هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كله؟

منذ 2022-03-19

اتفق العلماء على استحباب الصيام في شهر شعبان؛ لفِعل النبي - صلى الله عليه وسلم.

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما بعد:

هل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم شعبان كله، أو كان يصوم أكثره؟

 

 

نقول بعون الله:

اتفق العلماء على استحباب الصيام في شهر شعبان؛ لفِعل النبي - صلى الله عليه وسلم.

 

 

واختلفوا: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كله أو أغلبه، على أقوال:

وسبب الخلاف في هذه المسألة: هو تعارُض النصوص الناقلة لفِعل النبي صلى الله عليه وسلم في صومه لشعبان، بين مُثْبِتٍ لصومه كله ونافٍ لذلك.

 

فمن الأحاديث الدالة على نفْي صومه لشعبان كله:

أ -عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ)) [1]، وفي رواية لمسلم: (( كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ صَامَ، قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَفْطَرَ، قَدْ أَفْطَرَ، قَالَتْ: وَمَا رَأَيْتُهُ صَامَ شَهْرًا كَامِلًا، مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَمَضَانَ )) [2].

 

ب -عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: (( كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، وَكَانَ إِذَا نَامَ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ مَرِضَ، صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً))، قَالَتْ: ((وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ، وَمَا صَامَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا إِلَّا رَمَضَانَ )) [3].

 

وغيرها من الروايات.

فهذه أحاديث فيها نفْي لصوم النبي - صلى الله عليه وسلم - لشهر شعبان كاملًا.

 

وهناك روايات فيها التصريح بصوم النبي - صلى الله عليه وسلم_ لشهر شعبان كاملًا، ومنها:

أ -عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، حَدَّثَتْهُ قَالَتْ:((لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ )) [4].

 

ب -عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ أَنَّ عَائِشَةَ، قَالَتْ: (( إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ )) [5].

 

ج - عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ الْغَازِ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ:(( كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَصِلَهُ بِرَمَضَانَ )) [6].

 

فهذه أحاديث فيها إثبات لصوم النبي صلى الله عليه وسلم لشهر شعبان كاملًا.

وبسبب هذا التعارض في نقل فِعل النبي صلى الله عليه وسلم في صومه لشعبان، اختلفت أنظار العلماء ومسالكهم في الجمع والتوفيق بين هذه الأحاديث.

 

فمنهم مَن سلك مسلك الترجيح [7]، ومنهم مَن سلك مسلك الجمع، وإليك بيان ذلك باختصار:

القول الأول:

أن النبي - صلى الله عليه وسلم_ كان يصوم أغلب شعبان، ولم يصُمْه كله، وما صام شهرًا كاملًا إلا رمضان.

 

وهذا مذهب ابن المبارك وغيره [8]، وهو قول الجمهور، وعليه أكثر شُراح الحديث [9].

 

واستدلوا على ذلك بأدلة:

الدليل الأول:

أحاديث فيها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يصوم شهرًا كاملًا سوى رمضان.

 

ومن ذلك:

أ- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ )) [10].

 

وفي رواية لمسلم: (( قَالَتْ: وَمَا رَأَيْتُهُ صَامَ شَهْرًا كَامِلًا، مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَمَضَانَ )) [11].

 

ب- عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: (( كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، وَكَانَ إِذَا نَامَ مِنَ اللَّيْلِ، أَوْ مَرِضَ، صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً )) قَالَتْ :(( وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ، وَمَا صَامَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا إِلَّا رَمَضَانَ )) [12].

 

ج- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ شَهْرًا مَعْلُومًا سِوَى رَمَضَانَ؟ قَالَتْ:(( وَاللهِ، إِنْ صَامَ شَهْرًا مَعْلُومًا سِوَى رَمَضَانَ، حَتَّى مَضَى لِوَجْهِهِ، وَلَا أَفْطَرَهُ حَتَّى يُصِيبَ مِنْهُ )) [13].

 

د- عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: (( مَا صَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا كَامِلًا قَطُّ غَيْرَ رَمَضَانَ )) [14].

 

وغير ذلك من الروايات في كتب السنن والمسانيد.

 

 

وجه الاستدلال من هذه الأحاديث:

هذا نفْي لرؤيته قد استكمل صيام شعبان[15]، لا سيما وأنَّ أكثر الروايات وردت عن زوجه عائشة رضي الله عنها وهي قريبة من النبي صلى الله عليه وسلم وأدرى بشؤونه وأحواله.

 

الدليل الثاني:

أحاديث فيها التصريح أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم_ كان يصوم شعبان إلا قليلًا منه.

 

ومن ذلك:

أ- عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا )) [16].

 

ب- عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ:سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَوْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: (( كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ:قَدْ أَفْطَرَ، وَلَمْ أَرَهُ صَامَ مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ: كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا )) [17].

 

الدليل الثالث:

أن ابن عباس رضي الله عنهما كان ينهى عن صيام الشهر كاملًا.

عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: (( كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَنْهَى عَنْ صِيَامِ الشَّهْرِ كَامِلًا، وَيَقُولُ: لِيَصُمْهُ إِلَّا أَيَّامًا....)) [18].

 

 

وجه الاستدلال:

لو كان ثابتًا عن النبي صيام شهر شعبان كاملًا، لما كان ترجمان القرآن الإمام ابن عباس رضي الله عنهما ينهى عما كان يفعله النبي [19] صلى الله عليه وسلم.

 

وقد أجاب أصحاب هذا القول الجمهور عن الروايات التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم (( كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ ))، بأجوبة:

الجواب الأول:

أن المقصود بقول عائشة رضي الله عنها: (( كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ ))، قالوا: المراد به أكثره، وهذا جائز في لغة العرب: أن يُقال لمن صام أكثر الشهر، أنه صامه كله.

 

قال الإمام الترمذي:

(( وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ المُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الحَدِيثِ: هُوَ جَائِزٌ فِي كَلَامِ العَرَبِ إِذَا صَامَ أَكْثَرَ الشَّهْرِ أَنْ يُقَالَ: صَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ، وَيُقَالُ: قَامَ فُلَانٌ لَيْلَهُ أَجْمَعَ، وَلَعَلَّهُ تَعَشَّى وَاشْتَغَلَ بِبَعْضِ أَمْرِهِ، كَأَنَّ ابْنَ المُبَارَكِ قَدْ رَأَى كِلَا الحَدِيثَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ، يَقُولُ: إِنَّمَا مَعْنَى هَذَا الحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ أَكْثَرَ الشَّهْرِ )) [20].

 

الجواب الثاني:

قالوا:المراد بكله (أكثره، وأغلبه).

ووجه ذلك:أن اللفظ الثاني: (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا )) جاء مُفَسِّرًا للفظ الأول:(( كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ )).

فالمراد بكله: "غالبه وأكثره" كما فسرته الرواية الأخرى [21].

 

الجواب الثالث:

قالوا:المراد ب "كله" (أكثره، وأغلبه).

 

ووجه ذلك:

بأن هذا من المجاز، والمراد بالكل: الأكثر، وهو مجاز قليل الاستعمال[22]؛ إذ المراد بذلك المبالغة [23].

 

القول الثاني:

أنه في بعض الأحيان كان يصوم شعبان كله، وفي بعضها يصوم أغلبه[24].

والمقصود: أن هذا كان باختلاف الأوقات: ففي بعض السنين صام النبي صلى الله عليه وسلم شعبان كاملًا، وفي بعضها صامه النبي صلى الله عليه وسلم أكثره.

 

وهذا اختيار جماعة من شُراح الحديث، منهم:

الطيبي [25]، وبدر الدين العيني [26]، وعلي القاري [27]، وهو ظاهر قول بعض الحنابلة [28]، وظاهر صنيع جماعة من الحنابلة [29]ورجحه بعض المعاصرين [30].

 

 

واستدلوا على ذلك بأدلة:

استدلوا على أنه كان يصوم أكثره في بعض الأحيان - وهو الأغلب - بنفس الأدلة التي استدل بها الجمهور، والتي سبق ذِكْر بعضها.

 

 

واستدلوا على أنه كان يصوم شعبان كله في بعض الأحيان:

بروايات فيها التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان كله، ومنها:

أ- عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، حَدَّثَتْهُ قَالَتْ: ((لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ )) [31].

 

ب- عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ أَنَّ عَائِشَةَ، قَالَتْ: (( إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ)) [32].

 

ج- عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ الْغَازِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: (( كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَصِلَهُ بِرَمَضَانَ )) [33].

 

د- عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ )) [34].

 

هـ- عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(( أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنَ السَّنَةِ شَهْرًا تَامًّا يُعْلَمُ إِلَّا شَعْبَانَ، يَصِلُ بِهِ رَمَضَانَ )) [35].

 

و- عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: (( مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إِلَّا شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ )) [36].

 

قال الإمام بدر الدين العيني:

(( قَالُوا: معنى: كُله، أَكْثَره، فَيكون مجَازًا. قلت: فِيهِ نظر من وُجُوه: الأول: أَن هَذَا الْمجَاز قَلِيل الِاسْتِعْمَال جدًّا، وَالثَّانِي: أَن لَفْظَة: كل، تَأْكِيد لإِرَادَة الشُّمُول، وَتَفْسِيره بِالْبَعْضِ منَاف لَهُ، وَالثَّالِث: أَن فِيهِ كلمة الإضراب، وَهِي تنَافِي أَن يكون المُرَاد الْأَكْثَر، إِذْ لَا يبْقى فِيهِ حِينَئِذٍ فَائِدَة، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال فِيهِ: إِنَّه بِاعْتِبَار عَاميْنِ فَأكْثر، فَكَانَ يَصُومهُ كُله فِي بعض السنين، وَكَانَ يَصُوم أَكْثَره فِي بعض السنين )) [37].

 

قال الملَّا علي القاري:

((قَالَ النَّوَوِيُّ: الثَّانِي تَفْسِيرٌ لِلْأَوَّلِ، وَبَيَانُ قَوْلِهَا كُلَّهُ أَيْ غَالِبَهُ؛ اهـ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ، حَمَلَهُ عَلَيْهِ قَوْلُهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى: "قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ"، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يَصُومَهُ كُلَّهُ فِي سَنَةٍ وَأَكْثَرَهُ فِي سَنَةٍ أُخْرَى فَالْمَعْنَى عَلَى الْعَطْفِ؛ اهـ، وَهُوَ أَقْرَبُ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ))[38].

 

 

القول الثالث:

أنه كان يصوم تارة من أوله، وتارة من وسطه، وتارة من آخره، ولا يخلي منه شيئًا بلا صيام.

وبهذا قال بعض العلماء [39].

 

 

واستدلوا على ذلك:

بأدلة الفريقين السابق ذِكرها، والتي فيها النفي والإثبات في صوم شعبان كله أو أغلبه.

وحملوا روايات:((كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ))، على أنه تارة يصوم من أوله، وتارة من وسطه، وتارة من آخره، ولا يترك منه شيئًا بلا صيام.

 

 

الترجيح:

الراجح في نظري والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمنى ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان، وأسأل الله أن يوفقني إلى مراده: هو أنه صلى الله عليه وسلم كان في بعض الأحيان يصوم شعبان كله، وفي أغلب الأحيان كان يصوم أكثر شعبان.

 

 

برهان ذلك:

ما سبق ذِكره من الأدلة، ويؤيده:

أولًا:

الروايات التي جمعت بين صومه لشعبان إلا قليلًا، وصومه كله، ومنها:

عن عائشة قالت: (( مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ: كَانَ يَصُومُهُ إِلَّا قَلِيلًا، بَلْ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ )) [40].

 

وعنها: (( وَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ فِي شَهْرٍ مَا يَصُومُ فِي شَعْبَانَ: كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ إِلَّا قَلِيلًا، بَلْ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ )) [41].

 

فهذه روايات فيها التصريح بصومه لأغلب شعبان، وبصومه كله، ولو كان المقصود صوم أغلب شعبان فقط، لما ذكرَتْ كله، لاسيما وأنها ذكرت صومه لأغلبه.

 

 

ثانيًا:

أن هذا القول فيه جمعٌ بين كل الأدلةوالروايات الثابتة، وإعمال الدليلين أَولى من إهمال أحدهما.

والله أعلم.

وبالله التوفيق.

 


[1] رواه البخاري (1969)، ومسلم (1156).

[2] رواه مسلم (1156).

[3] رواه مسلم (647).

[4] رواه البخاري (1970).

[5] صحيح: رواه النسائي (2356).

[6] صحيح: رواه ابن ماجة (1649).

[7] وهو جمعٌ في صورة ترجيحٍ؛ لأنهم قدَّموا الروايات التي فيها إثبات صيامه لشهر شعبان إلا قليلًا منه، وحملوا روايات صيامه لشعبان كاملًا على أغلبه وأكثره -فهو جمعٌ مبنيٌ على ترجيح روايات على الأخرى_.

[8] ــ انظر سنن الترمذي (2/ 107) حديث رقم: (737) طـ (دار الغرب الإسلامي) بيروت، لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف (صـ 247) طـ (دار ابن كثير) دمشق - بيروت.

[9] المنتقى شرح الموطأ، لأبي الوليد الباجي (3/ 85) حديث رقم: (625)، طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان، شرح النووي على صحيح مسلم (4/ 295) حديث رقم: (1156) طـ (دار أبي حيَّان) القاهرة، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، سلطان محمد القاري (4/ 465) حديث رقم: (2036) طـ (دار الكتب العلمية)، فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر (5/ 271) حديث رقم: (1970) طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان، صحيح مسلم بشرح الآبي والسنوسي (4/ 106) طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان، الديباج في شرح مسلم بن الحجاج، السيوطي (2/ 486) طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان، شرح الزرقاني على موطأ مالك (2/ 261) حديث رقم: (695) طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان.

[10] رواه البخاري (1969)، ومسلم (1156).

[11] رواه مسلم (1156).

[12] رواه مسلم (647).

[13] رواه مسلم (1156).

[14] رواه البخاري (1971)، ومسلم (1157).

[15] المنتقى شرح الموطأ، لأبي الوليد الباجي (3/ 85) حديث رقم: (625)، طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان.

[16] صحيح: رواه النسائي (2355).

[17] صحيح: رواه ابن ماجه (1710).

[18] رواه عبد الرزاق في المصنف (7855).

[19] المقصود النهي عن صيام الشهر كاملًا على العموم؛ لأن الأثر ليس خاصًا بشهر شعبان؛ ولكنه عام، ويدخل في أفراده شهر شعبان.

[20] انظر سنن الترمذي (2/ 107) حديث رقم: (737) طـ (دار الغرب الإسلامي) بيروت.

[21] المجموع بشرح المهذب، النووي (6/ 439) طـ (دار إحياء التراث العربي) ت: المطيعي، النجم الوهاج في شح المنهاج، الدُميري (2/ 543) طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان، فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر (5/ 271) حديث رقم: (1970) طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان، المنهاج القويم شرح المقدمة الحضرمية، الهيتمي (صـ264) طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (3/ 243) طـ (دار الفكر) بيروت - لبنان، مغني المحتاج إلى معرفة معاني الفاظ المنهاج، الشربيني (1/ 657) طـ (دار المعرفة) بيروت - لبنان، حاشية الشرواني على تحفة المحتاج (3/ 508) طـ (دار الفكر) بيروت - لبنان.

[22] التوضيح لشرح الجامع الصحيح، ابن الملقن، طـ (وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية) قطر (13/ 442) فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر (5/ 271) حديث رقم: (1970) طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان، شرح الزرقاني على موطأ مالك (2/ 261) حديث رقم: (695) طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان.

[23] أوجز المسالك على موطأ مالك، الكاندهولي (5/ 221) حديث رقم: (769) طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان.

[24] المجموع بشرح المهذب، النووي (6/ 439) طـ (دار إحياء التراث العربي) ت: المطيعي، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، سلطان محمد القاري (4/ 465) حديث رقم: (2036) طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان، فتح الإله في شرح المشكاة، الهيتمي (7/ 4) حديث رقم: (2036) طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان.

[25] الكاشف عن حقائق السنن (شرح المشكاة)، الطيبي(4/ 211) حديث رقم:(2037) طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان، أوجز المسالك على موطأ مالك، الكاندهولي (5/ 221) حديث رقم: (769) طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان.

[26] عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بدر الدين العيني (11/ 118) طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان.

[27] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، سلطان محمد القاري (4/ 465) حديث رقم:(2036) طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان.

[28] المبدع شرح المقنع، ابن مفلح (2/ 459) طـ (دار عالم الكتب) الرياض، الفروع، ابن مفلح (3/ 99) طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان.

[29] منهم: ابن أبي موسى في "الإرشاد" ، وابن الجوزي، والآجري، فقد استحبوا صوم شعبان كله، انظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، المرداوي (1/ 547) طـ (بيت الأفكار الدولية)، كشاف القناع عن متن الإقناع، البهوتي (2/ 414) طـ (دار إحياء التراث العربي) بيروت - لبنان.

[30] رجحه الشيخ ابن باز.

[31] رواه البخاري (1970).

[32] صحيح: رواه النسائي (2356).

[33] صحيح: رواه ابن ماجه (1649).

[34] صحيح: رواه أحمد (26517)، والنسائي (2353).

[35] رواه أحمد (26653).

[36] صحيح: رواه الترمذي (736).

[37] عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بدر الدين العيني (11/ 118) طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان.

[38] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، سلطان محمد القاري (4/ 465) حديث رقم:(2036) طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان.

[39] المجموع بشرح المهذب، النووي (6/ 439) طـ (دار إحياء التراث العربي) ت: المطيعي، شرح النووي على صحيح مسلم (4/ 295) حديث رقم: (1156) طـ (دار أبي حيَّان) القاهرة، الكاشف عن حقائق السنن (شرح المشكاة)، الطيبي(4/ 211) حديث رقم: (2037) طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان، التوضيح لشرح الجامع الصحيح، ابن الملقن، طـ (وزارة الأوقاف والشؤن الإسلامية) قطر، عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بدر الدين العيني (11/ 118) طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، سلطان محمد القاري (4/ 465) حديث رقم: (2036) طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان، أوجز المسالك على موطأ مالك، الكاندهولي (5/ 221) حديث رقم: (769) طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان.

[40] صحيح: رواه الترمذي (737).

[41] صحيح: رواه النسائي (2178).

_______________________________________________________________
الكاتب: محمد أنور محمد مرسال

  • 3
  • 0
  • 2,035

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً