النظرة الأولى ما لها وما عليها

أحمد إبراهيم خضر

تفتح أجيالنا الناشئة عيونها عبر الواقع والإعلام على هذه العلاقة المفتوحة وكأنها الأصل في العلاقة بين الجنسين...

  • التصنيفات: النهي عن البدع والمنكرات - مجتمع وإصلاح -

إذا ركبت فرسا جديدا، فدخلت بك إلى درب ضيق لا يسعها إلا هي، وليس له مخرج، ولا يمكن للفرس أن تستدير لكي ‏تخرج، فماذا تفعل؟ إذا همت الفرس بالدخول، فعليك أن تمنعها، وإذا دخلت خطوة أو خطوتين، عليك أن تردها بسرعة ‏إلى الوراء، فإذا تمكنت من ردها إلى الوراء كان الأمر سهلا، وإن انتظرت حتى دخلت، صعب الأمر عليك، وإذا دخلت بها ‏ثم قمت بجذبها من ذيلها تعذر عليك إخراجها. وليس هناك من عاقل يقول: أن تخليص الفرس هو أن تدخل بها إلى هذا ‏الدرب الضيق.‏


ضرب العلماء هذا المثل لبيان كيفية التحكم في ما بعد" النظرة الأولى" سواء من قبل الرجل أو المرأة. كان هذا في زمن ‏يختلف كثيرا عن زماننا الحالي الذي من سماته المميزة اختلاط الرجال بالنساء سواء في الشوارع أو الأسواق أو المدارس ‏أو الجامعات أو في مجالات العمل المختلفة، أو حتى داخل البيوت بين الأقارب والأصدقاء. لم يعد اليوم لمسألة النظرة ‏الأولى مكان، الأمر الآن علاقة فعلية بين الرجال والنساء متعددة الأشكال: في صورة قرابة أو زمالة أو صداقة أو حب ‏وحتى الجنس، سواء في عالم الواقع الحقيقي أو عالم السينما والتلفاز والإنترنت والقنوات الفضائية المفتوحة. ولهذا يبدو ‏الحديث عن " النظرة الأولى " حديثا غير واقعي إن لم يكن متخلفا في نظر الناس إلا من رحم الله. ‏


تفتح أجيالنا الناشئة عيونها عبر الواقع والإعلام على هذه العلاقة المفتوحة وكأنها الأصل في العلاقة بين الجنسين، أما ‏الشباب والكبار، فالأمر بالنسبة إليهم هو المألوفات والعوائد والتمدن والتحضر، لا ضوابط الشرع. ‏


يختلف الأمر إذا ما نظر رجل إلى امرأة (أو العكس) ثم صرف بصره، عما لو أنه كرر النظر وفتش عن محاسن المرأة، ‏ونقلها إلى قلبه. حينما تنتقل محاسن المرأة إلى قلب الرجل يكون ذلك إشارة إلى بداية تعلقه بها، وكلما تواصلت النظرات ‏كانت كالماء يسقى الشجرة، فتنمو شجرة الحب حتى يفسد القلب وينصرف عن التفكر فيما أمره الله به، وكذلك التفكر في ‏مصالحه والإشتغال بها، وهكذا حتى يقع في المحظور. والسبب في ذلك هو أن النظرة تشعر القلب باللذة، فيطلب معاودة ‏النظر، ويشبه هذا من يأكل طعاما لذيذ المذاق، فإذا تناول منه لقمة طلب أخرى.وهكذا هي النظرة الأولى، ولو أن الناظر ‏غض بصره منذ البداية لاستراح وسلم من العواقب.‏


ويطلق العلماء على النظرة الأولى " نظرة الفجأة "، وهى النظرة التي تقع بغير قصد من الناظر، فإذا نظر الثانية متعمدا، ‏يكون قد وقع في الإثم. وقد سأل جرير بن عبد الله رضي الله عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فأمره ‏أن يصرف بصره.‏


وسأل رجل العلماء أنه نظر إلى امرأة وتعلق قلبه بها حتى أحبها واشتد عليه هذا الحب، فهل له أن ينظر إليها مرة أخرى ‏لعله يجد ما ينفره منها، فيخلص نفسه مما وقع فيه ويبتعد عنها؟ أجاب العلماء: "هذا لا يجوز له، إن الله تعالى أمره بغض ‏بصره، ولم يجعل شفاء قلبه فيما حرمه عليه. كما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمداواة نظرة الفجأة بصرف النظر لا ‏بتكراره، وقوة التعلق بالمرأة يكون بالنظرة الثانية لا الأولى، والنظرة الثانية قد تجعله يرى فيها ما يزيد تعلقه، لا ما يصرفه ‏عنها، وأنه إذا قصد النظرة الثانية فقد يزين له الشيطان ما يوقعه في الإثم، وإذا كانت النظرة الأولى سهم مسموم من سهام ‏إبليس، فلاشك أن الثانية ستكون أشد سما من الأولى. وفوق هذا كله، فإنه لم يمتثل أصلا لأوامر الشرع، فكيف يعينه الله ‏تعالى على ما وقع فيه، والأجدر بالطبع ألا يعينه على ذلك، كما أنه لم يقصد أصلا برغبته في النظرة الثانية الإعراض عن ‏المرأة من أجل الله تعالى وإنما ليتأكد من حال المرأة التي إن لم تعجبه تركها، فالمسألة هنا ليست رضا الله عز وجل".‏


لقد جعل الله تعالى العين مرآة القلب، فإذا غض الإنسان بصره غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره أطلق القلب ‏شهوته، وبين العين والقلب منفذا وطريقا ينتقل بموجبه أحدهما إلى الآخر، يصلح بصلاحه ويفسد بفساده، فإذا فسد القلب ‏وخرب فسد النظر وخرب، وإذا فسد النظر وخرب فسد القلب وخرب. والنظرة كالسهم إن لم يقتل يجرح من يصوب ‏إليه. وهى أيضا كالشرارة التي تلقى في حشيش جاف إن لم تحرقه كله أحرقت بعضه. وفتنة النظر هي أصل لكل فتنة لأنها ‏أقرب الوسائل للوقوع في الحرام، ولهذا كان غض البصر هو العائق لزنا اليد والرجل والقلب والفرج، وقد قال النبي صلى ‏الله عليه وسلم " إن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر، واللسان ‏يزنى وزناه النطق، والرجل تزني وزناها الخطى، واليد تزني وزناها البطش، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو ‏يكذبه. وهذا يعنى أن غض البصر هو أصل لحفظ الفرج. والله تعالى لم يأمر بغض البصر مطلقا، بل أمر بالغض منه، فهو ‏يباح للمصلحة الراجحة، ويحرم إذا خيف منه الفساد ولم تعارضه مصلحة أرجح من تلك المفسدة، أما حفظ الفرج فإنه ‏واجب بكل حال لا يباح إلا بحقه ولذلك عم الأمر بحفظه. ‏


وضع العلماء قاعدة جليلة مؤداها." من ترك المألوفات والعوائد لأجل الله صادقا مخلصا من قلبه، فإنه لا يجد في تركها ‏مشقة إلا في أول وهلة، ليمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب، فإن صبر على تلك المشقة قليلا استحالت لذة " ويقول ‏العلماء كذلك: " من ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه، والعوض أنواع مختلفة، وأجل ما يعوض به الأنس بالله ومحبته ‏وطمأنينة القلب به وقوته ونشاطه وفرحه ورضاه عن ربه تعالى ".‏


ومن كرم الله تعالى على عباده كما قال العلماء: " أن الذى يترك الشهوات من أجله وإن كان ينجيه ويوجب له الفوز ‏برحمته لفعله هذا، فإنه فوق هذا يعطه من ذخائره، وكنوز بره، ولذة الأنس به والشوق إليه، والفرح والابتهاج به، مالم ‏يعط غيره. ولكن بشرط أساس هو ألا يكون في قلب هذا العبد أحد سوى الله، فالله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك. ويمنع ‏الله تعالى عطاؤه هذا عن العبد الذي في قلبه أحدا غيره حتى وإن كان من أهل العبادة والزهد والعلم"‏.


وذخائر الله وكنوزه لمن يغضون أبصارهم كثيرة منها أنه تعالى: " يمنحهم إلى جانب اللذات السابقة لذة أكمل، وهى لذة ‏العفة، وقد قال البعض في هذا: " والله للذة العفة أعظم من لذة الذنب"، كما يودع في قلوبهم أيضا نورا وإشراقا يظهر في ‏العين وفى الوجه. ومنها أنه تعالى:" يسد عنهم بابا من أبواب جهنم، فإن النظرة باب الشهوة المؤدية إلى وقوع الفعل، ثم ‏إلى جهنم " ومنها أنه تعالى: "يمن عليهم بفراسة صادقة يميزون فيها بين الحق والباطل والصادق والكاذب، يقول أهل العلم ‏في ذلك:"من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وغض بصره عن المحارم وكف نفسه عن الشبهات والتزم ‏الحلال لم تخطئ له فراسة" فمن غض بصره عن محارم الله عوضه الله بإطلاق نور بصيرته عوضا عن حبس بصره لله"‏.


ومنها أنه تعالى:" يودع في قلوبهم ثباتا وشجاعة وقوة، كما في الأثر " الذى يخالف هواه يفرق أي "يخاف" الشيطان من ‏ظله" ومنها أنه تعالى " يقوى عقولهم ويزيدها ويثبتها، فإطلاق البصر لا يحدث إلا من خفة العقل وطيشه وعدم ملاحظته ‏للعواقب" وخاصية العقل هي ملاحظة العواقب، ولو علم الذى يطلق بصره العواقب التي ستترتب على نظراته لما أقدم على ‏ذلك".‏


ومنها أنه تعالى: " يفتح لهم طرق العلم وأبوابه ويسهل لهم أسبابه، وذلك بسبب نور القلب الذى إذا استنار ظهرت فيه ‏حقائق المعلومات".‏


ولكن أين المخرج والعالم قد تغير، والإنسان يطلق بصره ليس بنظرة واحدة بل عشرات المرات في اليوم الواحد، ولو ‏أحصى نظراته منذ بلوغه إلى مماته لما كان مصيره إلا تنور جهنم تودع روحه فيه إلى يوم حشر جسده. ‏


‏ يشير العلماء إلى قاعدة تبين رحمة الله تعالى بعباده مؤداها: " من علامات مغفرة الله للعبد وأنه أراد به خيرا، أن يفتح ‏له باب التوبة من ذنب أذنبه حتى يكون هذا الذنب بابا له من أبواب الحسنات".


يقول العلماء: "إذا أراد الله بعبده خيرا فتح له من أبواب التوبة والندم والانكسار والذل والافتقار والاستعانة به وصدق ‏اللجوء إليه ودوام التضرع والدعاء و التقرب إليه بما أمكن من الحسنات ما تكون به تلك السيئة رحمة له، حتى يقول ‏الشيطان: يا ليتني تركته ولم أوقعه. وهذا معنى قول أحد العلماء " إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة ويعمل الحسنة ‏يدخل بها النار" قالوا كيف قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه منه مشفقا وجلاخائفا باكيا نادما مستحييا من ربه ‏تعالى ناكس الرأس بين يديه منكسر القلب له فيكون ذلك الذنب أنفع له من طاعات كثيرة بما ترتب عليه من هذه الأمور التي ‏بها سعادة العبد وفلاحه حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة، ويفعل الحسنة فلا يزال يمن بها على ربه ويتكبر بها ‏ويرى نفسه ويعجب بها ويستطيل بها ويقول فعلت وفعلت فيورثه من العجب والكبر والفخر والاستطالة ما يكون سبب ‏هلاكه فإذا أراد الله تعالى بهذا المسكين خيرا ابتلاه بأمر يكسره به ويذل به عنقه ويصغر به نفسه عنده، وان أراد به غير ‏ذلك تركه في عجبه وكبره وهذا هو الخذلان الموجب لهلاكه ".‏


وقد يتوب الإنسان عن النظر لكنه قد يعود، وكيف لا والحرام يحيط به ويشده من كل مكان. وهنا يذكر العلماء قاعدتين: ‏الأولى: "من أوجب الواجبات التوبة بعد الذنب" والذنب هنا ناتج عن تحقق أثر النظرة الأولى. والثانية: "أن ضمان ‏المغفرة لا يتوجّب تعطيل أسباب المغفرة" ولشرح ذلك جاء في الحديث: " أذنب عبد ذنبا فقال: أي رب أذنبت ذنبا فاغفر ‏لي، فغفر له، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم أذنب ذنبا آخر فقال، رب أصبت ذنبا فاغفر لي فغفر له، ثم مكث ما شاء الله أن ‏يمكث ثم أذنب ذنبا آخر فقال: رب أصبت ذنبا فاغفر لي، فقال الله: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنوب ويأخذ به، قد غفرت ‏لعبدي فليفعل ما شاء". وهذا لا يعنى إطلاق وإذن منه سبحانه وتعالى للإنسان بإتيان المحرّمات، وإنما يدل على أنه يغفر ‏له ما دام كذلك. أي "إذا أذنب تاب". وخلاصة ذلك كله: أن الواقع الإجتماعى القائم البعيد عن تعاليم الإسلام، وإن فرض ‏نفسه على بعض الناس، فإن أناسا آخرين قادرون على عدم الاستسلام لهذا الواقع بل فرض أنفسهم عليه وكسب ‏احترامه.فهل تستطيع امرأة اليوم أن تلوم رجلا لأنه غض بصره عنها؟ إنها تجله وتحترمه وتهابه لأنه هاب الله وأطاعه ‏وخالف المألوفات والعوائد.