إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ

منذ 2022-03-10

وفيه دلالة على أن إخفاء الصدقات مطلقاً أولى, وأنها حق الفقير, وأنه يجوز لرب المال أن يفرقها بنفسه, على ما هو أحد قولي الشافعي.

الحمد لله حمدا يرضيه، والصلاة والسلام على من اجتمعت المحاسن فيه، أما بعد

يقول تعالى في سورة البقرة:

{إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ{271} لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ{272} لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ{273} الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ{274} } [البقرة]

{إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} أي نعم الشيء هي، وهذا مع الآداب الأخرى كالسلامة من الرياء والمن والأذى وتحري الخبيث {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء} عطف إيتاء الفقراء على الإخفاء المجعول شرطا للخيرية في الآية -مع العلم بأن الصدقة للفقراء- يؤذن بأن الخيرية لإخفاء حال الفقير وعدم إظهار اليد العليا عليه، أي فهو إيماء إلى العلة وأنها الإبقاء على ماء وجه الفقير، وهو القول الفصل لانتفاء شائبة الرياء.

{فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ} وقد جعل -صلى الله عليه وسلم- من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله (رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه)، يعني من شدة القرب بين اليمين والشمال، لأن حساب الدراهم ومناولة الأشياء بتعاونهما، فلو كانت الشمال من ذوات العلم لما اطلعت على ما أنفقته اليمين.

وفيه دلالة على أن إخفاء الصدقات مطلقاً أولى, وأنها حق الفقير, وأنه يجوز لرب المال أن يفرقها بنفسه, على ما هو أحد قولي الشافعي.

وعلى القول الآخر, ذكروا أن المراد بالصدقات هاهنا, هو التطوع بعد الفرض الذي إظهاره أولى, لئلا تلحقه تهمة, ولأجل ذلك قيل: صلاة النفل فرادى أفضل, والجماعة في الفرض أولى, لأن إظهار الفرض أبعد عن التهمة.

قال ابن عباس -رضي الله عنهما- صدقات السر في التطوّع تفضل علانيتها بسبعين ضعفاً، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً.

وقال الزجاج: كان إخفاء الزكاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن، فأما اليوم فالناس مسيئون الظن فإظهارها أفضل.

وقال ابن العربي: ليس في تفضيل صدقة السرّ على العلانية، ولا صدقة العلانية على صدقة السر، حديث صحيح.

وظاهر الآية: أن إخفاء الصدقات على الإطلاق أفضل، سواء كانت فرضاً أو نفلاً، وإنما كان ذلك أفضل لبعد المتصدّق فيها عن الرياء والمنّ والأذى، ولو لم يُعلم الفقير بنفسه، وأخفى عنه الصدقة أن يُعرف، كان أحسن وأجمل بخلوص النية في ذلك.

قال بعض الحكماء: إذا اصطنعت المعروف فاستره، وإذا اصطنع إليك فانشره.

وقال العباس بن عبد المطلب: لا يتم المعروف إلاَّ بثلاث خصال: تعجيله، وتصغيره في نفسك، وستره. فإذا عجلته هنيته، وإذا صغرته عظمته، وإذا سترته أتممته.

{ {وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} } وفي الحديث: ( «تصدقوا ولو بتمرة، فإنها تسد من الجائع، وتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار» ) [صحيح الجامع:2951]

{ {وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} } ختم الله بهذه الصفة لأنها تدل على العلم بما لطف من الأشياء وخفي، فناسب ختمها بالصفة المتعلقة بما خفي.

وإخباره إيانا بذلك يستلزم أن نخشى من خبرته عز وجل فلا يفقدنا حيث أمرنا، ولا يرانا حيث نهانا.

{ {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} } خلق الهدى في قلوبهم، وفي ذلك تسلية له -صلى الله عليه وسلم-، ولينبه على أنهم وإن لم يكونوا مهتدين، تجوز الصدقة عليهم. وقيل: ليس عليك أن تلجئهم إلى الهدى بواسطة أن تقف صدقتك على إيمانهم {وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} وهذا كالاستدراك لما سبق؛ أي لمّا نفى كون هدايتهم على الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين أن ذلك إلى الله عز وجل وحده؛ فيهدي من يشاء ممن اقتضت حكمته هدايته.

 { {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ} } تأكيد على أن أعمال الإنسان لا تنصرف إلى غيره، لكن ليس في الآية دليل على منع أن يتصدق الإنسان بعمله على غيره؛ ولكنها تبين أن ما عمله الإنسان فهو حق له؛ ولهذا جاءت السنة صريحة بجواز الصدقة عن الميت، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري في قصة الرجل الذي قال: «يا رسول الله، إن أمي أفتلتت نفسها وأُراها لو تكلمت تصدقت أفأتصدق عنها؟ قال: نعم تصدق عنها»

{ {فَلأنفُسِكُمْ} } حكي عن بعض أهل العلم أنه كان يصنع كثيراً من المعروف، ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيراً قط، فقيل له في ذلك، فقال: "إنما فعلت مع نفسي"، ويتلو هذه الآية.

{ {وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ} } وما تنفقون النفقة المعتد لكم قبولها إلاَّ ما كان إنفاقه لابتغاء وجه الله.

{ {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} } أي: تعطَونه وافياً من غير نقص؛ بل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.

فقطع عذرهم في عدم الإنفاق، إذ الذي ينفقونه هو لهم حيث يكونون محتاجين إليه، فيوفون كاملاً موفراً، فينبغي أن يكون إنفاقهم على أحسن الوجوه وأفضلها. 

وظاهر سياق الآية, تعلق الكلام بما تقدم من قوله: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي}, فدل المساق والمتقدم, على أن المراد به الصدقة عليهم, وإن لم يكونوا على دين الإسلام... والمراد بالكفار الذين يختلطون بالمسلمين غير مؤذنين لهم وهم أهل العهد وأهل الذمة والجيران.

قال يزيد بن أبي حبيب: نزلت في الصدقة على اليهود والنصارى.

ونظير ذلك قوله تعالى: { {وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلىَ حُبِّهِ مِسْكِيناً, وَيَتِيماً وَأَسِيراً} } [الإنسان:8] والأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا.

ونظيره قوله: { {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الّذيِنَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ في الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ} } [الممتحنة:8]

وظواهر هذه الآيات تقتضي جواز صرف الصدقات إليهم جملة, إلا أن النبي عليه السلام, خص من ذلك الزكوات المفروضة. فاتفق العلماء أن زكوات الأموال, لا تصرف إليهم, لقوله -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ: (خذ الصدقة من أغنيائهم وردها في فقرائهم)

وحكمة ذلك أنها إنما فرضت لإقامة أود المسلمين ومواساتهم، فهي مال الجامعة الإسلامية يؤخذ بمقادير معينة، ففيه غنى للمسلمين، بخلاف ما يعطيه المرء عن طيب نفس لأجل الرأفة والشفقة.

ورأى أبو حنيفة, أن غير زكاة المال يجوز صرفها إليهم, مثل صدقة الفطر, نظراً إلى عموم الآية, في البر وإطعام الطعام وإطلاق الصدقات.

ورأى الشافعي ومعه الجمهور أن الصدقات الواجبة بجملتها مخصوصة منها, لقوله عليه السلام في صدقة الفطر: (اغنوهم عن الطلب في هذا اليوم). وظاهر أن ذلك كان لتشاغلهم بالعيد وصلاة العيد, وهذا لا يتحقق في المشركين.

{ {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} } عيقوا عن أعمالهم لأجل سبيل الله وهو الهجرة أو الجهاد أو أشباهه { {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ} } عاجزون عن التجارة لقلة ذات اليد أو سائر العمل لعاهة أو قلة حيلة

{ {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ} } أي الجاهل بحالهم، وفيه التنبيه على أنه ينبغي للإنسان أن يكون فطناً ذا حزم، ودقة نظر؛ لأن الله وصف هذا الذي لا يعلم عن حال هؤلاء بأنه جاهل؛ فينبغي للإنسان أن يكون ذا فطنة، وحزم، ونظر في الأمور

{ {أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ} } تكلف العفاف، وهو النزاهة عما يليق. أي بسبب تعففهم عن السؤال، وإظهار المسكنة؛ فإذا رأيتهم ظننتهم أغنياء مع أنهم فقراء

روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «(لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ بِهِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ)»

وفي البخاري أيضا: باب الاستعفاف عن المسألة، أخرج فيه حديث «عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ.»

{ {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} } أي بعلامة الحاجة: رثاثة أثوابهم، وصفرة وجوههم، والسيما هي العلامة التي لا يطلع عليها إلا ذوو الفراسة؛ وكم من إنسان سليم القلب ليس عنده فراسة، ولا بُعد نظر يخدع بأدنى سبب؛ وكم من إنسان عنده قوة فراسة، وحزم، ونظر في العواقب يحميه الله سبحانه وتعالى بفراسته عن أشياء كثيرة. كما قال الله عز وجل: { {ولتعرفنهم في لحن القول} } [محمد: 30] .

 { {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} } إن وقع منهم سؤال، فإنما يكون بتلطف وتستر لا بإلحاح، ومن خصائص الإسلام في هذا الباب أنه كما أدب الأغنياء في طريقة الإنفاق فقد أدب الفقراء في طريقة الأخذ، ففيه تعريض بالملحفين في السؤال.

وقد كان من جملة ما بايع النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض أصحابه [منهم ثوبان]: ألا يسألوا الناس شيئاً؛ حتى إن الرجل ليسقط سوطه من على بعيره، فينزل، فيأخذه ولا يقول لأخيه: أعطني إياه؛ كل هذا بعداً عن سؤال الناس.

{ {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} } أعيد التحريض على الإنفاق فذكر مرة رابعة { {فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} } كناية عن الجزاء عليه لأن العلم يكنى به عن أثره كثيرا، أي فهو لا يضيع أجره إذ لا يمنعه منه مانع بعد كونه عليما به، لأنه قدير عليه.

وقد حصل بمجموع هذه المرات الأربع من التحريض ما أفاد شدة فضل الإنفاق بأنه نفع للمنفق، وصلة بينه وبين ربه، ونوال الجزاء من الله، وأنه ثابت له في علم الله.

 { {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً} } جملة مستأنفة تفيد تعميم أحوال فضائل الإنفاق بعد أن خصص الكلام بالإنفاق.. فهم يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير، وتقديم الليل على النهار، والسر على العلانية يدل على تلك أفضلية صدقة السر.

{ {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} } وهذا بشارة للمنفقين بطيب العيش في الدنيا فلا يخافون اعتداء المعتدين لأن الله أكسبهم محبة الناس إياهم، ولا تحل بهم المصائب المحزنة إلا ما لا يسلم منه أحد مما هو معتاد في إبانه.

وفيه أيضا أن الإنفاق يكون سبباً لشرح الصدر، وطرد الهم والغم.

أما انتفاء الخوف والحزن عنهم في الآخرة فقد علم من قوله: { {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} }.

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 2
  • 0
  • 2,121

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً