هل يتسبب غزو أوكرانيا في نهاية عهد بوتين؟
لا يبدو أن لدى بوتين رغبة في إعادة تأسيس اتحاد سوفيتي جديد، فهو يعتنق القومية الروسية التقليدية، لذا فإن الظاهر للعيان أنه يحلم بإعادة إنشاء إمبراطورية قيصرية استبدادية..
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
مع دخول الغزو الروسي لأوكرانيا الآن شهره الثالث، لا يزال المجتمع الدولي في حالة من عدم الاستيعاب الكامل لخطورة استمرار الحرب لفترة أطول، التحذيرات المسبقة لخطط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لشن حربه في أوكرانيا، كانت موضع تشكك وربما استخفاف، وظل كثيرون في حالة إنكار حتى اللحظة الأخيرة التي بدأ فيها الغزو، وفيما يواصل السياسيون الغربيون مناقشة الخسائر وسبل التسوية، فإن القليل منهم في موسكو يواجهون مثل هذه المعضلة، فالمقربون من بوتين ينظرون إلى الصراع الحالي على أنه حرب مقدسة وقد تجاوزت منذ فترة طويلة نقطة اللاعودة، أما المعارضون فيرون أن الحرب التي تستنزف الاقتصاد الروسي ببطء لن تترك بلدهم أقل خسارة من أوكرانيا المدمرة، والتوابيت العائدة بجثث الجنود الروس خير دليل على أن التدخل الروسي في أوكرانيا لا يشبه التدخل في سوريا على سبيل المثال، وفيما تختلف وجهات نظر الفريقين، فإن بوتين لن يقبل بأقل من إخضاع أوكرانيا بالكامل حتى ولو تطلب الأمر تدميرها، فهل سينجح في مسعاه أم ستكون هذه الحرب هي نهاية عهده وانهيار سلطته؟
قد يبدو النطاق المرعب لأهداف حرب بوتين في أوكرانيا غير وارد في نظر معظم المراقبين، لكنه يبدو منطقيًا تمامًا عند النظر إليه من منظور رؤيته التوسعية لبلاده ولرغبته الشديدة في بسط نفوذ حكمه أكثر فأكثر، فلطالما كان بوتين مدفوعًا بالاستياء العميق من انحدار روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي، وكانت لديه رغبة دائمة في إحياء وضعها كقوة عظمى، اشتكى بوتين مرارًا من أن التسوية التي حدثت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي عزلت ملايين الروس عن وطنهم الأم، كما سلبت روسيا أراضي وموارد كانت من حقها، شعور الظلم بأن إرث الاتحاد السوفيتي لم يذهب إلى روسيا كان يغذى هوس بوتين في ضم أوكرانيا، تلك الدولة التي أصبح وجودها بالكامل يمثل الظلم المزعوم للنظام العالمي بعد عام 1991م، صحيح أن بوتين ليس أول زعيم روسي ينكر حق أوكرانيا في الوجود، إلا أن بوتين كان يؤمن بأن إنهاء الاستقلال الأوكراني مهمة مقدسة ستحدد مكانته في التاريخ الروسي، اعتقاد بوتين هو اعتقاد واسع الانتشار بين الروس اليوم، والحرب الحالية هي مجرد مرحلة ضمن محاولات عديدة لتحقيق هذه الرغبة الدفينة لدى الروس في إنهاء استقلال أوكرانيا، ففي عام 2004 أدى التدخل الروسي المتغطرس في الانتخابات الرئاسية الأوكرانية إلى نتائج عكسية كارثية، أغضب الدعم الروسي للمرشح الموالي للكرملين إلى دفع الملايين من الأوكرانيين إلى إشعال شرارة الاحتجاجات الجماهيرية المؤيدة للديمقراطية والتي أصبحت تعرف باسم الثورة البرتقالية.
أدى اعتناق أوكرانيا للديمقراطية وتحولها نحو الغرب في السنوات الأخيرة إلى إثارة غضب بوتين وأقنعه بضرورة إعادة تأكيد السيطرة الروسية على أوكرانيا، كان يرى أن الصحوة الديمقراطية في أوكرانيا مؤامرة غربية وتهديدًا مباشرًا لنظامه الحاكم، فاندفع للاستيلاء على شبه جزيرة القرم وشن حربًا بالوكالة في شرق أوكرانيا، ومع مرور الوقت ظنَّ أن بدء حرب مباشرة وصريحة ضد أوكرانيا قد ينهي الأمر بشكل أسرع، وهذا ما حدث بالفعل في 24 فبراير الماضي عندما شنت القوات الروسية أكبر غزو عسكري في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، بعد سنوات من الدعاية التي لا هوادة فيها لنزع الصفة الإنسانية عن الأوكرانيين، وأنهم نازيون وأنهم خلفاء العصر الحديث لهتلر. لم يخفِ بوتين هوسه بأوكرانيا، ففي خطاباته وفي لقاءاته وحتى في إحدى المقالات التي نشرها ممهورة بتوقيعه جادل كثيرًا بأن الأوكرانيين كانوا في الواقع روس، وأن هناك وحدة تاريخية للروس والأوكرانيين، وسعى مرارًا إلى شرح سبب رفضه لفكرة الهوية الأوكرانية المنفصلة، ذهب بوتين إلى أبعد من ذلك، حيث أدان أوكرانيا باعتبارها مناهضة لروسيا، وغير شرعية ولا يمكن التسامح معها.
لا يبدو أن لدى بوتين رغبة في إعادة تأسيس اتحاد سوفيتي جديد، فهو يعتنق القومية الروسية التقليدية، لذا فإن الظاهر للعيان أنه يحلم بإعادة إنشاء إمبراطورية قيصرية استبدادية، يكون هو فيها الرجل الأول والأوحد، ولتحقيق ذلك كان عليه أن يبدأ في ضم الأراضي التاريخية لتلك الإمبراطورية. عند التخطيط لغزو أوكرانيا ربما اعتمد بوتين على العديد من الحقائق، أهمها أن روسيا أقوى عسكريًا بكثير من أوكرانيا التي تخلت طواعيةً عن ترسانتها النووية، وكان يعلم أن الناتو لن يرسل قوات على الأرض لمساعدة أوكرانيا، كما أنه كان على يقين بأن الاعتماد الأوروبي على النفط والغاز الروسي سيجعل دولًا مثل ألمانيا تتردد في فرض عقوبات صارمة د بلاده، كانت الخطة تقتضي ضرب أوكرانيا بشكل خاطف وسريع، لإسقاط حكومتها الحالية وإنشاء نظام موالي لموسكو في كييف، كان حلم بوتين بإعادة بناء الإمبراطورية الروسية قائمًا على كذبة أطلقها ودأبت ألة الدعاية الروسية على ترويجها مرارًا، وهي أن الروس والأوكرانيين شعب واحد وأن سكان كييف وخاركيف ولفيف يتوقون إلى حكم الكرملين، ربما كانت مهمة الروس في شبه جزيرة القرم سهلة، لكن هذا يعود إلى أن واقع الخريطة الديموغرافية لشبه الجزيرة حيث أن أغلب سكانها حاليًا هم من القومية الروسية، هناك درس مهم تعلمه الأمريكيون في العراق وتعلمه السوفييت في أفغانستان؛ غزو بلد ما أسهل بكثير من السيطرة عليه، وهذا هو ما يحدث الآن بالفعل، فالروس ينتصرون في بعض المعارك لكنهم لا يزالون يخسرون الحرب.
وصف ما يحدث الآن بأنها حرب عالمية ثالثة لا يضيف جديدًا للحرب المستعرة حاليًا، فلا أحد يعلم ما الذي يمكن أن يحدث غدًا، وبطبيعة الحال فإن التكهنات بانسحاب روسيا أو استسلام أوكرانيا أو عدول بوتين عن فكرة الغزو أو لجوئه إلى استعمال السلاح النووي، هي كلها مجرد افتراضات ولا يمكن لأحد الجزم بحدوثها، ويُضاف إليها الافتراض القائل بأن تغييرًا عميقًا في السلطة سيحدث في موسكو، خاصة وأن المؤسسات العسكرية والمدنية الأساسية والنخب في روسيا لا تزال تقف خلف بوتين، ولا توجد أي صدوع تؤشر إلى اهتزاز ولائها له، لكن هناك استنتاجات يمكننا استخلاصها من 700 عام من التاريخ الروسي، فلطالما حدث التغيير في السلطة في سياق داخلي بعيدًا عن تدخل القوى الأجنبية، وعادةً ما يحدث ذلك بعد سنوات من الاضطرابات التي تدور حول السلطة، وقد وصل بوتين إلى السلطة بدعم من عناصر جهاز المخابرات وبعض الوحدات الحكومية الأخرى إلى جانب العديد من رجال الأعمال الأثرياء (الأوليغارشية)، تلك الفئة الأخيرة التي بدأت تتململ لفقدانها ثرواتها في الخارج بسبب قربها من بوتين، وهو ما يؤسس لاحتمال ـ ولو ضعيف ـ لبداية التصدع في الدائرة القوية حول بوتين، وهو ما يجعل إبعاد بوتين عن السلطة أمرًا واردًا.
على افتراض أن المشاكل المتفاقمة في روسيا لن يتم حلها إلا بهذه الطريقة، هناك من عبّر عن ذلك صراحةً مثل السيناتور الأمريكي ليندسي غراهام، الذي قال إن "المخرج الوحيد للأزمة الحالية هو أن يقضي شخص ما في روسيا على بوتين، وسيكون قد خدم بلده والعالم". لقد بدأ البعض بالفعل يفكرون في أن حل الأزمة سيكون من خلال الوصول إلى "روسيا من دون بوتين"، ففي نقطة معينة قد يكون هذا هو الحل الوحيد، لكن يبقى السؤال أكبر والاهم: كيف سيسقط بوتين من السلطة؟
_________________________________________________
الكاتب: أحمد مصطفى الغر