اللهم بلغنا رمضان

منذ 2022-03-20

بعدَ ليالٍ، يحلُّ بالأمَّة الإسلامية ضيْفٌ غال، ووافد كريم، إنَّه شهر رمضان، الذي أُنزل فيه القرآن، وكُتِب على الأمَّة فيه الصيام، وسُنَّ لها فيه التهجُّد والقيام، إنَّه الشهر الذي يغتنمه موفَّقون فيبادرون، ويسابقون إلى الخير ويتنافسون، فيفوزون بجزيلِ الثواب، وعظيمِ الجزاء..

بعدَ ليالٍ، يحلُّ بالأمَّة الإسلامية ضيْفٌ غال، ووافد كريم، إنَّه شهر رمضان، الذي أُنزل فيه القرآن، وكُتِب على الأمَّة فيه الصيام، وسُنَّ لها فيه التهجُّد والقيام، إنَّه الشهر الذي يغتنمه موفَّقون فيبادرون، ويسابقون إلى الخير ويتنافسون، فيفوزون بجزيلِ الثواب، وعظيمِ الجزاء، ويُضيِّعه مُفرِّطون، ويُعرِض فيه مَخْذُولون، فيتباطؤون ويتأخَّرون عنِ اكتساب الأجْر، أو يتلبَّسون بالمعاصي، فيُثقلون كواهلَهم بالسيِّئات والوزر، وذلك فضْل الله يُؤتِيه مَن يشاء مِن عباده، ممَّن عَلِم في قلوبهم خيرًا، وتلك حِكْمتُه التي يُضلُّ بها مَن عَلِم أنهم دون ذلك؛ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]، {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 178].

 

ومِن ثَمَّ؛ فإنَّ على المسلم في قدوم هذا الشهر المبارك أن يكونَ شُغلُه الشاغل، وهمُّه الدائم، اللجوءَ إلى ربِّه - سبحانه - وسؤالَه التوفيقَ لاغتنامِ هذا الموسم العظيم، بما يُقرِّبه إليه زُلْفى، وأنْ يشرحَ صدره للمُضيِّ فيما يُرضيه - جلَّ وعلا - وأنْ يرزقه قلبًا يعقل المواعظ، وتنفَعُه الذِّكرى، ونفسًا تخفُّ إلى الطاعة وتألَفُها، ويدًا تصنع المعروفَ، وتَنْدى بالعطاء، فإنَّه ما زَكَا مَن زكَا، ولا أفْلح مَن أفْلح إلاَّ بتوفيقِ الله له، ولا سارَ في طريق الجَنَّة مَن سار إلاَّ برحمة الله، ولا خابَ إلاَّ مَن قسَا قلبُه، وخبُثتْ نفسُه، وأعرض عمَّا فيه نفعُه ونجاته؛ {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 22 - 23]، ويقول - سبحانه - فيمَن لم يُوفَّقوا: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، ويقول - تعالى - في آخَرِين ممَّن تكاسَلوا عن الخير: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46].

 

إنَّ جمهورَ الأمَّة وعامَّة المسلمين لَيَفْرحون بهذا الشهر فرحًا عظيمًا، ويستنفِرون قواهم في هذا الموسم بما لا يكادون يفعلونَه في غيره، ويبذلون جهودَهم فيه؛ للتجارةِ الرابحة مع الله، مستحضِرين ما ورَدَ مِنَ الترغيب والبشارة، وترَى الدُّعاة والواعظين يُذكِّرون وينوِّعون مواعظَهم، وجمعيات البِرِّ والمؤسَّسات الخيرية، ومكاتب الدعوة، تُهيِّئ الفُرَص لمن يبغي الخير، وتمهِّد طُرُقَ التزوُّد للآخرة لِمَن يريد أن يسلكَها، غير أنَّ القلوبَ التي أراد الله بأهلها خيرًا تتلقَّى المواعظ، وتنشرح لها، وتَنْدَى بها، وتُشرِق بنور ربها، وتستنير بآياته، وتتفتَّح لعمل الخير، وتهشُّ له وتبشُّ به.

 

في حينِ أنَّ القلوب القاسية تظلُّ مُغلَّفة بقسوتها وغلظتها، محاطَة بغشاوتها، وظلمة إعراضها ومعاصيها، لا تتحرَّك لداعي الخير، ولا تلتفِتُ لمنادي الحق، وشتَّانَ بيْن هذه وتلك، وفرْق عظيم بيْن هؤلاء وأولئك، شتَّان بيْن مَن يشرح الله صدرَه، ويمدُّ له من نوره، فيَخْشاه ويتَّقيه، متلقيًا ذِكْره - تعالى - في وَجَلٍ يَقْشَعِرُّ منه جلدُه؛ ثم تهدأ بالحق نفسُه، ويأنس إليه قلبُه؛ فيلين ويطمئنُّ إلى ذِكْر الله، شتَّان بيْن ذلك وبيْن مَن صدرُه ضيِّق حَرج، لا يقبل الهُدى، ولا يجنح إليه، ولا يرغب فيه؛ {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23].

 

فهنيئًا لِمَن أعْطَى واتَّقى، وصدَّق بالحسنى، فوفَّقه ربُّه، ويسَّره لليُسرى، ويا لخيبة مَن بَخِل واستغْنَى، وكذَّب بالحسنى، فوُكل إلى نفسِه، ويُسِّر للعُسرى؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «سَدِّدوا وقاربوا وأبشروا؛ فإنَّه لن يُدخِلَ الجنَّةَ أحدًا عَملُه»، قالوا: ولا أنت يا رسولَ الله؟ قال: «ولا أنا، إلاَّ أن يتغمَّدني الله منه برَحْمة، واعلموا أنَّ أحبَّ العمل إلى الله أدْومُه وإنْ قَلَّ».

 

ألاَ فاتَّقوا الله - أيُّها المسلمون - واجتهِدوا بتسديدِ العمل وإتْقانه، وإلاَّ فلا أقلَّ من المقاربة، واتِّقاء الله ما استطعتم، تقرَّبوا إلى الله بالفرائض، وتزوَّدوا مِنَ النوافل، وداوِموا على عملِ الخير، واستكْثِروا مِنَ الصالحات، مع الاجتهاد أن يكونَ أحدُكم في كلِّ يوم أفضلَ منه في الذي قبلَه، وأن يكونَ في كلِّ عام أقربَ إلى الله مِن العام الذي سبَقَه، فإنَّ العبد لا يزدادُ بمرور الأيام إلا قُربًا مِن الموت، ونقصًا في الأجَل، غير أنَّ المؤمن يزداد مع الأيَّام حِرصًا على الآخرة، وزُهدًا في الدنيا.

 

وتزوَّدوا مِن صالِح العمل، وتُوبوا مِن السيِّئات؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «خيرُ الناس مَن طال عمرُه، وحَسُن عملُه»، وقال - عليه الصلاة والسلام -: «وإنَّه لا يَزيدُ المؤمنَ عمرُه إلا خيرًا»، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - لرجلٍ وهو يعظه: «اغتنمْ خمسًا قبل خمس: شبابَك قبل هرَمِك، وصحَّتَك قبل سَقَمِك، وغِناك قبل فقْرِك، وفراغَك قبل شُغْلِك، وحياتَك قبل موتِك»، جعَلَني الله وإيَّاكم ممَّن يُدرِك الشهر الكريم، ويفوز فيه بالأجْر العظيم.

ثم اعْلَموا - رحمكم الله - أنَّ ممَّا يَزيد المؤمنَ حرصًا على إتقان عمله، واجتهادًا في تحصيلِ الصالحات قدرَ طاقته: أن يستحضرَ أنَّه ربَّما كان هذا هو آخِرَ رمضان يشهده، فليصمْ فيه صيامَ مودِّع، وليصلِّ فيه صلاةَ مودِّع، وليجتهدْ فيه اجتهادَ مَن لعلَّه لا يُدركه مرةً أخرى، فكم ممَّن صام معنا في العام الماضي وقام، ثم هو في عامِه هذا حبيسُ قبرِه، ورهينُ عملِه!

 

ألاَ فاتَّقوا الله، واسألوه التوفيق، ومَن وفَّقه الله لإدراك رمضانَ، فلْيُشمِّرْ عن ساعِد الجدِّ من أوَّل يوم، وليتوكَّلْ على الله، ولْيُنبْ إليه، ولْيحذرِ التسويف، فإنَّ إدراك مواسم الخير نعمةٌ لا تعدلها نِعمة، والمغبون المحروم مَن لم يتعاملْ مع ربه؛ يقول - تعالى - في الحديث القدسي: «مَن جاء بالحسنة فله عشْرُ أمثالها وأزيد، ومَن جاء بالسيئة فجزاءُ سيِّئةٍ مثلُها أو أَغْفِر، ومَن تقرَّب مني شبرًا تقرَّبْتُ منه ذراعًا، ومن تقرَّب مني ذراعًا تقرَّبتُ منه باعًا، ومَن أتاني يمشي أتيتُه هرولةً، ومَن لَقِيني بقُراب الأرْض خطيئةً لا يشرك بي شيئًا، لقيتُه بمثلها مغفرة».

 

وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إنَّ الله - تعالى - كتَب الحسناتِ والسيئاتِ، ثم بيَّن ذلك، فمَن همَّ بحَسَنة فلم يعملْها، كتَبَها الله - تعالى - عندَه حسنةً كاملة، فإنْ همَّ بها فعَمِلها، كتَبَها الله - تعالى - عنده عشرَ حسنات، إلى سبعِمائة ضِعْف، إلى أضعاف كثيرة، وإنْ همَّ بسيئة فلم يعملْها، كتَبَها الله عندَه حسنةً كاملة، فإنْ همَّ بها فعَمِلها، كتَبها الله - تعالى - سيئة واحدة، ولا يَهلِك على الله إلا هالك».

 

قال الإمام ابن رجَب - رحمه الله - وقوله بعد ذلك: ((ولا يهلِك على الله إلاَّ هالِك))؛ يعني: بعد هذا الفضْل العظيم مِنَ الله والرحمة الواسعة منه بمضاعفةِ الحسنات، والتجاوز عن السيئات، لا يهلِك على الله إلاَّ مَن هلَك، وألْقَى بيده إلى التهلُكة، وتجرَّأ على السيئات، ورغِب عنِ الحسنات، وأعرَض عنها.

_______________________________________________________

الكاتب: الشيخ عبدالله بن محمد البصري

  • 2
  • 0
  • 1,252

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً