الاتحاد وأثره في قوة المجتمع

والاتحاد قوة، والقوة تؤدي إلى النصر، والتفرق ضَعف، والضعف يحقِّق الهزيمة، والتاريخ خير شاهد على ذلك، اتحدَّ المسلمون في غزوة بدر، فانتصروا، واختلفوا في غزوة أُحد فانهزَموا ...

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة - مجتمع وإصلاح -

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 102 - 103].

 

يا إخوة الإسلام:

لم يكن للعرب قبل الإسلام دولة، فلا قانون يجمعهم ولا سلطان يحكمهم، ولا شريعة ترسم لهم طريق الحياة، إلى أن أذِن الله لهذا الظلام بالزوال، فأرسل رسولنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل مكة، فدعاهم إلى عبادة الله الواحد القهار، ونبَذ عبادة الأصنام والأوثان، لكن قريشًا كَبُر عليها الأمر، وتحكَّمت فيها العصبية الجاهلية، فلم يدخل في الدين الجديد إلا نفر قليل، فأذِن الله لرسوله بالهجرة إلى المدينة، وفيها تكوَّنت الدولة الإسلامية الأولى، واستمر الوحي الإلهي ينزل على رسولنا محمد، يوضِّح له قوام الدولة، ويحدِّد له أهدافها التي تُميزها عن غيرها في عقيدتها وفي مبادئها وسلوكها، ومعاملاتها وعاداتها.

 

فدعا البشرية جمعاء أن تتَّجه بالعبادة لله الواحد الأحد، الذي أنشأهم من نفس واحدة، وخلَقهم في أحسن تقويم، وكرَّمهم ورزقهم من الطيِّبات، وفضَّلهم على كثير ممن خلَق تفضيلاً.

 

دعاهم إلى الوحدة الإنسانية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1].

 

وإذا كان الناس جميعًا إخوةً في الرحم والإنسانية، فقد دعاهم جميعًا للدخول في الإسلام: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} [الأعراف: 158].

 

فالناس جميعًا متساوون في أصل الخلقة، لا فضْل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح.

 

يقول الإمام الشافعي:

الناسُ من جِهة التِّمثالِ أكْفـــاءُ   ***   أَبوهمُ آدمُ والأُمُّ حــــــــــــــــوَّاءُ 

فإنْ يَكُنْ لَهُمُ في أصْلِهم شَـرَفٌ   ***   يُفاخِرون به فالطِّين والمَـــــــاءُ 

ما الفخْرُ إلا لأهْل العِلْم إِنَّهُــــمُ   ***   على الهُدى لمَن استهْــــدَى أَدِلاَّءُ 

ففُزْ بعلمٍ تَعِشْ حيًّا به أبَــــــدًا   ***   فالناسُ موْتَى وأهْل العلْمِ أحْيَاءُ 

 

فالوحدة الإسلامية لا تقوم على الجنس أو العنصر أو القبيلة؛ كما قال الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم -: «كلكم لآدمَ، وآدمُ من تراب» ، ولا نجد نداءً في القرآن خاصًا بالعرب، إنما النداء؛ إما بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21]، فيعم الإنسانية كلها، وإما بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104]، فيعم المؤمنين ويخصهم.

 

وكما كوَّن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - الوحدة الإسلامية، حماها وحَفِظها من كل أمر يُهدِّدها، والأمور التي تهدِّد الوحدة ثلاثة:

أولها: العصبية، وقد نهى عنها الرسول محمد، فقال - عليه الصلاة والسلام -: «ليس منا مَن دعا إلى عصبية» ، والنهي عن العصبية لا يتضمَّن النهي عن حب الأوطان؛ فقد سُئِل - عليه الصلاة والسلام -: أمِن العصبية أن يحبَّ الرجل قومه؟ فقال - عليه الصلاة والسلام -: «إن العصبية أن يُعين قومه على الظلم».

 

وثانيها: منَع الرسول القتال بين المسلمين تحت أي لواء، فقال - عليه الصلاة والسلام -: «سِباب المسلم فُسوق، وقتاله كُفر» ويقول الحق: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]، وحماها.

 

ثالثًا: بالشورى، فما كان يُقدِم على أمر إلا بعد المشورة؛ استجابة لقول الله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38][1].

 

وإذا كانت الوحدة الإنسانية قائمة، فالناس جميعًا إخوة متحابون، وأعضاء متماسكون، يشتركون على البُعد والقُرب بالنسبة إلى الله، فهو خالقهم، وبالنسبة إلى أصلهم الأول، فهم أُولو أرحام، كلهم لآدمَ، وآدم من تراب.

 

وقد أوجب الله عليهم طاعته وألزَمهم مراقبته، وطلَب منهم عبادته؛ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58].

 

وأوضح العبادة المطلوبة، فقال - سبحانه -: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون} [البقرة: 177].

 

فالمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، يجتمعون على عبادة إله واحد بيده الأمر وهو على كل شيء قدير: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103].

 

والعبادة في حد ذاتها مظهر من مظاهر الاتحاد والائتلاف بين الأمة الإسلامية، فالصلاة مثلاً تُنظم صفوفهم، وتوحِّد كلمتهم، وتَجمع شمْلهم، وقد صور ذلك عالم أوروبي فقال: "إذا نظَرت إلى العالم الإسلامي في ساعة الصلاة بعين طائرٍ في الفضاء، وقُدِّر لك أن تستوعب جميع أنحائه، بغض النظر عن خطوط الطول والعرض - لرأيت دوائر عديدة من المتعبدين[2] تدور حول مركز واحد هو الكعبة، وتنتشر في ساحة تزداد قدرًا وحجمًا.

 

ثم إنهم في صلاتهم يناجون الله بهذه الصيغة الجماعية: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 5 - 7]، فالأمة الإسلامية أمة واحدة، ربهم واحد، ودينهم واحد، وكتابهم واحد، وقِبلتهم واحدة، وعبادتهم واحدة، وهدفهم واحد؛ {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين} [الأنعام: 162- 163].

 

فالصلاة بذلك تعطي الأدب الوحدوي؛ فهي عبادة واحدة من أمة واحدة لربٍّ واحد؛ {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].

 

واختلاف الناس في الأجناس واللهجات والألوان، إنما هو من أقوى الأدلة على كمال القدرة الإلهية في خلْق البشر ومساواتهم جميعًا أمام الله؛ {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22].

 

والاتحاد قوة، والقوة تؤدي إلى النصر، والتفرق ضَعف، والضعف يحقِّق الهزيمة، والتاريخ خير شاهد على ذلك، اتحدَّ المسلمون في غزوة بدر، فانتصروا، واختلفوا في غزوة أُحد، فكان منهم مَن طلَب الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، ومنهم مَن طلب المال والعتاد، فخالفوا أمْر الرسول، فانهزَموا، وقد قال أحدهم: لماذا هُزِمنا وقد وعَدنا الله النصر؟ فأنزَل الله قوله موضِّحًا أسباب الهزيمة: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152].

 

وشرح هذا المعنى أحد الحكماء لأولاده؛ ليُلقنهم درسًا في الاتحاد، فقدم إليهم حُزمة من العصي قد اجتمعت عيدانها، فعجزوا عن كسْرها، فلما فُكَّ الرباط، وتفرَّقت الأعواد، تكسَّرت واحدًا واحدًا، وصور ذلك الشاعر العربي، فقال:

كُونُوا جميعًا يا بَنيّ إذا اعتَـــرى   ***   خَطْبٌ ولا تتفرَّقوا آحــــادَا 

تأبَى العِصِيُّ إذا اجْتمعْنَ تكسُّـرًا   ***   وإذا افْتَرَقْنَ تكسَّرت أفْرادَا 

 

ولقد حضَّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - على مبدأ الإخاء وإعلانه وتطبيقه منذ قَدِم المدينة؛ كما جاء في سيرة ابن هشام؛ حيث روى أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - حينما قَدِم المدينة كتب كتابًا بين المؤمنين والمهاجرين مع أهل يثرب من المدينة، ومَن جاورهم من اليهود، جاء فيه: ((هذا كتاب من محمد النبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب، ومَن معهم، فلَحِق بهم، فحلَّ معهم، وجاهَد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس)).

 

وهذا أول دستور عرَفته البشرية يُحدِّد إقليم الدولة الإسلامية، وهو المدينة، ويحدد شعبها وهم المسلمون، والأقليات التي تعيش معهم، ويحدِّد دستورها، وهو كتاب الله وسُنة الرسول محمد.

 

والواجب على الأمة الإسلامية اليوم أن تتَّحد وتأتَلف، فالتاريخ يحذِّرنا، انظر إلى تاريخ الأندلس مثلاً التي نُلقِّبها الآن بالكنز المفقود، تفرَّق المسلمون، واتَّصلوا بأعدائهم المسيحيين في أوروبا، وكان المسيحيون يستجيبون لهم ويقتل المسلمون بعضهم بعضًا، وهم يقفون موقف المتفرج؛ لعل الأحداث الآن في الوطن العرب كما كانت سابقًا في الأندلس، فالأمة العربية الآن متناحرة، والأعداء حولها يقفون موقف المتفرِّج.

 

قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].

 

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ترَكت فيكم ما إن تمسَّكتم به، لن تضلوا بعدي أبدًا، كتاب الله وسُنتي))، ((يد الله مع الجماعة، والشيطان مع مَن يخالف الجماعة».

 

 


[1] المؤتمر السادس لمجمع البحوث؛ أبو زهرة.

[2] مقارنة الأديان؛ أحمد شلبي.

_____________________________________________________________
الكاتب: محمد محمود مصطفى