(النصيحة)

فمن شعائر الإسلام العظيمة، ومن مقامات الدين العالية الرفيعة النصيحة

  • التصنيفات: الدعوة إلى الله -

الحمدُ لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

 

وبعد:

فمن شعائر الإسلام العظيمة، ومن مقامات الدين العالية الرفيعة النصيحة، قال تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20].

 

روى مسلم في صحيحه من حديث تميم الداري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«الدين النصيحة» قُلنا: لمن يا رسول الله؟ قال:«لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»[1].

 

قال النووي: هذا حديث عظيم الشأن وعليه مدار الإسلام، وأما ما قاله جماعات من العلماء: أنه أحد أرباع الإسلام – أي أحد الأحاديث الأربعة التي تجمع أمور الإسلام - ، فليس كما قالوه، بل المدار على هذا وحده[2].

 

قال ابن حجر: قوله: "الدين النصيحة" يحتمل أن يحمل على المبالغة، أي: معظم الدين النصيحة، كما قيل: "الحج عرفة"، ويحتمل أن يحمل على ظاهره؛ لأن كل عمل لم يرد به عامله الإخلاص، فليس من الدين.

 

فالنصيحة لله: هي وصفه بما هو له أهل، والخضوع له ظاهراً وباطناً، والرغبة في محابه بفعل طاعته، والرهبة من مساخطه بترك معصيته، والجهاد في رد العاصين إليه.

والنصيحة لكتاب الله: تعلمه، وتعليمه، وإقامة حروفه في التلاوة، وتحريرها في الكتابة، وتفهم معانيه، وحفظ حدوده، والعمل بما فيه، وذب تحريف المبطلين عنه.

والنصيحة لرسوله: تعظيمه ونصره حياً وميتاً، وإحياء سنته بتعلمها وتعليمها، والاقتداء به في أقواله وأفعاله ومحبته ومحبة أتباعه.

والنصيحة لأئمة المسلمين: إعانتهم على ما حملوا القيام به، وتنبيههم عند الغفلة، وسدّ خلتهم عند الهفوة، وجمع الكلمة عليهم، ورد القلوب النافرة إليهم، ومن أعظم نصيحتهم وقفهم عن الظلم بالتي هي أحسن، ومن جملة أئمة المسلمين أئمة الاجتهاد، وتقع النصيحة لهم ببث علومهم ونشر مناقبهم وتحسين الظن بهم.

والنصيحة لعامة المسلمين: الشفقة عليهم والسعي فيما يعود نفعه عليهم وتعليمهم ما ينفعهم، وكشف وجوه الأذى عنهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه[3].

 

والنصيحة على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: النصيحة للمسلمين عموماً وفيها أحاديث كثيرة؛ روى مسلم في صحيحه من حديث جرير بن عبدالله - رضي الله عنه - قال:"بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم"[4].

 

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«حق المسلم على المسلم ست» قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال:«إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه»[5].

 

القسم الثاني: النصيحة لولاة الأمر؛ روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«إن الله كره لكم ثلاثاً، ورضي لكم ثلاثاً، رضي لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن تنصحوا لولاة الأمر» الحديث[6].

 

وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولي الأمر، ولزوم الجماعة»[7].

 

وأما نصح الولاة لرعاياهم؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث معقل بن يسار - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«ما من عبد استرعاه الله رعية، فلم يحطها بنصحه، إلا لم يجد رائحة الجنة»[8].

 

وقد ذكر الله في كتابه عن الرسل السابقين أنهم كانوا ينصحون لأقوامهم، فذكر الله عن نبي الله نوح عليه السلام أنه قال لقومه: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ} [الأعراف: 62].

 

وقال تعالى عن نبي الله هود: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف: 68].

 

ونبينا محمد بن عبدالله إمام الناصحين بلغ الرسالة ونصح الأمة؛ فقد روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث تسع سنين لم يحج – وذكر صفة حجه – وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: «وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون» ؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت"[9].

 

وقد عذر الله من تخلف عن الجهاد لعذر إذا كان ناصحاً لله ورسوله، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 91].

 

وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سراً، حتى قال بعضهم: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه، والنصيحة سراً تشمل ولاة الأمر، والعلماء، وعامة الناس.

 

قال الشافعي رحمه الله:

تعمدني بنصحك في انفرادي   ***   وجنبني النصيحة في الجماعه 

فإن النصح بين الناس نـــوع   ***   من التوبيخ لا أرضى استماعـه 

وإن خالفتني وعصيت قولي   ***   فلا تجزع إذا لم تعط طاعـــــه 

 

ومن فوائد النصيحة:

أولاً: أنها من أعظم أسباب الثبات على الدين؛ لأن الذي ينصح يريد أن يطبق ما نصح به، ولا يخالف فعله قوله، قال تعالى عن نبي الله شعيب:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88].

 

ثانياً: دليل حب الآخرين وبغض الشر لهم، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» [10].

ثالثاً: صلاح المجتمع، إذ تشاع فيه الفضيلة وتستر فيه الرذيلة.

رابعاً: القضاء على كثير من المنكرات، فكم من منكر زال بسبب نصيحة صادقة.

خامساً: تنفيذ أمر الله ورسوله الذي هو غاية سعادة العبد وفلاحه في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 71].

 

سادساً: أنها من أعظم أسباب الهداية، فكم من كافر أسلم بسبب نصيحة! وكم من عاص مرتكب لكبائر الذنوب تاب أو استقام حاله بسبب نصيحة! روى مسلم في صحيحه من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي - رضي الله عنه -:" {فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً ، خير لك من أن يكون لك حمر النعم} "[11].

 

سابعاً: براءة الذمة، فقد تكون الذمة مشغولة، فإذا نصح العبد فقد أدى ما عليه، قال تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى: 48]، وقال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت: 18].

 

وذكر ابن حزم أمرين يتعلقان بالنصيحة:

الأول: النصيحة مرتبتان: الأولىفرض وديانة، والثانية: تنبيه وتذكير، فواجب على المرء ترداد النصح رضي المنصوح أو سخط، تأذى الناصح بذلك أو لم يتأذ.

الثاني: لا تنصح على شرط القبول منك، فإن تعديت هذه فأنت ظالم لا ناصح[12]؛ فقد جاء في صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«عرضت عليّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد»[13].

 

والحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 


[1] ص 54 برقم 55.

[2] شرح النووي على صحيح مسلم (1/37).

[3] فتح الباري (1/ 138).

[4] ص 35 برقم 57، وصحيح مسلم ص 54 برقم 56.

[5] ص 893 برقم 2162.

[6] ( 14/78- 79) برقم 8334؛ وأصله في صحيح مسلم دون قوله: "وأن تنصحوا لولاة الأمر" ص712 برقم 1715. وقال محققوه: إسناده على شرط مسلم.

[7] (27/301) برقم 16738، وقال محققوه: حديث صحيح لغيره.

[8] ص 1364 برقم 7150، وصحيح مسلم ص81 برقم 142.

[9] جزء من حديث ص 483- 485.

[10] ص 26 برقم 13، وصحيح مسلم ص 50 برقم 45.

[11] ص 980 برقم 2406.

[12] الأخلاق والسير ص 51- 52.

[13] ص117 برقم 220.

___________________________________________________________
الكاتب: د. أمين بن عبدالله الشقاوي