عندما تهفو الرخويات إلى زرع عمود فقري

منذ 2022-03-08

يتجرؤون متهمين نصوصا من الكتاب والسنة، وطُرفا من سيرة سيد الخلق، يهجم عليك الإحساس بالغثيان، وأنت ترى الأسافل الأصاغر من الذين نقسم بالله يقينا أن البعض منهم لا يستطيع أن يفك سطرا واحدا من لغة الضاد ضبطا وشكلا

محمد بوقنطار
زعموا في كذب صراخ أنّهم يدافعون عن الإسلام، مخافة أن تتشوّه صورته في الوعي الغربي، كما ادعوا دفاعهم المتقدم عن نبي الإسلام رجاء أن لا تتلطخ صورته وتُتهم سيرته في الوجدان المعرفي للآخر، جراء ما رواه الصحابي الجليل أبو هريرة، وما جمعه الإمام البخاري، وإنما هي رخويات متهافتة تستصرخ بعمود فقري يسند انتهاضها، فكما يحصل الخفض في الإعراب بالمجاورة، قد يحصل الرفع في الإغراب بحسن الجوار...
والحقيقة أنك وأنت تُطالع فصول هذه المرافعة، وأدبيات هذه المدافعة، عبر تفاصيل ما تخطه أيديهم وما تشهد به ألسنتهم، وكيف تطور الحال من سيء إلى أسوء، فصاروا يتجرؤون متهمين نصوصا من الكتاب والسنة، وطُرفا من سيرة سيد الخلق، يهجم عليك الإحساس بالغثيان، وأنت ترى الأسافل الأصاغر من الذين نقسم بالله يقينا أن البعض منهم لا يستطيع أن يفك سطرا واحدا من لغة الضاد ضبطا وشكلا ناهيك عن منطوق المعنى ومفهوم النص في أدبيات الأصوليين، وتجدهم  وهذه حالهم يناقشون ويخوضون مع الخائضين في العلم والمعرفة بكل إسفاف ورطانة، إنها والله لغاية المهزلة أن يصير من لب الثقافة وعنوان المعرفة وعمدتها التشكيك في الثوابت، والتطاول على المقدس، واقتحام عقبة أصول الدين كما فروعه، فلا كتاب يُوقر ولا سنة تُحترم ولا مقام نبوة يُصان، فالكل قابل للتشريح على مائدة الشك الديكارتي الجرداء، إنه تحجير للعلم في منهاج الريب والشك وخرص الظنون وإثمها، وبث هذا الركام النجس العين النكد المعنى بين صفوف شباب سادر حائر تتخاطف وجدانه كلاليب الشبه، وتُشوى أفئدته الحنيذة في تنور الشهوات، وتتلاطم جسده المتهالكة أمواج الاستغراب، وهو الذي وُلد وشبّ وترعرع في بيئة محلية تطبع فصول الحياة في دروبها الانهزامية، وتنعت أمته صدقا وحقا وعصفا ووصفا بالأمة المريضة المتهالكة، شباب واقع تحت سطوة الانبهار من ما وصل إليه الغرب من تقدم مادي كبير، وتفوق عسكري رادع، وثقافة يسيل لها لعاب جيل القنطرة من الأجيال المحلية المستنسخة.
حسنا دعنا هاهنا نحلّل استراتيجية عمل المتدثرين بوزرة الدفاع والترافع زعموا من أجل الحفاظ على سمعة الموروث الديني، وصونه من لوثة رجال الدين التقليديين وتفاسيرهم الشاذة المتطرفة، وهم من هم؟ أصحاب العقلانية المُتبنون للطرح الحداثي والرؤيا المعاصرة التنويرية في هذا الباب والخصوص، ولنقف مع أول استدراك يمكن للمهتم المتتبع لركزهم هذا الوقوف على ملحظ الشقاق والنفاق فيه، ذلك أن المعقول والمنطق كلاهما يسجلان على هذا العقل الحداثي التنويري إشكالية مهادنته في صمت مريب، وكفِّه في مساكنة غريبة، ومناقضة عجيبة لئيمة للعديد من الانحرافات والخرافات التي تسلّلت وتسوّرت محاريب العقيدة والسلوك التعبدي للمسلمين، إذ كيف يُتصوّر للعقلاني المتنوِّر أن يسكت وأن يقعد مذموما مدحورا، ملوما محسورا، يهادن الدجل والشعوذة، ويتبرك بالقبورية ويسالم الوثنية، التي علا شأنها واستأسد سدنتها وشيوخها.
يا للعجب كيف لهذا العاقل الرافل في بهرجة التنوير والحداثة أن يسكت عن كل هذه الحيدة السلوكية والعقدية، بل أن يصمت عنها صمت من في القبور، أليس في هذا الصمت معرّة لهذا العقل التنويري الحداثي؟ بله إنه لإخلال سافر وصريح بواجبات هذا العقل التنويري وكذا بلوازم ومستلزمات مزاعم الحداثة، ثم ما تلبث أن تجد هذا العقل الصامت هنا قد طفق أصحابه في عربدة لا راحة فيها ولا استراحة لأهلها في مواجهة إسلام الوحي، والطعن في أصوله وفروعه، ورمي رجاله وعلمائه من سلف وخلف بكل تهمة ثقيلة وبهتان عظيم، إن العزاء في تجلية هذه الإشكالية وفهم فصولها هو الاعتقاد في صيغتها ونسختها أنها أدوار تمرر عبر أطوار، وأنها اختصاصات موكولة إلى هذه الطغمة المترفة، فهي إذا دائبة السير في ريب مترددة، تحتسب هنا لتكتسب هنالك، ثم تحسب أنها تحسن صُنعا.
إنني لا أكاد أشك في أن أكثر خصوم الإسلام دغلا وتلبيسا هم هؤلاء الكسور المحلية، التي غادرت مجاهيل اختصاصاتها لتخوض في شبه وعموميات مشروخة الاستعمال، تبغي زعزعة اليقين لدى الناشئة، وحصد زرع الإسلام وشطأه ليسقط ويهوي قبل أن يستوي على سوقه، وليكون فريسة للمتهارشين، وقصعة متسناة للجوعى من ذوي الإرادات البشرية المريضة، كما تبغي هذه الكسور اتخاذ مواقع ومكاسب وتحصيل حاصل من الظهور والشهرة والتمكين الذي لم تحرزه في مجالات تخصصها، وتلك سيرة الرائمين التبوّل في بئر زمزم على دوام الحال، يبتغون الرفعة ولو بالاعتداء على حرمته، إنهم لا يزالون يقدمون بين يدي وظيفة بعث التشكيك والنفخ في رماد الفتنة، كلما أو متى ما حُوصِروا فحصل لهم خوف من فضح أو فزع من افتضاح لأعين الجماهير المسلمة المنخدعة من ظواهر خطابهم، يقدمون الأيمان المغلظة بأنهم لا يريدون إلا خيرا وإصلاحا، فهم الموقنون بالله ورسوله على الحق والصدق وتلك سيرة سلفهم الطالح وقد فضحه السياق القرآني في تجرد بديع إذ قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: "يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه" كما قرر الإفساد كذلك في زعمهم الإصلاح وهم المفسدون فقال جلّ جلاله: "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون، ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون".
إن مِما يأسر المرء في هذا المقام، هو الوقوف على حقيقة أن غالب أو كلَّ ما يلوكه هؤلاء، وتجتره حناجرهم وأقلامهم المتمردة، إنّما هو نسخة طبق الأصل من ذلك الرصيد الآثم المفلس الذي خلّفته لهم المدارس الباطنية، وتركه لهم معشر المستشرقين ومن حذا حذوهم واستن بسنتهم، وإنّما هو تنقيب بين تركة خردة ملؤها المتلاشيات والمهملات، وإنّما هو نفخ في رماد بارد قد فقد سخونته وحركته، بعدما صُب على صفوات كانونه الأول وابل من الطهارة فأزال نجاسته و تركه صلدا لا يقدر ولم يقدر أهله على شيء مما كسبوا، بل ذهب ريحهم وبقي وعمّر الإسلام العظيم طويلا من بعد ركزهم شامخا عزيزا، له السطوة على القلوب، والقبول عند المنصفين من الناس، عجمهم قبل عربهم، وعلمائهم قبل عوامّهم...
ولذلك خبِّرني في تحدٍّ ومباهلة عن ملمح الجديد الذي أتى به هؤلاء المتأخرون ولم يكن لشره وشناره سلف ومثيل وأصل قديم، فكلّها شبهات يُعاد تكرارها واجترارها وتحيين عدْواها على بدء متكرر كلما أوجد التاريخ لها العقول المضروبة والأفئدة المريضة، ليبقى الأمل قائما على رجاء أعرج، كفيف، أصم، يأمل أصحابه من ذوي الإعاقة الفكرية النيل من قلعة الإسلام، وتهشيم النموذج الإسلامي، وكسر فرادته في العقيدة والفقه والسلوك والتاريخ، حتى يخبو الحماس الاحتسابي في جوف المسلمين، فتنقطع صلة العباد بربهم لتصير إلى نقطة الصفر، وليحل محله الفتور والوهن في دندنة الإقبال على رب الأرباب ودين الإسلام وشِرعة ذوي الألباب.
وإنّما ساغ لنا الاتهام واستقام تحت طائلة تشريح عبارات خوضهم، والتفرس في سلوكيات خطابهم وحقيقة مذهبهم، والنظر في الأفق تحديدا لما استقر عليه مؤشر بوصلة وجهة حركتهم وصوبهم الهالك، كما قال الإمام ابن القيم في مدارجه: "والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، وما يدعو إليه ويناظر عليه"
ولذلك كان هذا هو ضابطنا الذي نحسب أن له اعتباره في مقام الإنكار أو التأثيم، مع ما بينهما من فروق وقد عُلم أنه لا تلازم بينهما (الإنكار والتأثيم)، مع بقاء إمكانية توقيعهما معا وَفْق ما يقرره أهل العلم مفرقين في هذا بين الأعيان والأحوال، وبين الجنس والنوع، فليس الرأي المطوي كالرأي المروي، وليس الذي يُسِرُّ باطله ويكتم أنفاسه في دواخله، كالمتكلم الناشر المتجاسر المتجرئ على حدود الله أينما حلّ وارتحل، فهذا وجب الإنكار عليه بالجنان والقلم واللسان، بل وتوبيخه والتغليظ عليه في ذلك علنا تنبيها للناس، وتحذيرا لهم من عدوانه، ونزقه الفكري الهالك، ذلك أن الدروشة التي انطبعت بها مدافعة المترافعين اليوم عن الإسلام تحت طائلة فيض السماحة ونبض الوسطية، ليس هذا محلها ولا كان من الحكمة التزمل بدثارها اليوم وقد عُلم موقعنا في لجة الوهن والضعف وذهاب ريحنا ومدى هواننا على الناس، وليس في هذا أدنى تشدد ولا صغير مخالفة، فهذا موسى عليه السلام وقد أمره الله وأخاه بقوله سبحانه: "فقولا له قولا ليّنا" وقد حمل لنا القرآن الكريم مشهدا من الحزم الذي اتسم به اللقاء الدعوي بين موسى وفرعون في بعض محطاته فقال جلّ جلاله ناقلا طرفا من هذا الحوار:"وإني لأظنك يا فرعون مثبورا"، بل قد جاءت الشهادة الربانية في إبراهيم الخليل بقوله تعالى:"إن إبراهيم لأوّاه حليم" ولم يكن قادحا في هذه الشهادة ولا معيبا لمنزلتها قوله لأبيه: "إني أراك وقومك في ضلال مبين"، وقد قال الله تعالى مخبرا عن سيرة سيّد الخلق صلى الله عليه وسلم: "فبما رحمة من الله لنت لهم" ثم ما لبث القرآن العظيم أن نقل لنا الأمر المناسب لسياقه ومقامه فقال الله تعالى آمرا نبيّه: "جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم"، بل هذا الرحمة المهداة يتمعر وجهه غضبا ممن أفتى بغير علم ولا حكمة فتجده قد قال عليه الصلاة والسلام: "قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟
والأمثلة في هذا الخصوص كثيرة، وكلّها تذهب مذهب تحرير الفرق بين مهمة الدعوة والتبليغ والبيان، ومهمة الإنكار والتأثيم، إذ بين الأمرين ما بينهما من الفروق المرعية على مستوى التوقيع صفة وأسلوبا وهيئة، كما تمايزت المواقف في المواجهة  بين من يشهر سيف التمرد الفكري والبغي الاعتقادي فيجرده من غِمد الإغراب ناشرا داعيا مستقطبا لباطله، وبين من أسرّ باطله وكفى الناس مؤنة رد شرِّه وعدوانه، وهذا منا أضعف الإيمان.

 

محمد بوقنطار

محمد بوقنطار من مواليد مدينة سلا سنة 1971 خريج كلية الحقوق للموسم الدراسي 96 ـ97 الآن مشرف على قسم اللغة العربية بمجموعة مدارس خصوصية تسمى الأقصى.

  • 3
  • 0
  • 837

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً