تأملات في الأسماء الحسنى - كتاب بدء الوحي

منذ 2022-03-08

الله الجليل يعرف نبيه صلى الله عليه وسلم به بأول اسم وأول وصف وأول فعل"الذي خلق" سبحانه كان ولم يك شيئا قط. أوجد كل شيء من العدم. تأمل واستشعر وجودك


باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

عندما نتأمل هنا في هذا الحديث الشريف أول ما عرّف الله سبحانه به نفسه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم نجده سبحانه يخاطبه قائلا "اقرأ باسم ربك الذي خلق" ولنعش هذا الشعور في مثل هذا الموقف المهيب الذي يشهد أول لقاء وأول خطاب وأول تعريف وأول أمر"اقرأ باسم ربك الذي خلق" النبي الكريم منعزل منفرد متبتل متعبد لم يتلق من قبل شيئا قط لم يحاور أمين الوحي بعد لم يدرك ماهية ما هو مقدم عليه ولا ما هو منوط به من أمر بعد.  تأتيه الرسالة الأولى والتوجيه الأول والوحي الأول والتعريف الأول
"اقرأ باسم ربك الذي خلق"
في قلب أجواء العزلة الاختيارية التي ألجأ النبي الكريم نفسه إليها متأملا متطلعا لفهم وبصيرة عن هذا الكون المحيط به الذي يفوق أن يكون هكذا محض خبط عشواء بلا موجد ولا مسبب.
يقينا يحمله معه في تلك العزلة لكن بلا أي شىء ملموس يدرك ماهيته وبلا منهج واضح يلتزمه. تتوق نفسه إلى الشعور الآمن الجلي وإلى المنهج الحق المبين فيأتيه التوضيح الأول والإرشاد الأول والأمر الأول
"اقرأ باسم ربك الذي خلق"
اقرأ وباسم ربك هو من علمك وخلقك
وقبل أن يخبرك عن نفسه بأنه الخالق لك أمرك بالأمر الضروري اللازم لحياتك أصلا وهو العلم "اقرأ" وباسم ربك -هذا سبيلك، هذا طريق نجاتك، هذا سلم ارتقاؤك، هذا مصعد علوك لمن له الخلق والأمر
ولنا هنا وقفتان إحداهما عن العلم والأخرى عن الخلق
بدأ سبحانه باللفظة الدالة على العلم "اقرأ" وباسم ربك-يريد أن يعرفك به وعليه ولكن يأمرك قبلها "اقرأ" فكأنه يخبرك أن لا وصول لمعرفته حق المعرفة والانقياد على أمره كما يرضى إلا بالعلم"اقرأ" وباسم ربك. وانظر إلى سورة الرحمن تلك السورة العظيمة التي يتعرف الله فيها إلى عباده بنعمه وآلائه التي ملأت أرجاء السموات والأرض كيف بدأها؟ بـ: الرحمن علم القرآن فقدمها حتى على الخلق كذلك ليخبرك أنها الغاية الحقيقية والبغية الأولى والمبتغى الأوحد لك في سيرك ومعادك إنها معرفته ومعرفة وحيه فلا تنشغل عن تلك الغاية بشيء يذكر على وجه تلك البسيطة "الرحمن علم القرآن" ثم بين لك أنك أيها الإنسان أنت المقصود بتعلم هذا الوحي "خلق الإنسان علمه البيان"—لا شيء يذكر قبل الوحي، لا شيء يتقدم على تعلم القرآن... لأنه ببساطة لا نجاة إلا بالاستمساك به.
قال أبوحيان الأندلسي رحمه الله (ولما عدد نعمه تعالى بدأ من نعمه بما هو أعلى رتبها وهو تعليم القرآن إذ هو عماد الدين ونجاة من استمسك به ولما ذكر تعليم القرآن ولم يذكر المعلم ذكره بعد في قوله "خلق الإنسان" ليعلم أنه المقصود بالتعليم)
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: (وبدأ الله تعالى بتعليم القرآن قبل خلق الإنسان إشارة إلى أن نعمة الله علينا بتعليم القرآن أشد وأبلغ من نعمته بخلق الإنسان وإلا من المعلوم أن خلق الإنسان سابق على تعليم القرآن لكن لما كان تعليم القرآن أعظم منة من الله عزوجل على العبد قدمه على خلقه"
أما وقفتنا الثانية فهي مع الخلق "اقرأ باسم ربك الذي خلق" الله الجليل يعرف نبيه صلى الله عليه وسلم به بأول اسم وأول وصف وأول فعل"الذي خلق" سبحانه كان ولم يك شيئا قط. أوجد كل شيء من العدم. تأمل واستشعر وجودك بكامل أعضائك ومنافذ حسك وقدراتك المودعة فيك خلقك ولم تك شيئا مذكورا. كم يقذف هذا التأمل من مهابة في القلب له سبحانه وتعظيم إله خالق أوجدك وأوجد الكون كله منذ آدم عليه السلام إلى أن يرث الأرض ومن عليها وانظر إلى الوحي الشريف ومكانة صفة الخلق منذ بدء الخليقة الأول "ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " هذه صورة لو ظل المرء يتأمل عظم ما فيها من تكريم وتشريف لذاب عبودية وذلا "يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله؟" يا الله لا تنسوا نعمته عليكم بالخلق والإيجاد من العدم فرسوخها يطمئنكم فهل من خلقكم سيتولى غيره رزقكم؟ حاشاه! وهل يقدر أحد؟ وهل يملك أحد لنفسه شيئا؟ كأن ترسيخ معنى الخلق وتثبيت معنى اسم الله الخالق واعتمال القلب بالعبودية التامة للخالق يثبتك ويصحح لك كل عبودية أخرى فالقلب الذي امتلأ باليقين أنه مخلوق وعرف خالقه الذي أوجده من العدم وأبدعه على غير مثال سابق وظلت هذه المعاني والعبوديات يقظة في قلبه دون طويل غفلة أو نسيان فكأنها تتحول إلى ركيزة قوية متينة تشع في جنبات روحه وعقله وقلبه باليقين في كل ما يأتي من هذا الخالق وفي الثقة بفضله ورزقه فلا يهاب غيره ولا يرجو سواه فهذه الركيزة الغالية هي جائزة التفكر والتعلم للوحي وتكراره على القلب ومنافذ الحس كلها
أما الجزء الثاني في تلك الرسالة الأولى والاتصال الأول بوحي السماء ففيه اسم ثان للجليل سبحانه ورد تحت نفس الغطاء التوجيهي العظيم الذي هو كما تأملنا الركيزة الأساسية في تجويد العيش والمعاد غطاء العلم الذي لا يصح أن ينفك أي توجه عن الاستظلال بظلاله الآمنة "اقرأ وربك الأكرم"
اقرأ وتعلم واعرف عنه فلن ينجيك إلا أن تعرفه فمتى عرفته استقمت كما أمرك فيكون حينها الفوز الذي لا فوز بعده
والأكرم كثير الكرم واسع الإحسان إلى خلقه
قال الخطابي رحمه الله (هو أكرم الأكرمين لا يوازيه كريم ولا يعادله فيه نظير والأكرم صفة تدل على المبالغة في الكرم إذ كرمه يزيد على كل كرم. ينعم بالنعم التي لا تحصى ويحلم على الجاني ويقبل التوبة ويتجاوز عن السيئة)  
[والأَكَرْمُ سُبْحَانَه هو الذِي لا يُوَازِيهِ كَرَمٌ، ولا يُعَادِلُه في كَرِمِه نَظِيرٌ، وَقَدَ يَكُونُ الأَكْرمُ بمَعْنَى الكَرِيمِ، لَكِنَّ الفَرْقَ بَيْنَ الكَرِيمِ والأكْرَمِ أَنَّ الكَرِيمَ دَلَّ عَلَى الصِّفَةِ الذَّاتِيَّةِ والفِعْلِيَّةِ مَعًا؛ كَدِلَالِتِه عَلَى مَعَانِي الحَسَبِ والعَظَمَةِ والسَّعَةِ والعِزَّةِ والعُلْوِّ والرِّفْعَةِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وأَيْضًا دَلَّ عَلَى صِفَاتِ الفِعْلِ؛ فهو الذِي يَصْفَحُ عَنِ الذُّنُوبِ، ولَا يَمُنُّ إذا أَعْطَى فَيُكَدِّرُ العَطِيَّةَ بِالمَنِّ، وهو الذِي تَعَدَّدَتْ نِعَمُه عَلَى عِبَادِهِ بِحَيْثُ لا تُحْصَى، وهَذَا كَمَالٌ وجَمَالٌ في الكَرَمِ، أَمَّا الأَكْرَمُ فهو المنْفَرِدُ بِكُلِّ ما سَبَقَ في أنواعِ الكَرَمِ الذَّاتِي والفِعْلِي؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَكْرَمُ الأكْرَمِينَ، لَهُ العُلُوُّ المطْلَقُ عَلَى خَلْقِهِ فيِ عَظَمَةِ الوَصْفِ وَحُسْنِهِ، ومِنْ ثَمَّ لَهُ جَلَالُ الشَّأْنِ في كَرِمِهِ، وهو جَمَالُ الكَمَالِ وكَمَالِ الجَمَال فاللهُ عَزَّ وَجَلَّ لا كَرَمَ يَسْمُو إلى كَرَمِهِ، ولا إنْعَامَ يَرْقَى إلى إِنْعَامِهِ، ولا عَطَاءَ يُوَازِي عَطَاءَه، لَهُ عُلُوُّ الشَّأْنِ في كَرَمِهِ، يُعْطِي مَا يَشَاءُ لمَنْ يَشَاءُ كيفَ يَشَاءُ بِسُؤَالٍ وغَيْرِ سُؤالٍ، وهو يَعْفُو عنِ الذُّنُوبِ، ويَسْتُرُ العُيُوبَ، ويُجَازِي المؤْمِنِينَ بِفَضْلِهِ، ويُمْهِلُ المعْرِضِينَ ويُحَاسِبُهم بِعَدْلِهِ، فَمَا أَكْرَمَهُ، ومَا أَرْحَمَهُ، ومَا أعْظَمَهُ]
يا الله بحر زاخرمن المعاني تضئ بأنوار هذا الاسم المبارك الذي عرّف الله عز وجل به نفسه بعد اسم الخالق يخبرك أنه خلقك وأوجدك من العدم وأمدك في خلقك بكل ما ييسر سبل عيشك وسواء معيشتك هذا الخالق الذي خلقك وخلق كل موجود محسن إليك مع كامل غناه عنك لا يرجو من وراء الإحسان إليك قط شيئا بل هو محض الرحمة والمنة والكرم الذي لا حد له ولا شبيه له ولا نظير ولا مثيل.
تغرق في بحر نعمائه فلا يمن عليك، تغترف من آلائه صباح مساء ولا ينتظر منك شيء، تذنب ويحلم عليك، تئوب فيقبلك، تستغفر فيتجاوز عنك، تهم بالخير ولا تفعله فيثبته لك . أي كرم هذا يستحيل أن ينفك العبد عنه أو عن ذرة من مظاهره المحيطة به في كل لحظة من عمره إلى أن يلقاه
اعرفه ..اعرف الخالق اعرف الأكرم تأمل تجلياته تعبد بعبودياته اشكر مظاهر إنعامه امتن لتفاصيل عطاءاته أغرق قلبك بحبه وأحسن اللجئ إليه وادعه وأيقن بإجابته فهو الخالق لك الأكرم الغني عنك ألهج لسانك بذكره وشكره وتأدب معه واستح منه فما عودك إلا الجميل.

مروة الشربيني

مروة محمد عطالله الشربيني

حاصلة على إجازة في قراءة القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم.

  • 4
  • 0
  • 1,524
المقال السابق
مقدمة
 

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً