فقال: بلى، ينبغي لمن سمعَها أن يتعلَّمَها» [13].
وقد وردت في السنة النبوية أدعيةٌ أخرى بشأن الغم والهم والكرب ومنها: - أنَّ نبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقولُ عند الكربِ: "لا إله إلا الله العظيمُ الحليمُ، لا إله إلا الله ربُّ العرشِ العظيمُ، لا إله إلا اللهُ ربُّ السماواتِ وربُّ الأرضِ وربُّ العرشِ الكريمُ"[14]، وعن أنس رضي الله عنه قال: كانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ إذا كربَهُ أمرٌ قالَ: يا حيُّ يا قيُّومُ برَحمتِكَ أستغيثُ[15]، وعن أسماء بنت عميس قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أُعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب أو في الكرب؟! اللَّهُ اللَّهُ ربِّي لا أشرِك بهِ شيئًا» [16]، ومن الأدعية النافعة في هذا الباب أيضًا ما علَّمناه رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم بقوله: «دعواتُ المكروبِ: اللَّهمَّ رحمتَك أَرجو فلا تَكِلني إلى نَفسِي طرفةَ عينٍ، وأصلِح لي شَأني كلَّه لا إلَه إلَّا أنتَ» [17].
فاتقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على من بعثه الله رحمة للعالمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد.
[1] محمد بن حسن أبو عقيل، الحياة الطيبة، الطبعة الأولى، 1432هـ ص 247- 250.
[2] صحيح البخاري، الصفحة أو الرقم: 5641.
[3] - أخرجه البخاري (5640)، ومسلم (2572).
[4] صحيح ابن حبان الصفحة أو الرقم: 3012.
[5] صحيح الترمذي الصفحة أو الرقم: 2398، وقال الألباني: حسن صحيح.
[6] صحيح أبي داود الصفحة أو الرقم: 1319 وحسنه الألباني.
[7] صححه الألباني في صحيح الترمذي الصفحة أو الرقم: 2465.
[8] محمد بن حسن أبو عقيل، الحياة الطيبة، الطبعة الأولى، 1432هـ ص 247- 250.
[9] عبدالرحمن بن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا، تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخر، بيروت الطبعة: الأولى سنة الطبع: 1411هـ، الصفحة أو الرقم: 1/459.
[10] محمد بن حسن أبو عقيل، الحياة الطيبة، الطبعة الأولى، 1432هـ ص 247- 250.
[11] أخرجه البخاري (6369) واللفظ له، ومسلم (2706) بنحوه.
[12] أخرجه مسلم (2720)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصفحة أو الرقم: 1263.
[13] أخرجه أحمد (3712)، وابن حبان (972)، والطبراني (10/210) (10352) باختلاف يسير، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة الصفحة أو الرقم: 199،
https://www.dorar.net/h/9316c30101ba6ae219a2d0ad72dc31ec
[14] صحيح مسلم الصفحة أو الرقم: 2730.
[15] أخرجه الترمذي (3524) واللفظ له، وابن السني في عمل اليوم والليلة (337)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي الصفحة أو الرقم: 3524.
[16] صححه الألباني في صحيح أبي داود الصفحة أو الرقم: 1525.
[17] حسنه الألباني في صحيح أبي داود الصفحة أو الرقم: 5090.
____________________________________________________
الكاتب: محمد بن حسن أبو عقيل