(مجاهدة النفس)
المؤمنَ يحرِصُ كلَّ الحِرْصِ على مُجاهدة نفسِه وإلزامِها بالحق والهُدى؛ لأنَّ كثيرًا من النُّفوس البشريةِ أمَّارَةٌ بالسوء، مُتَّبِعَةٌ للهوى، مَيَّالةٌ إلى الراحةِ والكسَل، سَمَّاعَةٌ لوساوس الشيطانِ الذي يُوقِعُها في المعاصي والذنوب...
- التصنيفات: تزكية النفس - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -
المؤمنَ يحرِصُ كلَّ الحِرْصِ على مُجاهدة نفسِه وإلزامِها بالحق والهُدى؛ لأنَّ كثيرًا من النُّفوس البشريةِ أمَّارَةٌ بالسوء، مُتَّبِعَةٌ للهوى، مَيَّالةٌ إلى الراحةِ والكسَل، سَمَّاعَةٌ لوساوس الشيطانِ الذي يُوقِعُها في المعاصي والذنوب، ولنْ يَتمَّ علاجُ هذه الآفاتِ إلا بتوفيق الله تعالى للمسلم بأنْ يُجاهدَ نفسَه على الطاعة، ويَبتعدَ عن المعصية؛ قال القُرطبي في تفسير قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]: "قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانيُّ: لَيْسَ الْجِهَادُ فِي الْآيَةِ قِتَالَ الْكُفَّارِ فَقَطْ، بَلْ هُوَ نَصْرُ الدِّينِ وَالرَّدُّ عَلَى الْمُبْطِلِينَ وَقَمْعُ الظَّالِمِينَ، وَعِظَمُهُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمِنْهُ مُجَاهَدَةُ النُّفُوسِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ؛ وَهُوَ الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ؛ وَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِي طَاعَتِنَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَ ثَوَابِنَا"[1].
واعلموا عباد الله أنَّ مجاهدةَ النفسِ لها صُورٌ متعددةٌ، كلُّها تؤدي إلى طاعة الله عز وجل، وامتثالِ أوامرهِ واجتنابِ نواهيه؛ فمن ذلك: أنَّ على المسلم أن يُجاهدَ نفسَه على توحيد الله عز وجل، وعدمِ الإشراكِ به، فإنَّ الشركَ ظلمٌ عظيمٌ، وذنبٌ كبير: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]، والله سبحانه لا يَغْفرُ أنْ يُشرَكَ به، ويغفرُ ما دون ذلك لمن يشاء، فعلى المسلم أن يجاهدَ نفسَهُ على التوحيد، ويُبْعِدَها عن الشرك وأنواعِه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
ومن صُور مجاهدةِ النفس:
أنْ يُجاهدَها على أداء العباداتِ؛ كالصلاة والصيامِ والزكاةِ والحَجِّ، ونحوِ ذلك من أنواع العبادات، فهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُبينُ لنا أنَّ «من صلى البَرْدَيْن دخلَ الجنة» [2]، والبردانِ هما: صلاةُ الفَجْرِ وصلاةُ العصر؛ لوقوعِهما في وقتٍ باردٍ غالبًا، ومن المُجاهَدَة أيضًا مُجاهَدةُ النفسِ على الصيام لما فيه من ألِمِ الجوعِ والعَطَشِ، والصائمُ الذي يُجاهدُ نفسَه، ويمتنعُ عن المُفَطِّراتِ إيمانًا واحتسابًا، له أجرٌ عظيمٌ؛ قال صلى الله عليه وسلم: «ما مِن عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا في سَبيلِ اللهِ، إِلَّا بَاعَدَ اللَّهُ بذلكَ اليَومِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» [3]، ومن صور المُجاهدة: مُجاهَدةُ النفسِ على إخراجِ الزكاة، وبذلِ الصَّدَقَة؛ لأنَّ النفسَ من طبيعتها الشُّح: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]، ومُجاهدتُها على أداء الحَجِّ إنْ حَصَلتْ الاستطاعةُ، ومُجاهدتُها على الصبر على المشقة التي تحصلُ في المشاعر وفي السَّفَر.
أيها المسلمون، وإنَّ من صور مُجاهدةِ النفس:
أن يَسلُكَ بها صاحبُها أحْسنَ الأخلاقِ، وأفضلَ الآدابِ؛ بأنْ يُجاهدَها على الأخلاق الحَسَنةِ والآدابِ الفاضلة، فيُلزِمُ المسلمُ نفسَه بالتواضُعِ ولِيْنِ الجانبِ، والبُعدِ عن الكِبرِ والإعجابِ بالنفس، فالله تعالى لا يُحِبُّ كلَّ مُختالٍ فخور، والكِبرُ بَطَرُ الحقِّ وغَمْطُ الناس، وأن يعوِّدَ المسلمُ نفسَه على الحياء، فالحياءُ كُلُّه خير، وأنْ يُجاهدَ نفسَه على الحِلْم وترْكِ الغَضَب؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما شَيءٌ أثقلُ في ميزانِ المؤمِنِ يومَ القيامةِ مِن خُلُقٍ حسَنٍ، فإنَّ اللَّهَ تعالى ليُبغِضُ الفاحشَ البَذيءَ» [4]، وأنْ يتحلى بالصِّدق ويبتعدَ عن الكذب؛ قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ» [5].
♦ ومن ذلك مُجاهدتُها على تَرْك الحَسَد؛ قال صلى الله عليه وسلم: «دَبَّ إليكم داءُ الأُممِ قبلَكم: البَغْضاءُ والحَسَدُ، والبغضاءُ هي الحالقةُ، ليس حالقةَ الشَّعرِ، ولكنْ حالقة الدِّينِ، والذي نفسي بيدِه، لا تدخلون الجنَّةَ حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، ألا أُنَبِّئُكم بما يُثَبِّتُ لكم ذلك؟ أَفشوا السلامَ بينكم» [6].
عباد الله، وعلى المسلم أنْ يجاهدَ نفسَهُ فيما يتعلقُ بلسانه، فيبعدَها عن الغيبة والنميمة وقولِ الزور، وكُلِّ كلامٍ لا يفيدُ صاحبَه، وأنْ يحرِصَ على تزكية نفسِه وتطهيرِها من أدرانِ المعاصي.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر: 18].
فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ تعالى وطاعتِه، ولنعلمْ أنَّ من صُور مُجاهدةِ النفس أنْ يجاهدَ المسلمُ نفسَه على الإخلاص وحُسْنِ النيِّة؛ لأنَّ الإخلاصَ شرطٌ أساس لقبول العمل، فالعملُ لا يُقبَلُ عند الله عز وجل إلا بشرطين؛ هما: الإخلاصُ والموافقةُ؛ أي: أنْ يكونَ صاحبُه قد قصَدَ به وجهَ اللهِ عزَّ وجل، وأنْ يكونَ موافقًا لما شرَعَهُ اللهُ تعالى في كتابه، أو بيَّنهُ رسولُه صلى الله عليه وسلم في سُنته؛ ولذلك يقول الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمالُ بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى...» [7]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، فلنتقِ الله عباد الله، ولْنجاهدْ أنفسَنا على الإخلاص لله تعالى في أعمالنا وأقوالِنا، وعلى حُسنِ النية، حتى نفوزَ بالأجر العظيمِ والتوفيقِ في الدنيا والآخرة، وصلوا وسلموا على محمد بن عبدالله؛ كما أمركم الله في كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، وقال صلى الله عليه وسلم: «من صلَّى عليَّ صلاة، صلَّى اللهُ عليه بها عشرًا»، اللهم صَلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديِّين: أبي بكر وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنِّكِ وكرمِك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
[1] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 16/ 390- 391.
[2] صحيح البخاري، الصفحة أو الرقم: 574.
[3] صحيح مسلم، الصفحة أو الرقم: 1153.
[4] صحيح الترمذي، الصفحة أو الرقم: 2002.
[5] صحيح البخاري، الصفحة أو الرقم: 6094.
[6] صحيح الترغيب، الصفحة أو الرقم: 2695.
[7] أخرجه البخاري (54)، ومسلم (1907) باختلاف يسير.
________________________________________________________
الكاتب: محمد بن حسن أبو عقيل