عمرو بن العاص (2) الأمير المجاهد

منذ 2022-07-01

وكتب عمرو إلى عمر بالخبر، فلما جاءه كتاب عمرو قال: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب فنظروا عما تنفرج.

{بسم الله الرحمن الرحيم }

في سفره النفيس «عمرو بن العاص الأمير المجاهد» يعيش الكاتب د. منير الغضبان في أجواء صادقة يصف خلالها سيرة هذا الطود الشامخ من صحابة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الكرام، ويتصدر الكتاب بتلك المقولة الواقعية التي تلخص حجم المؤامرة التاريخية على هذا الأمير المجاهد حيث يقول: ما إن تذكر عمرا حتى يتبادر إلى الناس ذلك الخادع المحتال الذي خدع أبا موسى الأشعري ونقض اتفاقه معه وأبقى بمعاوية وخلع عليا، وبذلك ينصرف عامة الناس عن ذكر عمرو بن العاص.

فهل يجوز لمثل هذه الشخصية العظيمة أن تبقى غُفلا في التاريخ لا يعرف عنها إلا المكر والخديعة؟!.

 

** قال عنه الذهبي: "عمرو بن العاص بن وائل، الإمام أبو عبد الله، ويقال أبو محمد السهمي، داهية قريش، ورجل العالم، ومن يضرب به المثل في الفطنة والدهاء والحزم"

** روى مجالد عن الشعبي أنه قال:" دهاة العرب أربعة: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه، فأما معاوية فللأناة والحلم، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهة، وأما زياد فللصغير والكبير".

** عن شعيب بن يعقوب قال اجتمع معاوية وعمرو بن العاص، فقال معاوية لعمرو: من الناس؟ قال أنا وأنت ومغيرة وزياد. قال وكيف ذاك؟ قال أما أنت فللتأني، وأما أنا فللبديهة، وأما مغيرة فللمعضلات، وأما زياد فللصغير والكبير. قال له معاوية: أما ذانك فقد غابا، فهات قولك أنا للبديهة، وأما أنا فللأناة فهات بديهتك. قال: وتريد ذاك؟ قال: نعم. قال: فأخرج من عندك، فأمرهم فخرجوا حتى لم يبق في البيت غيرهما. فقال عمرو: يا أمير المؤمنين أسارك، قال: فأدنى رأسه منه. قال: هذا من ذاك ومن معنا في البيت حتى أسارك ؟؟!!

** ويتجاوز عمرو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بيئته وقومه العرب لينازل دهاة العالم كما قال عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يوم وجهه لفتح فلسطين، وكان فيها داهيتها الرهيب «الأرطبون» وكان الأرطبون أدهى الروم وأبعدها غورا وأنكاها فعلا، وقد كان وضع في الرملة جندا عظيما، وبإيلياء جندا عظيما وكتب عمرو إلى عمر بالخبر، فلما جاءه كتاب عمرو قال: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب فنظروا عما تنفرج.

ونفذ عمرو خدعته بالأرطبون حيث تنكر باسم أحد جنوده رسولا إليه، وأدرك الأرطبون بدهائه أن الذي بين يديه عمرو أو من يثق به عمرو، فبيت قتله، وتمكن عمرو من النجاة من الأرطبون بحيلته العجيبة حين أوهمه أنه سيأتي بعشر رجال مثله، وعندما بلغت الحيلة الأرطبون قال: خدعني الرجل، هذا أدهى الخلق. فبلغت عمر فقال: غلبه عمرو لله در عمرو.

** وروي أن عمرو بن العاص دخل على عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-، وهو على مائدته جاثياً على ركبتيه، وأصحابه كلهم على تلك الحال، وليس في الجفنة فضل لأحد يجلس، فسلم عمرو على عمر، فرد عليه السلام، قال عمرو بن العاص؟ قال: نعم، فأدخل عمر يده في الثريد فملاها ثريداً ثم ناولها عمرو بن العاص، فقال: خذ هذا، فجلس عمرو، وجعل الثريد في يده اليسرى، ويأكل باليمنى، ووفد أهل مصر ينظرون إليه، فلما خرجوا، قال الوفد لعمرو: أي شيء صنعت؟!

فقال عمرو: إنه والله لقد علم أني بما قدمت به من مصر لغني عن الثريد الذي ناولني، ولكن أراد أن يختبرني، فلو لم أقبلها للقيت شراً.

** قال ابن الجوزي في المنتظم:

وفي هذه السنة -أي السنة العاشرة- أرسل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عمرو بن العاص بعد رجوعه من الحج لأيام بقين من ذي الحجة إلى جيفر وعبد ابني الجلندي بعمان يدعوهما إلى الإسلام.

وكتب معه كتابًا إليهما وختم الكتاب، قال عمرو: فلما قدمت عمان عمدت إلى عبد وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خُلقًا. فقلت: إني رسول رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إليك وإلى أخيك. فقال: أخي المقدم بالسرّ والملك، وأنا أوصلك إليه حتى تقرأ كتابك. فمكثت أيامًا ببابه ثم إنه دعاني فدخلت عليه فدفعت إليه الكتاب مختومًا ففض خاتمه وقرأه حتى انتهى إلى آخرة ثم دفعه إلى أخيه فقرأه إلا أني رأيتَ أخاه أرق منه.

فقال: دعني يومي هذا وارجع إليّ غدا، فلما كان الغد رجعت إليه فقال: إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلًا ما في يدي. قلت: فإني خارج غدًا، فلما أيقن بمخرجي أصبح فأرسل إليّ فدخلت عليه فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعًا وصدقا بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخليا بينيِ وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم وكانا لي عونأ على من خالفني، فأخذت الصدقة من أغنيائهم فرددتها في فقرائهم، ولم أزل مقيمًا بينهم حتى بلغنا وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

**  عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ الأَشْعَرِىِّ، عَنْ رَابِّهِ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ، كَانَ خَلَفَ عَلَى أُمِّهِ بَعْدَ أَبِيهِ، كَانَ شَهِدَ طَاعُونَ عَمَوَاسَ، قَالَ: لَمَّا اشْتَعَلَ الْوَجَعُ قَامَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِى النَّاسِ خَطِيبًا، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ رَحْمَةُ رَبِّكُمْ، وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَقْسِمَ لَهُ مِنْهُ حَظَّهُ.

قَالَ: فَطُعِنَ فَمَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاسْتُخْلِفَ عَلَى النَّاسِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَقَامَ خَطِيبًا بَعْدَهُ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ رَحْمَةُ رَبِّكُمْ، وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ مُعَاذًا يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَقْسِمَ لآلِ مُعَاذٍ مِنْهُ حَظَّهُ، قَالَ: فَطُعِنَ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ مُعَاذٍ فَمَاتَ، ثُمَّ قَامَ فَدَعَا رَبَّهُ لِنَفْسِهِ فَطُعِنَ فِي رَاحَتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ يُقَبِّلُ ظَهْرَ كَفِّهِ، ثُمَّ يَقُولُ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي فِيكِ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا، فَلَمَّا مَاتَ اسْتُخْلِفَ عَلَى النَّاسِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَقَامَ فِينَا خَطِيبًا، فَقَالَ:

أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ إِذَا وَقَعَ إِنَّمَا يَشْتَعِلُ اشْتِعَالَ النَّارِ فَتَجَبَّلُوا مِنْهُ فِي الْجِبَالِ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ أَبُو وَاثِلَةَ الْهُذَلِىُّ: كَذَبْتَ، وَاللَّهِ لَقَدْ صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَنْتَ شَرٌّ مِنْ حِمَارِي هَذَا.

قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرُدُّ عَلَيْكَ مَا تَقُولُ، وَأيْمُ اللَّهِ لاَ نُقِيمُ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ، وَخَرَجَ النَّاسُ، فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ وَدَفَعَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، مِنْ رَأْىِ عَمْروٍ فَوَاللَّهِ مَا كَرِهَهُ.

لقد كان عمرو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يتحدث عن جانب غير الجانب الذي يتحدث عنه الأميران العظيمان: أبو عبيدة ومعاذ بن جبل. وكان يؤرقه الوقوف استسلاما أمام امتداد الطاعون ونهشه في الأمة، وكان رأي عمر أمير المؤمنين مواجهة هذا الاستسلام حيث أشار على أبي عبيدة بقوله: "سلام عليك، أما بعد فإنك أنزلت الناس أرضا عميقة فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة" ولكن إصابة أبي عبيدة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حالت دون ذلك، وجاء عمرو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لينطلق منطلقات أمير المؤمنين نفسها في دعوة الأمة إلى الصعود إلى الجبال هربا من الطاعون، غير أن أبا وائل -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رأى قول عمرو يختلف عن سابقيه فأغلظ القول لأميره، ولم يغضب الأمير الحليم العظيم، وقال لأخيه الجندي المتطاول "وَاللَّهِ مَا أَرُدُّ عَلَيْكَ مَا تَقُولُ" تعظيما للصحبة النبوية عنده، ولكن هذا لم يثنه عن توجيه أوامره للأمة لصعود الجبال، وصرف الله البلاء عن الأمة بذلك.    

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

 

 

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 2
  • 0
  • 1,898

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً