آخر شهر رمضان في حياتي
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
جاهد نفسك في هذا الشهر للمسارعة والمسابقة إلى الخيرات, قال الحسن رحمه الله: إذا رأيت من ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة.
- التصنيفات: ملفات شهر رمضان -
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فمع قدوم شهر رمضان المبارك, شهر الخيرات والرحمات والبركات, لازال البعض غارق في بحار الغفلة والشهوات, مصر على الذنوب والعصيان, مقيم على الآثام والعدوان, متمادٍ في الجهالة والطغيان, متعرض لسخط الرحمن, قد تمكن من قلبه الشيطان, فألقى فيه الغفلة والنسيان, ثم هو يطمع في نعيم الخلد والجنان. قال بعض السلف: آدم أخرج من الجنة بذنب واحد. وأنتم تعملون الذنوب وتكثرون منها وتريدون أن تدخلوا بها الجنة.
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجبٍ حتى عصى ربهُ في شهـر شعبـان
لقد أظلـــــــــــــــك شهر الصوم بعـدهمـا فلا تصيره أيضاً شهـر عصــــيان
نعم لا تجعل شهر رمضان شهر عصيان, بل اجعله بداية توبة ومنافسة في الخيرات, فالشياطين تصفد وتسلسل في رمضان, ليكون ذلك عوناً لك على مجاهدة نفسك, فاحذر من مكيدة شيطانية, وهي التسويف بالتوبة, فالتسويف من تزين عدوك الشيطان الذي يريد أن تكون من أوليائه, قال جل وعلا {أَفَتَتَّخِذونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَولِياءَ مِن دوني وَهُم لَكُم عَدُوٌّ بِئسَ لِلظّالِمينَ بَدَلًا} [الكهف:50] فالعجب _ كما قال بعض السلف _: ممن عرف رباه ثم عصاه, وعرف الشيطان ثم أطاعه
ومن أطاع الشيطان فهو معه في النار قال الله عز وجل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]
إن مما يعينك على مجاهدة نفسك, أن تحدثها " أن هذا هو آخر شهر رمضان في حياتك" وأنك في رمضان القادم من الأموات, في قبرك وحيداً تحت التراب.
إنك متى تيقنت ذلك فلن يكون صيامك وقيامك وسائر عبادتك مثل ما كان تفعل في السنوات الماضية. فحالنا لم يصل إلى حال أحد السلف الذي ذكر في سيرته, إنه لو قيل له: " إنك تموت غداً لم يزد في عمله " فبيننا وبين هذه الحال مراحل كثيرة, نسأل الله العفو والغفران.
إن الإنسان في هذه الحياة الدنيا لن يُعمر, ولن يبقى, فهو موجود من العدم, وصائر إلى العدم, وإن الساعات التي تمرُّ بالإنسان في هذه الدنيا كأنها لحظات, بل هي لحظات, لحظة تتلوها لحظة, وهكذا إلى أن يصل الإنسان إلى آخر نهايته, وهذا أمر يشعر به كل واحد منَّا إذن: فلننتهز...هذه الفرصة لا سيما في المواسم, مواسم الخيرات التي جعلها الله لعباده كالأسواق التجارية بل هي التجارة حقيقةً, ﴿ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ﴾ [الصف:10_11] علينا أن ننتهز هذه الفرصة,.... فهناك أناساً كانوا معنا في العام الماضي, الآن هم في قبورهم مرتهنون بأعمالهم, لا يملكون أن يزيدوا حسنة في حسناتهم, ولا ينقصوا سيئة من سيئاتهم, وهذا الذي مرّ عليهم...قطعاً سيمُرّ علينا....إذن فانتهز الفرصة.
يا أبناء العشرين! كم مات من أقرانكم وتخلفتم
يا أبناء الثلاثين ! أصبتم بالشباب على قرب من العهد فما تأسفتم
يا أبناء الأربعين ! ذهب الصبا وأنتم على اللهو قد عكفتم
يا أبناء الخمسين! تنصفتم المائة وما أنصفتم.
يا أبناء الستين! أنتم على معترك المنايا قد أشرفتم, أتلهون وتلعبون, لقد أسرفتم.
يا من كلما طال عمره زاد ذنبه, يا من كلما ابيض شعره بمرور الأيام اسود بالآثام قلبه.
إن العاقل ينذره باقتراب أجله الشيب, وسلب أقرانه بالموت.
عن وهب رحمه الله قال: ينادي مناد: أبناء الستين: عدوا أنفسكم في الموتى.
وقال سفيان الثوري رحمه الله: من بلغ سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتخذ نفسه كفناً
وإن امرأ قد سار ستين حجة إلى منهل من ورده لـقريب
كم نوعظ ولا نتعظ, ونوقظ ولا نتيقظ, فيا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي, يا شموس التقوى والإيمان اطلعي, يا قلوب الصائمين اخشعي, يا أقدام المجتهدين اسجدي لربك واركعي, يا عيون المتهجدين لا تهجعي, يا ذنوب التائبين لا ترجعي.
نعم لتذهب جميع الذنوب إلى غير رجعة, فخمص بطنك عن أكل الربا والحرام, وأحبس لسانك عن الوقوع في أعراض الناس, وجماعة الإسلام, وغضّ طرفك عما هو عليك من أعظم الآثام وهو النظر إلى ما لا يحل لك من حرم الأنام
امتثل ما أمرك به أحكم الحكام وقم بين يديه في الليل البهيم إذا هجع النُّوامُ, وتضرع إليه إذا ادلهم الليل بدجي الظلام, وحينئذ يصح لك القبول لشهر رمضان, وتفوز بالنعيم الأبدي في دار السلام, وتنجو من الأهوال والعذاب الغرام.
ليكن حالنا مثل حال أقوام إذا تليت عليهم آيات الله جلت قلوبهم جلوة, وإذا صاموا صامت منه الألسنة والأسماع والأبصار.
إن في الطاعة العزة, وفي المعصية الذل, كان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يدعو ويقول: اللهم أعزني بطاعتك, ولا تذلني بمعصيتك.
احذر مخالطة أهل المعاصي, ومن يحسن المعصية ويزينها ويدعو إليها من شياطين الإنس, وهو أضر من شياطين الجن. قال بعض السلف: شياطين الجن نستعيذ بالله منه فينصرف, وشيطان الإنس لا يبرح حتى يوقعك في المعصية. فالعاصي مشؤوم على نفسه, وعلى غيره, فإنه لا يؤمن أن ينزل عليه عذاب فيعم الناس, خصوصاً من لم ينكر عليه عمله. فالبعد عنه متعين. وكذلك أماكن المعاصي وعقوباتها يتعين البعد عنها والهرب منها خشية نزول العذاب
إن العدوى التي تهلك من قربها هي المعاصي, فمن قاربها وخالطها وأصر عليها هلك, فاحذرها فإنها مشؤومه, عواقبها ذميمة, وعقوباتها أليمة, والقلوب المحبة لها سقيمة, والسلامة منها غنيمة, والعافية منها ليس لها قيمة, والبلية بها لا سيما بعد نزول الشيب داهية عظيمة.
جاهد نفسك في هذا الشهر للمسارعة والمسابقة إلى الخيرات, قال الحسن رحمه الله: إذا رأيت من ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة.
وقال وهيب بن الورد رحمه الله: إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل.
إن صاحب الهمة العالية والنفس الشريفة التواقة لا يرضي بالأشياء الدنية الفانية, وإنما همته المسابقة إلى الدرجات الباقية الزكية التي لا تفنى, ولا يرجع عن مطلوبة, ولو تلفت نفسه في طلبه, ومن كان في الله تلفه كان على الله خلفه, قيل لبعض المجتهدين في الطاعات: لم تعذب هذا الجسد؟ قال: كرامته أريد.
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
فإن لم تسطع فعليك بدوام التوبة وكثرة الاستغفار, فمن عجز عن مسابقة المحبين في ميدان مضمارهم, فلا يعجز عن مشاركة المذنبين في استغفارهم واعتذارهم
وختاماً فمهما كانت ذنوبك فلا تيأس من رحمة الله, فإن كانت الرحمة للمحسنين فالمسيء لا ييأس منها, وإن تكون المغفرة مكتوبة للمتقين فالظالم لنفسه غير محجوب عنها. فيا أيها العاصي _ وكلنا ذلك _ لا تقنط من رحمة الله لسوء أعمالك, فكم يعتق من النار في هذه الأيام من أمثالك, فأحسن الظن بمولاك, وتب إليه إنه لا يهلك على الله إلا هالك.
وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه, وتقبل منّا صالح الأعمال.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
المراجع:
- بستان الواعظين, للإمام ابن الجوزي
- لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف, للحافظ ابن رجب
- اللقاءات الرمضانية, للعلامة محمد بن صالح العثيمين