أنتم في العشر فأروا الله من أنفسكم خيرا

منذ 2022-04-27

في هذه العشر المباركة ليلة القدر، وهي الليلة المباركة التي أُنزل فيها القرآن، والعمل الصالح فيها خير من العمل في ألف شهر، وألف شهر تعدل أكثر من ثلاث وثمانين سنةً، فأي ربح سيربحه من وُفِّق لقيام هذه الليلة؟!

أما بعد؛ فـ{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].

 

أيها المسلمون؛ قبل ليالٍ معدودة، كان بعضنا يهنئ بعضًا ببزوغ هلال شهر رمضان، والبارحة دخلنا في أفضل لياليه، فليت شعري من منا اجتهد في أوله، فيوفق للاجتهاد في آخره؟! ومن منا سيستدرك نفسه بتوبة من تقصيره فيُغفر له بها ما مضى ويُعان فيما بقي؟! ومن منا سيظل على غفلته فلا يحرم إلا نفسه؟! يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر: 15 - 18]، ويقول سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية: 15]، ويقول سبحانه: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [الروم: 44، 45]، ويقول تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، ويقول جل وعلا في الحديث القدسي الذي رواه مسلم: «يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».

 

عباد الله؛ إلى متى يمضي الوقت على أحدنا، ويذهب عمره، وهو يؤجل ويؤخر ويتكاسل؟! إنه لا يوفق للخير إلا من أخذ نفسه بالجد وتقدم، وأما من أطاعها في كسلها فتأخر، فعقوبته أن يوكل إلى نفسه ويؤخر؛ وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخرًا، فقال لهم: «تقدموا فائتموا بي، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله»، إنها النفس يا عباد الله، إن عودت التقدم في ميادين الخير تقدمت وأفلحت، وإن تركت تأخرت فخسرت، فالخير عادة، والشر لجاجة، والحسنة تدعو إلى الحسنة، ومن عقوبة السيئة إتباعها بأختها، ومن حُرم الخير في مواسم الخير فهو المحروم حقًّا، وهذه العشر التي نحن فيها سوق عظيمة من أسواق الآخرة، يتنافس فيها المتنافسون، ويربح فيها الصائمون القائمون المخلصون؛ ولا يخسر فيها إلا المحروم الذي حرم نفسه، إذ تمر به مواسم الخير فيعرض وكأن الأمر لا يعنيه، ويرى المؤمنين يصلون ويتهجدون ويتسابقون، ثم لا ينافس معهم ولا يحاول اللحاق بهم، وكأنما هو قد استغنى عن رحمة الله؛ وصدق الله تعالى إذ قال: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرمها فقد حُرم الخير كله، ولا يُحرم خيرها إلا محروم» ؛ (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).

 

أيها المسلمون؛ إنكم في عشر مباركة، كان نبيكم عليه الصلاة والسلام يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها، فاللهَ اللهَ، وأروا ربكم من أنفسكم خيرًا، خذوا أنفسكم بالجد والصبر، ونوعوا عباداتكم لئلا تملوا، فإن مما يعين المرء وييسر عليه الطاعات أن ينوِّعها، فيجعل ساعةً في صلاة، وساعةً في تلاوة كتاب ربه، وساعةً في الدعاء، وساعةً في الذكر، وساعةً للبر والصلة والإحسان، وبهذا تمر ساعاته كلها في عمل صالح، ويكتب له الأجر، وما هي إلا أيام قليلة ويذهب التعب والنصب، ويُنسى السهر والدأب، ويبقى الأجر بإذن الله.

 

أيها الصائمون؛ إن شهرنا قد أخذ في النقص، فلنَزِدْ نحن في العمل، وإن من نعم الله علينا أن جعل عشرنا الأخيرة أفضل أيام شهرنا، فهي فرصة لمن فرط أول الشهر أو ضعف أن يتدارك نفسه، وهي لمن أحسن أول الشهر كالطابع الحسن على عمله، ولئن كانت أيام رمضان معدودات، فليالي العشر ساعات محدودات، فالله الله وأروا الله من أنفسكم خيرًا، وقدموا لأنفسكم واعلموا أنكم ملاقوه، ونافسوا في ميادين الخير والصلاح، واتقوا الله ما استطعتم، واسمعوا وأطيعوا، وأنفقوا خيرًا لأنفسكم؛ فما تدري نفس ماذا تكسب غدًا، وما تدري نفس بأي أرض تموت، إن الله عليم خبير؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1 - 5].

 

أيها المسلمون؛ في هذه العشر المباركة ليلة القدر، وهي الليلة المباركة التي أُنزل فيها القرآن، والعمل الصالح فيها خير من العمل في ألف شهر، وألف شهر تعدل أكثر من ثلاث وثمانين سنةً، فأي ربح سيربحه من وُفِّق لقيام هذه الليلة؟! وأي خسارة سيُمنى بها من غفل عنها ولم يوفق إليها؟ وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه» ؛ (رواه البخاري)، وقد أخفى الله سبحانه علم هذه الليلة علينا رحمةً بنا؛ لنكثر من العمل في طلبها بالصلاة والذكر والدعاء، فنزداد منه تعالى قربًا، ويزيدنا برحمته أجرًا وثوابًا، وأخفيت أيضًا عنا ليتبين من كان جادًّا في طلبها ممن كان كسلان خاملًا، لكنه صلى الله عليه وسلم قد حثنا على التماسها في ليالي الوتر من العشر الأواخر، وهي في السبع الأواخر أقرب؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التمسوها في العشر الأواخر – يعني: ليلة القدر - فإن ضعف أحدكم أو عجز، فلا يغلبن على السبع البواقي» ؛ (رواه مسلم)، فاحرصوا - رحمكم الله - على تحريها، وإنه ليكفي أحدنا أن يقوم مع إمام حتى ينصرف من صلاته، فيُكتب له بذلك قيام ليلته كاملةً، وأكثروا من الدعاء، وخاصةً بما علم به أعلم الناس بربه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فإنها سألته صلى الله عليه وسلم: إن وافقت ليلة القدر، فبمَ أدعو؟ قال: «قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعفُ عني».

_________________________________________________

الكاتب:الشيخ عبدالله بن محمد البصري

  • 1
  • 0
  • 858

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً