من درر العلامة ابن القيم عن النفس - 1

فهد بن عبد العزيز الشويرخ

فهذا النوع بين نفوسهم وبين الشياطين مناسبة طبيعية, بها مالت أوصافهم, وأخلاقهم, وأعمالهم, فالشياطين تتولاهم بضدِّ ما تتولى به الملائكة من ناسبهم

  • التصنيفات: الطريق إلى الله -

 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فمن المواضيع التي تحدث عنها العلامة ابن القيم رحمه الله في بعض مصنفاته: موضوع " النفس ", وقد يسّر الله الكريم فجمعت بعضاً من أقواله, أسأل الله أن ينفع بها الجميع

                        كتاب: روضة المحبين ونزهة المشتاقين

  • النفوسُ الشريفة الزكَّيةُ العلوية تعشقُ صفات الكمال: 

النفوسُ الشريفة الزكَّيةُ العلوية تعشقُ صفات الكمال بالذَّات, فأحبُّ شيء إليها العلمُ والشَّجاعةُ والعفَّةُ والجودُ والإحسانُ, والصبر, والثبات, لمناسبة هذه الأوصاف لجوهرها, بخلاف النفوس اللئيمة الدنيَّة فإنها بمعزل عن محبة هذه الصفات, وكثير من الناس يحمله على الجود والإحسان فرطُ عشقه ومحبَّته له, والَّلَّذة التي يجدها في بذله, كما قال المأمون: لقد حُبب إلى العفو حتى خشيت ألاَّ أُؤجر عليه. وقيل للإمام أحمد رحمه الله: تعلمت هذا العلم لله ؟ فقال: أما لله فعزيز, ولكن شيء حُببَّ إلي, ففعلته. وقال آخر إني لأفرحُ بالعطاء وألتذُّ به أعظم مما يفرحُ الآخذ بما يأخذه مني

وكثير من الأجود يعشق الجود أعظم عِشق, فلا يصبر عنه مع حاجته إلى ما يجود به, ولا يقبلُ فيه عذل عاذلٍ, ولا تأخذه لومة لائم, وأما عشّاق العلم فأعظمُ شغفاً به وعشقاً له من كل عاشقٍ بمعشوقه, وكثير منهم لا يشغلُهُ عنه أجمل صورة من البشر.

قيل لامرأة الزبير بن بكار – أو غيره – هنيئاً لك, إذ ليست لك ضرَّة, فقالت: والله لهذه الكتبُ أضرُّ عليَّ من عدَّة ضرائر. فعشقُ صفاتِ الكمال من أنفع العشق وأعلاه وإنما يكون بالمناسبة التي بين الروح وتلك الصفات.

  • أقسام النفوس ومحابِّها:

النفوس ثلاثة: نفس سماوية عُلوية, فمحبتها منصرفة إلى المعارف, واكتساب الفضائل, والكمالات الممكنة للإنسان, واجتناب الرذائل, وهي مشغوفة بما يقربها من الرفيق الأعلى, وذلك قُوتُها, وغذاؤُها, ودواؤًها, واشتغالها بغيره هو داؤُها.

ونفس سبعية غضبية, فمحبتها منصرفة إلى القهر, والغي, والعلو في الأرض, والتكبر, والرئاسة على الناس بالباطل, فلذتها في ذلك, وشغفُها به.

ونفس حيوانية شهوانية, فمحبتها منصرفة إلى المأكل, والمشرب, والمنكح, وربما جمعت بين الأمرين, فانصرفت محبَّتُها إلى العلو في الأرض, والفساد.

  • الملائكة أولياء لأصحاب النفس السماوية العلوية:

الملائكة أولياء هذا النوع في الدنيا والآخرة, قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ }  [فصلت:30_32] فالملك يتولى من يناسبه بالنصح له والإرشاد....وإلقاء الصواب على لسانه, ودفع عدوه عنه, والاستغفار له إذا زلَّ, وتذكيره إذا نسى, وتسليته إذا حزن, وإلقاء السكينة في قلبه إذا خاف, وإيقاظه للصلاة إذا نام عنها, وإيعاد صاحبه بالخير, وحضَّه على التصديق بالوعد, وتحذيره من الركون إلى الدنيا, وتقصير أمله, وترغيبه فيما عند الله, فهو أنيسه في الوحدة, ووليه, ومعلِّمه, ومثبتُه, ومسكِّن جأشِه, ومرغبِّه في الخير ومحُذرة من الشرَّ, يستغفر له إن أساء, ويدعو له بالثبات إن أحسن, وإن بات طاهراً يذكر الله بات معه في شعاره, فإن قصده عدو له بسوءٍ وهو نائم, دفعه عنه.

الشياطين أولياء لأصحاب النفوس السبعية الغضبية:

الشياطين أولياء النوع الثاني قال تعالى:  {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} [النحل:63]

وقال تعالى: {وإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]

فهذا النوع بين نفوسهم وبين الشياطين مناسبة طبيعية, بها مالت أوصافهم, وأخلاقهم, وأعمالهم, فالشياطين تتولاهم بضدِّ ما تتولى به الملائكة من ناسبهم, فتؤزُّهم إلى المعاصي أزّاً, وتزعجهم إليها إزعاجاً, ويزينون لهم القبائح, ويخففونها على قلوبهم, ويحلونهم في نفوسهم, ويثقلون عليهم الطاعات ويُثبطونهم عنها, ويقبحُونها في أعينهم, ويلقون على ألسنتهم أنواع القبيح من الكلام, وما لا يفيد, ويزينونه في أسماع من يسمعه منهم, يبيتون معهم حيث باتوا, ويقيلون معهم حيث قالوا, ويشاركونهم في أموالهم وأولادهم ونسائهم, يأكلون معهم ويشربون معهم وينامون معهم. قال تعالى: {وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء:38]

                                 كتاب: بدائع الفوائد

  • النفس كالعدو:

النفس كالعدو إن عرفت صولة الجدِّ منك استأسرت لك, وإن أنست عنك المهانة أسرتك, امنعها ملذوذ مُباحاتها ليقع الصلح على ترك الحرام, فإذا ضجت لطلبِ المباح: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4]

 

                                  كتاب: الروح

  • النفس اللوامة:

اللوامة, هي التي أقسم بها سبحانه في قوله: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾  [القيامة:2] فاختلف فيها, فقالت طائفة: هي التي لا تثبتُ على حال واحدة. أخذوا اللفظة من التلوم, وهو التردد, فهي كثيرة التقلب والتلون, وهي من أعظم آيات الله, فإنها مخلوق من مخلوقاته تتقلب وتتلون في الساعة الواحدة – فضلاً عن اليوم والشهر والعام والعمر – ألواناً متلونةً, فتذكُر وتغفل, وتقبل وتُعرض, وتلطف وتكثف, وتنيب وتجفو, وتحب وتبغض, وتفرح وتحزن, وترضى وتغضب, وتطيع وتعصي, وتتقي وتفجر, إلى أضعاف ذلك من حالاتها وتلونها. فهذا قول.

وقالت طائفة: اللفظة مأخوذة من اللوم...فإن كل أحد يلوم نفسه, براً  كان أو فاجراً, فالسعيد يلومها على ارتكاب معصية الله وترك طاعته, والشقي لا يلومها إلا على فوات حظها وهواها...وقالت فرقة أخرى: هذا اللومُ يوم القيامة, فإن كل أحد يلوم نفسه: إن كان مسيئاً على إساءته, وإن كان محسناً على تقصيره.

وهذه الأقوال كلها حق ولا تنافي بينها فإن النفس موصوفة بهذا كلِّه, وباعتباره سميت لوامة, ولكن اللوامة نوعان: لوَّامة ملُومة: وهي النفس الجاهلة الظالمة, التي يلومها الله وملائكته. ولوَّامة غيرُ ملومة: وهي التي لا تزال تلومُ صاحبها على تقصيره في طاعة الله مع بذله جهده, فهذه غير ملومة.

وأشرف النفوس من لامت نفسها في طاعة الله, واحتملت ملائم اللائمين في مرضاته فلا تأخذها فيه لومة لائم فهذه قد تخلصت من لوم الله لها, وأما من رضيت بأعمالها...ولم تحتمل في الله ملام اللُّوام, فهي التي يلومها الله عز وجل.

  • النفس الأمارة:

النفس الأمارة فهي المذمومة, فإنها تأمر بكل سوء. وهذا من طبيعتها إلا من وفقها الله, وثبتها, وأعانها. فما تخلص أحد من شر نفسه إلا بتوفيق الله له, كما قال تعالى حاكياً عن امرأة العزيز: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [يوسف:53] وقال تعالى: ﴿ {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ}  ﴾ [النور:21] وقال تعالى لأكرم خلقه عليه وأحبهم إليهم: ﴿ {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} ﴾ [الإسراء:74]

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم خطبة الحاجة: ( إن الحمد لله, نحمده, ونستعينه, ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهد الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له) فالشر كامن في النفس, وهو موجب سيئات الأعمال, فإن خلى الله بين العبد وبين نفسه هلك بين شرها وما تقتضيه من سيئات الأعمال, وإن وفقه وأعانه نجاه من ذلك كله. فنسأل الله العظيم أن يعذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.

  • النفس المطمئنة:

النفس المطمئنة هي أقلُّ النفوس البشرية عدداً, وأعظمها عند الله قدراً, وهي التي يقال لها : ﴿ { ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبَادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي} ﴾ [الفجر:28-30] والله سبحانه المسؤول المرجو الإجابة, أن يجعلنا نفوسنا مطمئنةً إليه, عاكفةً بهمتها عليه, راهبةً منه, راغبةً فيما لديه, وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, وأن لا يجعلنا ممن أغفل قلبه عن ذكره, واتبع هواه, وكان أمره فرطاً.

تأثير النفس في غيرها:

تأثيرات النفوس بعضها في بعض أمر لا ينكره ذو حسٍّ سليم ولا عقل مستقيم. ولاسيما عند تجردها نوع تجرد عن العلائق والعوائق البدنية, فإن قواها تتضاعف وتتزايد بحسب ذلك, ولاسيما عند مخالفة هواها وحملها على الأخلاق العالية...وتجنبها سفساف الأخلاق ورذائلها وسافلها, فإن تأثيرها في العالم يقوي جداً تأثيراً يعجز عنه البدن, وأعراضه: أن تنظر إلى حجر عظيم فتشُقَّه, أو حيوان كبير فتتُلفه, أو نعمة فتزيلها, وهذا أمر قد شاهده الأمم على اختلاف أجنساها وأديانها, وهو الذي يسمى: إصابة العين, فيضيفون الأثر إلى العين, وليس لها في الحقيقة وإنما هو للنفس المتكيفية بكيفية رديَّة سُمِّيَّة, وقد يكون بواسطة العين, وقد لا يكون, بل يوصف له الشيء من بعيد, فتتكيف عليه نفسه بتلك الكيفية فتفسده.