الملتقى الجنة... هل ترانا نلتقي؟

منذ 2022-08-17

تذكرتْ هذه الأم كل ذلك، فاستبشرت واطمأن قلبها، بعد أن كان فارغًا، وأسلمت وجهها لله، واستودعت ابنتها عند الله؛ فعنده لا تضيع الودائع.

 

إلى اللقاء يا أمي... نلتقي على خيرٍ إن شاء الله.

كانت هذه آخر كلمات سمعتها من ابنتها قبل أن تدخل غرفة العمليات لإجراء هذه العملية الخطيرة في المخ.

ما زالت هذه الهمسات تتردَّد على مسامعها وسط هذا الحشد من الأطباء.

لا زالت لا ترى إلا وجهها وسط هذه الأضواء المسلطة عليها.

لا زالت لا تشعر إلا بقُبلتها على وجنتها، رغم كل الأجهزة المتصلة بها.

كيف لا وهي قرة عينها وفلذة كبدها ومهجة فؤادها؟

تتذكرها عندما كانت طفلة بريئة، تلعب معها بالألعاب، ثم ما لبثت أن صارت بنتًا رقيقة تملأ عليها البيت فرحة وبهجة، تشاركها في إعداد الطعام، تساعدها في أعمال البيت، كانت لها نعم السند في الأوقات الصعبة.

ثم سَرعان ما قفز بها شريط الذكريات إلى ليلة زفافها، وكيف رأتها أول مرة بفستانها الأبيض، وكيف دمعت عينها فرحًا لفرحتها، وحزينًا لأنها ستغيب عن ناظريها.

تتقاذفها الخواطر هنا وهناك... بين الأمل والخوف.

تعصف برأسها الأفكار، فترمي بها في كل مكان كريشة يحركها الريح.

هل ستراها مرة أخرى؟

هل ستمتع عيناها بمطالعة مُحياها؟

هل تراها تلتقيها مرة أخرى؟

أم أنها النهاية؟

قذف الله في قلبها هذه الآية:   {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}   [الطور: 21]، وكأنها تقرأها لأول مرة.

تذكرت أنها قرأت تفسيرها من قبل، وتوقفت عندها كثيرًا.

أيقنت منها كرم الله للآباء والأبناء جميعًا.

يعلم سبحانه أننا نحب أبناءنا، ونأنس بصحبتهم، فلم يحرمنا من صحبتهم في الجنة.

ليست صحبة فقط، بل رفع درجات الأبناء إلى درجة الآباء، وإن لم يعملوا بعمل الآباء؛ تفضلًا منه وإحسانًا لعباده المؤمنين.

قال ابن عباس في تفسير الآية: "إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة، وإن كانوا دونه في العمل؛ لتقر بهم عينه ثم قرأ:  {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} [الطور: 21]؛ الآية".

يا له من فضل عظيم من كريم منَّان، تفضل علينا، ووهب لنا الأبناء في الدنيا، ويتفضل علينا مرة أخرى في الجنة بإلحاقهم بنا، إذا حققنا الإيمان به سبحانه، وكان أبناؤنا على الإيمان كذلك.

وهذا الإيمان تفضلًا منه سبحانه أيضًا، فما أكثر نعمك علينا يا رب!

ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة الرعد: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}  [الرعد: 23]، والأدلة كثيرة في هذا الأمر.

فلماذا نحرص على جمع الأموال والعقارات لتأمين مستقبلهم، وترك ميراث يغنيهم بعد مماتنا، وإن كان هذا شيئًا طيبًا؛ «لأن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة» .

ولا نحرص على تأمين نصيبهم من ميراث الآخرة، كما نحرص على ميراث الدنيا؛ قال تعالى:  {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}  [الزخرف: 72].

هل عملنا أعمالًا صالحة تكون لنا ولهم ذخرًا يوم القيامة؟

عن ابن عباسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  «إذا دخل الرجلُ الجنةَ، سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك، فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم، فيُؤمر بإلحاقهم به» .

فهل استشعرنا أننا عندما نعمل عملًا صالحًا، فإننا نعمل لنا ولهم بالتبعية، فحَرَصنا على الطاعات والقربات؟

قال سعيد بن المسيب لابنه ذات يوم: "لأزيدنَّ في صلاتي من أجلك يا بني؛ رجاء أن أحفظ فيك؛ ثم تلا قول الله:   {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}   [الكهف: 82]".

كذلك هل نخاف على أولادنا من بعدنا؟

هل نخشى عليهم من شياطين الإنس والجن أن تتخطفهم؟

إذًا فلنلقِ السمع لهذه الآية؛ قال تعالى:  { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}   [النساء: 9].

يبيِّن الله لنا في هذه الآية الطريق المباشر للحفاظ على الذرية؛ ألا وهو التقوى والقول السديد.

فها هي طرق التربية الناجعة بين أيدينا:

الإيمان، التقوى، والقول السديد.

فلماذا نحيد عنه إلى أسباب أضعف بكثير منه؟

كذلك الدعاء؛ فهو من أقصر الطرق وأهم الأسباب لحفظ الأبناء، فها هم عباد الرحمن يحرصون على هذا الدعاء:  {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا }  [الفرقان: 74].

وإن كان هذا فضل الآباء على الأبناء ببركة عمل الآباء، كذلك الآباء لم يُحرموا من فضل يُساق إليهم بسبب الأبناء.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب، من أين لي هذا؟ فيقول: باستغفار ولدك لك» .

كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في قوله: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله، إلا من ثلاثٍ؛ ومنها: ولدٍ صالحٍ يدعو له» .

فيرفع درجة الآباء بعمل الأبناء، فالولد من كَسْبِ الإنسان، وهو كالصدقة الجارية له، التي لا يزال يُؤجَر عليها وإن مات.

ما أكرمه من رب منان متفضِّل على عباده، وهو سبحانه عادل، فلا ينقص من أعمال الآباء لصالح الأبناء!{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21].

فنحن بين فضله وعدله سبحانه ننهَل من نِعَمِه علينا.

تذكرتْ هذه الأم كل ذلك، فاستبشرت واطمأن قلبها، بعد أن كان فارغًا، وأسلمت وجهها لله، واستودعت ابنتها عند الله؛ فعنده لا تضيع الودائع.

أيقنتْ وقتها أن لقاء الجنة سيكون أروع.

فهناك الملتقى، وإلى ربك المنتهى، والآخرة خير وأبقى.

سمر سمير

  • 3
  • 1
  • 832

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً