الحج رحلة فاصلة

منذ 2022-06-01

الحجُّ هو الرحلة الفاصلة بين عهدين، عهدٍ مضى وانقضى يرجو المسلم أن يكون اللهُ تعالى قد غفر له فيه ما فرَّطَ وقصَّرَ، وعهدٍ جديدٍ يستقبله المسلم، وهو على أمل عظيم ورجاء كبير أن يكون فيه بعيدًا عن كُلِّ شَرٍّ...

الحج رحلة فاصلة

حمدًا للهِ تعالى على عظيمِ نَعْمائِهِ، وسابغِ كرمِهِ وجُودِهِ، حمدًا له على عطائه الكبير العظيم الذي لا تُخطئ أن تلمِسَ آثارَه المباركة هنا وهناك في كلِّ ما تقابل، ولا تُخطئ أن تَلمِسَها بادئ ذي بَدْءٍ في نعمة الإسلام التي أكرمنا بها جلَّ شأنُه، هذه النعمة التي لا مثيل لها قطُّ، هي أعظمُ ما يفوز به المرءُ، وأثمنُ ما يستمسَّكُ به ويحرِص عليه.

 

ومن أعظمِ صورِ هذه النعمة، فريضةُ الحجِّ إلى بيت الله الحرام، ليُجِدِّد الحاجُّ العزمَ على طاعة خالقه، والانقياد لمنهجه، والدعوة لرسالته، وليؤوب منها وهو يشعُر بصدق وعمق أنه نقيُّ الصفحة، مغفورُ الذنب، مقبولُ التوبة، بعد أن أدَّى حقَّ الله عز وجل، وبعد أن أنابَ وأطاعَ، وبعد أن قام بكل لوازم رحلة الحج الهادية المباركة.

 

الحجُّ هو الرحلة الفاصلة بين عهدين، عهدٍ مضى وانقضى يرجو المسلم أن يكون اللهُ تعالى قد غفر له فيه ما فرَّطَ وقصَّرَ، وعهدٍ جديدٍ يستقبله المسلم، وهو على أمل عظيم ورجاء كبير أن يكون فيه بعيدًا عن كُلِّ شَرٍّ، مُسارعًا إلى كلِّ خيرٍ، مُتمسِّكًا بالإسلام، داعيًا إليه، حاملًا شعلةَ هدايته المباركة النيِّرة للعالمين.

 

والحجُّ رحلةٌ فاصلةٌ حقًّا، فإن المسلم عليه أن يدع الضلال العقلي، والجدل العقيم، والتذَبْذُب بين الإيمان والشك، وما يُشبه ذلك أو يقرُب منه أو يَمُتُّ إليه بسبب، عليه أن يَدَعَ هذا كُلَّه، ويتخلَّى عنه عند الميقات حيث مكان الإحرام للدخول في شعائر الرحلة المباركة الفاصلة، ومع خلعه للثوب المشدود بالخيوط، عليه أن يخلع أثوابَ الأخطاء والآثام، والقصور والإساءات، ويخلع ثياب الرذائل الفكرية والنفسية والروحية والجسدية والأخلاقية المشدودة بخيوط الأرض إلى عالم ينأى عن منهج الله تعالى وهَدْيِهِ ودَرْبِهِ اللاحِبِ المستقيم.

 

عليه إذ يخلع ثيابَه التي اعتادها عند الميقات؛ أن يخلع أوزار الشك، ودعوة الباطل، والمذاهب الوضعيَّة، الجاهلة القاصرة التي يضعها بشرٌ جاهلون قاصرون، يريدون منها أن تكون بديلًا عن منهج الله تعالى الكامل الصحيح الذي لا يأتيه الباطلُ بحالٍ من الأحوال.

 

عند الميقات يجب أن تكون بداية الفصل بين عهدين: عهدٍ يُوَدَّعُ، وعهدٍ يُسْتَقْبَل، وعند الميقات يجب أن يتحدَّد الاتجاه الجديد لمسيرة المسلم، لقد كانت الحياة موزَّعةً بين الأرض والسماء، بين الارتفاع والهبوط، بين دواعي السمو وجواذب الطين، بين إيثار الآخرة والانكباب على الدنيا، بين طاعة الرحمن واتِّباع الشيطان، ولكنِ الآن، ومن عند الميقات يجب أن يتَّقِد العَزْم في فؤاد المسلم، أن يجعل حياته كلَّها للخير والطاعة والإيمان، فلا مجال إلا للارتفاع، ولا طريق إلا لليقين، ولا تفضيل إلا للآخرة، ولا طاعة إلا لله عز وجل.

 

لا رَفَثَ ولا فسوقَ ولا جِدالَ بَدْءًا من الميقات حيث أول مشاعر الرحلة الفاصلة المباركة، فكل ما كان يشوب إيمان المسلم وسلوكه يجب أن ينتهي، يجب أن يخلعه المسلم كما يخلع ثيابه عند الميقات، وإلَّا فإن رحلة التِّيْه والجدل، والذبذبة والضياع، والمفاسد والآثام ستظلُّ مسيطرةً عليه.

 

إن الميقات هو المكان الفاصل بين رحلتين: رحلةٍ يلبَس فيها ما يشاء ويفعل ما يُريد ما لم يكن حرامًا، ورحلةٍ يتقيَّد فيها بلوازم الإحرام وضوابطه، وهو أيضًا الزمان الفاصل بين رحلتين: رحلةِ الغُرْبة والتِّيْه والتقصير، ورحلةِ الهداية والحقيقة واليقين، رحلة المعصية ورحلة الطاعة، رحلة الإفلات ورحلة الإخبات.

 

الطاعة والعزة، والانقياد والخضوع، والعبادة والتوجُّه، والحاكمية والألوهية، منذ الآن حيث يلبَس المسلم لباسَ الإحرام، ومن هذا المكان في الميقات المعلوم، هي لله عز وجل، ولله وحده.

 

كلُّ المناهج إلا منهج الله باطلةٌ، وكلُّ الدُّرُوب إلا دَرْبه تِيْهٌ وضلالٌ، وكلُّ الدعوات إلا دعوته فسادٌ وضياعٌ، وكلُّ الأحزاب إلا حزبه تجمُّعٌ فاسدٌ يقوده الشيطان، وكلُّ الكُتُب إلا قرآنه وَهْمٌ وهباء.

 

من عند الميقات زمانًا ومكانًا يجب أن يستقر في خَلَد المسلم أن انقيادَه التامَّ بعد اليوم لله، ولله تعالى وحده، في الضمير والقلب والجسد، في الفكر والعاطفة والعقل، في القوانين والأنظمة والشرائع، في السياسة والحكم والاقتصاد، في كُلِّ شأنٍ من شؤون الحياة فرديًّا كان أو جماعيًّا.

 

فدينُ اللهِ تعالى شاملٌ متكاملٌ، وهو يرسُم منهجَ الحياة في كل شيء، فهو مصحف وسيف كما أنه دستور وقانون، وهو دينٌ ودولة كما أنه سياسة واقتصاد، وهو عبادة في المسجد كما أنه تشريع للحكم، وعلى الحاجِّ أن يتمحَّض ويتجرَّد لله عز وجل الذي أكرمنا بهذا الدين الشامل الكامل، ويجعل ولاءه له وحده، دون الأهل ودون المال، ودون الجاه والمنصب، ودون الغرائز جميعًا، والأرضيات جميعًا، ويُمكِّن هذا الولاء ويُقوِّيه برحلة الحج الهادية المباركة السعيدة.

___________________________________________________
الكاتب: د. حيدر الغدير

  • 0
  • 0
  • 1,009

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً