فلاح المؤمنين في طاعة رب العالمين

في كتاب الله سبحانه وتعالى سورةٌ سمَّاها اللهُ (سورةُ المؤمنون)، هذه السورةُ فيها أوصافُ للمؤمنين، وفيها كلامٌ عن ربوبية ربِّ العالمين، وفيها توضيحٌ عما لاقاه المؤمنون والمرسلون، والأنبياء والدعاة من أعداء الله، وفيها كلامٌ عن الجنة، وكلامٌ عن النار.

  • التصنيفات: الطريق إلى الله -

في كتاب الله سبحانه وتعالى سورةٌ سمَّاها اللهُ (سورةُ المؤمنون)، هذه السورةُ فيها أوصافُ للمؤمنين، وفيها كلامٌ عن ربوبية ربِّ العالمين، وفيها توضيحٌ عما لاقاه المؤمنون والمرسلون، والأنبياء والدعاة من أعداء الله، وفيها كلامٌ عن الجنة، وكلامٌ عن النار.

 

لكن نريد أن نتكلمَّ عن عشرِ آياتٍ من أولها، أو إحدى عشرةَ آية، الآيات التي وصفت المؤمنين وصفًا لو صادف أحدُنا هذا الوصفَ، وانطبقت عليه تلك الصفاتُ؛ أخذَ شهادةً من الله أنه مفلِحٌ، فقد قال الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}، ولا توجد سورةٌ اسمها (سورة المسلمون)، وإنما المؤمنون، فالمؤمن أخصُّ من المسلم، فالمؤمن مَن آمَن بالله وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدرِ خيره وشرِّه، حلوِّه ومُرِّه من الله عز وجل، المؤمن مؤمن، وأعلى منه المحسن.

 

بسم الله الرحمن الرحيم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1– 11].

 

في هذه الآياتِ تنويهٌ وتنبيهٌ من اللهِ ربِّ العالمين، بذكرِ عبادِه المؤمنين الفائزين، وذكرِ فلاحِهم وسعادتِهم، وبعضًا من أهمِّ صفاتهم، وبأيِّ شيْءٍ وصلوا إلى ذلك، وقد تضمَّن ذلك الذكرُ الحثَّ على الاتصافِ بصفاتهم، والاقتداءِ بفعالهم.

 

فليزنِ العبدُ المسلم نفسَه بذلك، ويزنْ غيرَه على هذه الآيات البينات، يعرفْ بذلك ما معَه وما معَ غيرِه من الإيمان؛ بالزيادة والنقصان، والكثرة والقِلّة، والضعف والقوة، فقوله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}؛ أي: قد أدركوا الفوزَ والفلاح، والسعادةَ والنجاح، وأدركوا كلّ ما يرجوه المؤمنون، الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسَلين، الذين من صفاتهم الكاملة؛ أنهم {فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}.

 

والخشوع في الصلاة: هو حضورُ القلب بين يدي ربِّه، مستحضرًا لقرْبِه، فيسكن لذلك قلبُه، وتطمئنُّ نفسُه، وتسكنُ حركاتُه، ويقِلُّ التفاتُه، متأدِّبًا بين يدي ربِّه، مستحضِرًا جميعَ ما يقولُه ويفعلُه في صلاته بقلبه، من أوَّلِها إلى آخرها، فتنتفي بذلك الوساوسُ الشيطانية، وتُطرد الأفكارُ الردِيَّة، وهذا روحُ الصلاة، والمقصودُ منها، وهو الذي يُكتَبُ للعبد أجرَها وثوابها، فالصلاةُ الخالية من الخشوع، والقلب اللاهي فلا حضورَ ولا خضوع، وإن كانت هذه الصلاةُ مجزئةً مثابًا عليها؛ فإن الثواب على حسبِ ما يعقل القلب منها.

 

قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ}   [المؤمنون: 57- 59].

 

ومن صفات المؤمنين المفلحين: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ}، واللغو هو الكلام الذي لا خيرَ فيه ولا فائدةَ، وهو القول الذي منفعة فيه، {مُعْرِضُونَ} مبتعدون رغبةً عنه، وتنزيهًا لأنفسِهم عن اللغو، وترفُّعًا عن اللهو، وإذا مرُّوا باللغو مرُّوا كرامًا.

 

وإذا كانوا معرضين عن اللغوِ، وهو الكلام الذي لا فائدة منه؛ فإعراضهم عن المحرَّم من بابٍ أولى وأحرى، وإذا مَلَك العبدُ لسانَه، وخزنه - إلا في الخير - كان مالِكًا لأمره؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين وصاه بوصايا، قال: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ» ؟!، قُلْتُ: (بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ)، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، قَالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا»، (ت) (2616)، (جة) (3973)، (حم) (22016).

 

فالمؤمنون من صفاتهم الحميدة، وأفعالهم المجيدة؛ كَفُّ ألسنتِهم عن اللغو، والخوضِ في المحرمات، ومن صفات المؤمنين الفائزين:

{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}؛ أي: مؤدُّون لزكاةِ أموالهم، على اختلافِ أجناسِ الأموال، فلا يبخلون على المحتاجين، بل يواسون إخوانهم الفقراءَ والمساكين، ويمدُّون يدَ العونِ لإخوانهم المشرَّدين اللاجئين؛ من الفلسطينيين والسوريين، وسائر المسلمين.

 

مزكِّين لأنفسِهم من أدناسِ البخلِ وسيءِ الأخلاق، ومساوئ الأعمال ومفاسد الأفعال، التي تزكو النفوسُ بتركها، وترتقي بتجَنُّبِها، فأحسَنوا في عبادة الله؛ في الخشوع في الصلاة، وأحسَنوا إلى خلقه؛ بأداء الزكاة.

 

قال جلَّ في علاه: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}، [المؤمنون: 60، 61]، هم كذلك يزكون ويتصدقون، ومع ذلك يخافون ألاّ يُقبلَ منهم ما قدّموه، فقلوبُهم خائفةٌ عند عرض هذه الأعمال على الله، أن تكون أعمالُهم غيرَ منْجيَةٍ من عذابِ الله، لعلمِهم بربِّهم، وما يستحقُّه من أصناف العبادات، ومن صفات المؤمنين الفائزين:

{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} يحفظونها عن الزنا، ومن تمام حفظِها تجنُّبُ ما يدعو إلى ذلك، كالنظرِ واللَّمْسِ، ونحوهما.

 

فحفظوا فروجَهم من كلّ أحد، {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}؛ من الإماء المملوكات، اللاتي كان الرجلُ يمتلكهنُّ بالسبي في الحروب، أو بعقد شرعي من سوق النخاسة، وهذا لا يوجد في زماننا، {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} بقربهما؛ لأنّ الله تعالى أحلَّهما، أمَّا من يعرض فرجَه، أو تعرضُ جسمَها وفرجَها للأصدقاء والصديقات، مباشرةً في الخلوات، أو بإرسال الصور عبر وسائل التباعِد الاجتماعي وسائر المنصَّات، فهل يفلحُ هؤلاء الرجال، وهل تفوز أولئك النسوان؟ وهل ينجون من عذاب الله والوقوع في النيران؟! إنهم ممن قال الله فيهم:

{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} غيرَ الزوجات والسُّرِّيَّات، ولم يحفظوها من النظرِ إليها ومسّها؛ {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}؛ الذين تعدّوا ما أحلّ الله إلى ما حرّمه، المتجرئون على محارم الله، ويَدخل في التعدِّي على حدودِ الله، تحريمُ نكاح المتعةِ وإن أحلَّه الملالي، فإنها أي التي تزوجها عن طريق المتعة، ليست زوجةً حقيقةً مقصودًا بقاؤها؛ بل لساعةٍ أو ليلةٍ أو ليالي، ولا هي أمةً مملوكةً بالحلالِ، وتحريمُ نكاح المحلِّل لذلك، فإنه يغضب الله الكبير المتعال سبحانه... ومن صفات المؤمنين المقربين:

{وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}؛ أي: مراعون لها، ضابطون حافظون، وعلى القيام بها وتنفيذِها حريصون، وهذا عامٌّ في جميع الأمانات التي هي حقٌّ لله من العبادات وغيرها، والتي هي حقٌ لـخلق الله ولـعباد الله، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ}، فجميع ما أوجبه الله على عبده أمانة، على العبد حفظها بالقيام التام بها، وكذلك يدخل في ذلك أماناتُ الآدميين، كأماناتِ الأموال والأسرار؛ الأسرار الخاصة بين صديقين، أسرارُ الأسرةِ، أسرارُ الأمَّةِ، أسرار الحكومة والدولة، كلَّ ذلك من الأمانات، ومن خانها فقد خان الأمانة، فعلى العبدِ مراعاةُ الأمرين، وأداء الأمانتين، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}.

 

 فقد ذكرنا من الصفات الجالبة للفلاح والفوز في الدارين، الخشوع في الصلاة، والإعراضُ عن اللغو وإيتاء الزكاة، وحفظ الفروج، وأداء الأمانات والعهود، وأخيرا وهي السادسة من الصفات، الحفاظ على الصلوات، بدأها بالصلاة الخاشعة، أنهى هذه الصفات بالصلاة المحافظة عليها، فقال سبحانه وتعالى ذاكرا صفات المؤمنين الناجين:

{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}؛ أي: يداومون عليها في أوقاتها، وحدودها وأشراطها وأركانها، فمدحَهم بالخشوع بالصلاة، وبالمحافظة عليها؛ لأنه لا يتمُّ أمرُ المؤمنين المفلحين إلا بالأمرين، فمن يداوم على الصلاة من غير خشوع، أو على الخشوع من دون محافظة عليها، فإنه مذموم ناقص.

 

ففي الحديث الصحيح: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، فَإِنْ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ، قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنَ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ"، رواه الترمذي والنسائي. (ت) (413)، (س) (465).

 

{أُولَئِكَ} الموصوفون بتلك الصفات؛ هم المفلحون، و{هم الْوَارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ}؛ الذي هو أعلى الجنة ووسطها، والوراثة هنا؛ أنَّ كلَّ إنسانٍ له مقعدان؛ سواء كان كافرًا أو مسلمًا، كل إنسان له مقعدان مقعد في الجنة، ومقعد في النار، فإذا دخل المؤمن الجنة ورث مقعد الكافر، وإذا دخل الكافر النار ورث المقعد الذي كان معدًّا لذاك المؤمن، هؤلاء هم الوارثون الذين يرثون الفردوس، والفردوس هنا قد يكون المقصود بها أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وأفضلها؛ لأنهم تجمَّلوا من صفاتٍ الخير أعلاها، وتسنَّموا ذِروتها، أو المراد بالفردوس؛ جميعُ الجنة؛ ليدخلَ بذلك عموم المؤمنين على درجاتهم ومراتبهم، كلٌّ بحسب حاله، {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، لا يظعنون عنها، ولا يسافرون ولا يرتحلون، ولا يوجد احتلال يطردهم منها أبدًا والله، فهم فيها خالدون، ولا يبغون عنها حِوَلًا ولا بديلًا؛ لاشتمالها على أكملِ النعيمِ وأفضلِه وأتَمِّه، من غير مكدِّرٍ ولا منغِّصٍ، قال سبحانه: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}  [المؤمنون: 111]؛ بتصرف من تفسير السعدي.

___________________________________________________________
الكاتنب: الشيخ فؤاد بن يوسف أبو سعيد