أكـاذيـبُ الـمـدنـيـة الحديثة!!

منذ 2022-06-12

لقد نجحت في الجانب المادي نجاحًا فوق ما كان يُنتظر، وفشلت في الجانب الروحي فشلًا أبعد مما كان يُنتظر

لكل مدنية جانبان: جانب يصح أن نسميه "الجانب المادي"، وجانب يصح أن نسميه "الجانب الروحي".
ونَعني بالجانب المادي القوة الحسية وما يتبعها وما يُمِدهَا؛ فالتسليح وما إليه قوة مادية، والمخترعات الحديثة — من كهرباء وبواخر وطائرات وغواصات، وما تبعه من استكشافت — قوة مادية، وما اخترع من صنوف الترف — كاستخدام مستجدات التكلونوجيا في شئون الحياة، واستخدام القوى الميكانيكية في تنظيم الأعمال — قوة مادية؛ بل إن الوسائل التي تستخدم لهذه الغاية، كالعلوم الرياضية والطبيعية والكيمياوية والطبية هي أيضًا قوة مادية؛ لأن نتيجتها في الحياة هي هذه المخترعات والمستكشفات التي تزيد في ترف الناس ونعيمهم من الناحية المادية، بل المدارس والجامعات التي تعلم لهذه الغاية هي قوة مادية للدولة.

والقوة الروحية وهي الإيمان وتوابعه، وهي رسم الَمثَل الأعلى للإنسان، والسعي في الوصول إليه، وهي العمل على إصلاح النوع الإنساني بأكمله من الناحية الفردية ومن الناحية الاجتماعية والسياسية، وهي تعويد الإنسان أن يفكر ويشعر ويعمل لخير الإنسانية، حتى تقرُب من المثل الأعلى لها، وهي أن يخفق قلب الإنسان بحب الناس، وبحب الخير العام لهم جميعًا، وهي أن يوضع من النظم ومن طرق التربية ومن القوانين ومن المعاهدات ما يحقق هذه الغاية أو على الأقل ما يقرب منها، وعلى الجملة هي تغذية الروح بحب الخير للإنسانية.


وليس يمكن أن تُعَد المدنية مدنية راقية إلا إذا وجد فيها الجانبان، وكانا معًا راقيين، وكانا متوازيين.
فلننظر — في ضوء هذا القول الجميل — إلى المدنية الحديثة، أهي مدنية صالحة؟ أهي مدنية راقية؟ أهي أمل الإنسانية؟
الحق — مع الأسف — أنها ليست كذلك.

لقد نجحت في الجانب المادي نجاحًا فوق ما كان يُنتظر، وفشلت في الجانب الروحي فشلًا أبعد مما كان يُنتظر، فأما الذين يهمهم المنظر وحُسن الشكل والمتعة المادية فقد صفقوا للمدنية الحديثة حتى كلت أيديهم من التصفيق، وبحت أصواتهم من نداء الاستحسان؛ وأما الذين يهمهم من الإنسان روحه لا جسمه، ومن المادية روحها لا مادتها، فنالهم شيء غير قليل من اليأس.

أما المادية فحدث عنها ولا حرج، لقد حلقت الطيارات في السماء، وغاصت الغواصات في قاع الماء، و انطلقت الأقمار الاصطناعية تعد على الدنيا أنفاسها وأتت التوكلونوجيا بالسحر الحلال، تضغط على زر فتبعث ما شئت من أنوار، وتضغط على زر فتبعث ما شئت من حرارة، وتضغط على زر فتبعث ما شئت من حركة؛ كيف أَعُد والمخترعات لا تحصى عددًا، والعجب منها لا ينتهي أبدًا، حتى ظننا أن العالم احتفظ بأسراره كلها منذ خُلق، ثم باح بها جميعها لرجال المدنية الحديثة، فلم يعد لديه سر، وكل ما في الأمر تصفية حساب الأسرار.

ولكن لا تخدعنك هذه المظاهر، فالمثل العامي يقول: "لا يعجبنَّك البيت وتزويقه، فساكنه قد جف رقيه"، لا تنظر إلى المكان وانظر إلى السكان.
هذه مشكلات العمال العاطلين، وهذه الملايين المملينة من البائسين والجياع، وهذه الحروب الطاحنة التي تفتك بشعوب وأمم، وهذه الدول كلها تتسلح لتقذف بأبنائها جميعًا في أتون من نار مساحته الأرض كلها، وهذا وهذه، مما لا يعد من ضروب الشقاء.


هذا هو القصر السعيد، فأين سكانه السعداء؟ وهذه هي السفينة الجميلة المعدة بكل وسائل الإعداد، فأين بَر السلامة؟!.
سر هذا الشقاء كله طغيان جانب المادة على جانب الروح، سر هذا كله أن المدنية الحديثة عجزت عن أن تنظر إلى الإنسان كوحدة على الرغم من أنها قربت بطرق المواصلات والمعاملات بين أجزاء العالم.


لقد قربت في المكان وباعدت بين السكان، تقدمت في علم الجغرافيا ولم تتقدم في علم الاجتماع، استكشفت الجبال والوديان والصحاري والأنهار والبحار، ولم تستكشف قلب الإنسان.
عملت على وحدة الإنسان جغرافيًّا، وعملت على تفريقه اجتماعيًّا؛ فما أغرب شأنها،.. وما أضعف ذكاءها!


هذه المدنية التي شرحتها طغت على كل شيء؛ فالأخلاق أساسها هذه المادية، وبرامج التعليم أساسها الوطنية، ومالية الدولة مشلولة بالأغراض الحربية، والآلات المخترعة جعلت أصحاب الأموال والحكومات ينظرون إلى الإنسان نظرهم إلى ترس في آلة، واستغرقت المادة كل تفكير المفكرين، من اقتصاديين وماليين وعلماء وحكوميين؛ ومن اتسع تفكيره لإصلاح روحي أو لإصلاح اجتماعى صدم بميزانية الدولة التي أسست على النظرة المادية، وصدم بالحالة الدولية العامة، كالذي كان في عصبة الأمم؛ فقد خذلت وأصيبت في صميمها؛ لأنها حاولت محاولة بسيطة أن توجه تيار المدنية الحديثة إلى الناحية الروحية، فلما كانت البيئة التي حولها لا تساعدها اختنقت وأصبحت هي الأخرى جسمًا بلا روح؛ ثم أصبح الناس جميعًا وقد فقدوا حريتهم الحقيقية، على الرغم من الطلاء الكاذب من المناداة بالحرية؛ فالحالة الاقتصادية المادية سلبت الناس حريتهم، وجعلتهم يعانون أشد المعاناة في وسائل العيش.

ولا حرية لهم في التخلص منها؛ وكلما زادت المدنية زادت مطالب الحياة، وتعقدت سبل الحصول عليها، وشعر الناس بضيق من شدة الضغط؛ وهل مع هذا حرية؟ والناس يرون الحرب أزمة المدنية؟ ولكن هذا خطأ؛ فالحرب نتيجة سوء المدنية، ومظهر لحقيقة سوء الحال الاقتصادية والمادية، لا أن الحرب نفسها هي الأزمة؛ فالحرب هي عقرب الساعة التي نراها، ولكن العقارب نفسها ليست إلا مظهرًا للآلات الدقيقة المستورة تحت العقارب، وإذا رفعت العقارب لم يتغير سير الآلات في شيء، وكل ما فقدناه هو المظهر والعلامة.

لقد أعْلَت المدنية الحديثة شأن العقل وغالت في تقديره، وآمن رجالها بأنه وحده هو الأساس الصالح للحياة، فكان من نتيجة ذلك ازدهار العلم المجرد من الإيمان والأخلاق إلى حد بعيد، وزادهم تحمسًا له ما كان من نتائجه الباهرة في المخترعات والآلات؛ ولكنهم بعد سيرهم الطويل، ونجاحهم الباهر في هذه السبيل، اصطدموا بحقيقة مؤكدة، وهي أن العلم بدون روح الإيمان والأخلاق لم يكن السبيل لإسعاد الإنسان.


لقد رجحت في المدنية الحديثة كفة المادية، فيجب أن نضع في الكفة الخفيفة روحانية كثيرة حتى تتوازن؛ ولكن ما هذه الروحانية التي نريد وضعها؟


لو فعلنا ذلك لزالت أكثر شرور المدنية الحديثة من حروب وعطلة وتناحر بين العمال وأرباب الأموال، ولتعاون الشرق والغرب، ولشعر الإنسان بأن أفق تفكيره اتسع، وأفق شعوره اتسع، وشعر أن الأرض كلها وطنه، والناس كلهم إخوانه، ولشاع الحب في جو الأرض، وأصبحنا نستنشقه مع الهواء.
وما لم نصل إلى هذا الحد فالمدنية مجموعة أكاذيب.

________________________________________________________

اسم الكاتب: من كتاب\"فيض الخاطر\" لأحمد أمين

  • 7
  • 6
  • 1,105
  • بدر عبدالله عبدالرحمن الصاعدي

      منذ
    بسم الله الرحمن الرحيم ما هو جواب السؤال (ولكن ما هذه الروحانية التي نريد وضعها؟) لقد أجاب الكاتب أحمد أمين في فيض الخاطر تحت عنوان (المعتزلة والمحدثون) بجواب غير متوقع لمن لا يعرفه كما سيأتي. نعم لقد فسر القوة الروحية في هذا المقال بعبارات لخصها بأنها تغذية الروح بحب الخير للإنسانية. وهي عبارة تصلح للتأمل فقط بعيد عن معترك الحق والباطل في واقع الحياة، ولا شك أن ما من خير وحق يوافق الفطرة إلا وتجده في شريعة الله وما الدعوة للتوحيد والسنة والمعتقد الصحيح إلا نصح للإنسان وإرادة الخير له، وما محاربة الباطل وردع العدو إلا نصح للإنسان، -وبهذا نحد العبارة العائمة. ومما يلفت في هذا المقال قوله (لو فعلنا ذلك لزالت أكثر شرور المدنية الحديثة .. ولتعاون الشرق والغرب .. ولشاع الحب في جو الأرض) قبل أن يبذل أحد ما حياته لتطبيق هذه العبارة لنيل هذا الموعود، لنلقي نظرة على الواقع وعلى الحقيقة. وهي سنة الابتلاء والامتحان وقصور الحياة الدنيا فآدم -عليه السلام- ولد لها ابنان ولم يكن ثم دول ولا شعوب ولا أسلحة ومع ذلك اقتتلا وقتل أحدهما الآخر فهذا فجر الإنسانية ومطلعها بل في أول كتاب الله عز وجل نجد حقيقة العداء بين الناس وما يرافقها من سفك الدماء ﴿وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی جَاعِلࣱ فِی ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةࣰۖ قَالُوۤا۟ أَتَجۡعَلُ فِیهَا مَن یُفۡسِدُ فِیهَا وَیَسۡفِكُ ٱلدِّمَاۤءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّیۤ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [البقرة ٣٠ فالمعاداة كائنة بين الخلق والاختلاف كائن كذلك قال تعالى (وَلَوۡ شَاۤءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةࣰ وَ ٰ⁠حِدَةࣰۖ وَلَا یَزَالُونَ مُخۡتَلِفِینَ) هود 118 بل ينبه الله في كتابه عباده المؤمنين على مافيه قلوب أعدائهم ﴿ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَاۤءُ مِنۡ أَفۡوَ ٰ⁠هِهِمۡ وَمَا تُخۡفِی صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ ﴾ [آل عمران ١١٨] والعكس كذلك ﴿قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةࣱ فِیۤ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ وَٱلَّذِینَ مَعَهُۥۤ إِذۡ قَالُوا۟ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَ ٰۤ⁠ ؤُا۟ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَیۡنَنَا وَبَیۡنَكُمُ ٱلۡعَدَ ٰ⁠وَةُ وَٱلۡبَغۡضَاۤءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥ ﴾ [الممتحنة ٤] بل إن ذلك ليس بين أهل الحق والباطل فقط بل بين أهل الباطل أنفسهم قال تعالى ﴿ فَأَغۡرَیۡنَا بَیۡنَهُمُ ٱلۡعَدَاوَةَ وَٱلۡبَغۡضَاۤءَ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِۚ وَسَوۡفَ یُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُوا۟ یَصۡنَعُونَ﴾ [المائدة ١٤] والكلام عن حقائق شرعية وواقع حاصل فلم يزل القتال سنة بين الناس سواء وجدت المدينة أو لم توجد وسواء وجدت الروحانية أو لم توجد، ووجوده قبل المدينة ظاهر، أما وجوده مع الروحانية فالتاريخ مليء بقتال أهل العقائد المختلفة بسبب العقائد بل بين أهل الملة والواحدة ذات الفرق المختلفة وهي أكثر شراسة، أما ووجود القتال بدون الروحانية فهو أدهى وأمر كما في الحروب العالمية أو دونها كما في المجازر التي تحصل بين التيارات الفكرية البعيدة عن الدين، والمقصد مما سبق أن عبارة تعاون الشرق والغرب وإشاعة الحب إذا طبقنا محبة الخير للإنسانية عبارات أدبية وعاطفية بعيدة عن الواقعية وعن تعاليم الشرع الذي دعانا للدعوة للإسلام ونشر رسالته بالحكمة والموعظة الحسنة وإخراج الناس من الظلمات إلى النور وإلى الولاء والبراء والتمسك به والدفاع عنه والصبر على أذية المشركين وأهل الكتاب وغير ذلك مما كتب فيه العلماء الربانين مما يتعلق بفقه الجهاد والسياسة الشرعية والتزام جماعة المسلمين والاعتصام بكتاب الله وغير ذلك مما هو يتوافق مع واقع البشرية وما جبلت عليه الحياة الدنيا من سنة الابتلاء والامتحان. وفي الختام ما هو جواب السؤال الذي ذكرناه في البداية (ولكن ما هذه الروحانية التي نريد وضعها؟) إن كان يريد حب الخير للإنسانية فقد سبق بيانه وإن كان يريد المعتقد فقد جاء محمد أمين في فيض الخاطر تحت عنوان (المعتزلة والمحدثين) بعبارة محدودة لها ضابط بعيداً عن العبارات العاطفية العائمة، يقول: (لنتصور الآن ماذا كان يكون لو سار المسلمون على منهج الاعتزال إلى اليوم؟ أظن أن منهج الشك والتجربة واليقين بعدهما كان يكون قد ربي وترعرع ونضج في غضون الألف سنة التي مرَّت عليه، وكنا نفضل الأوربيين في فخفختهم وطنطنتهم بالشك والتجربة التي ينسبونها إلى بيكون مع أنه لم يعمل أكثر من بسط مذهب المعتزلة. وكان هذا الشك وهذه التجربة مما يؤدِّي حتمًا إلى الاختراع، وبدل تأخر الاختراع إلى ما بعد بيكون وديكارت، كان يتقدم مئات من السنين، وكان العالم قد وصل إلى ما لم يصل إليه اليوم، وكان وصوله على يد المسلمين لا على يد الغربيين، وكان لا يموت خلق الابتكار في الشرق ويقتصر على الغرب؛ فقد عهدنا المسلمين بفضل منهج المحدثين يقتصرون على جمع متفرق أو تفريق متجمع، فالحق أن خسارة المسلمين بإزالة المعتزلة من الوجود، كانت خسارة كبرى لا تعوض) !!!!! نعوذ بالله دعوة إلى الشك في الدين وإلى عودة الاعتزال وتنقص أهل الحديث وجعل المدنية هدف وغاية، وتمجيد لفلاسفة الغرب، وتوهم أن العقل الغربي المفطور على لغة الأرقام والتركيب إنما وصل للاختراعات بفضل الشك وأن العقل العربي المختلف عن فطرة العقل الغربي إنما تخلف بسبب المحدثين وغير ذلك من البلايا التي تضمنها كلامه، وأعظمها الدعوة للشك في دين الله وإلى الاعتزال.
  • بدر عبدالله عبدالرحمن الصاعدي

      منذ
    ومع ذلك اقتتلا وقتل أحدهما الآخر الصواب: قتل أحدهما الآخر، قال تعالى ﴿لَىِٕنۢ بَسَطتَ إِلَیَّ یَدَكَ لِتَقۡتُلَنِی مَاۤ أَنَا۠ بِبَاسِطࣲ یَدِیَ إِلَیۡكَ لِأَقۡتُلَكَۖ إِنِّیۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [المائدة ٢٨]

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً