العفو عند المقدرة وبخاصة في الدماء

منذ 2022-08-27

إن كثيرًا من الناس يظنون أن العفو والتجاوز يقتضي الضعف والذلة، وهذا باطل؛ فالعفو عند القدرة على الانتقام لا يطيقه إلا أفذاذ الكِرام، ولا يقتضي الذلة والهوان بحال، بل إنه في ذُرا الشجاعة والقوة وغلبة الهوى

الحمد لله أمر بالعدل والإحسان، ونَدَبَ للعفو والصفح وجعله من شعب الإيمان، وأثاب على ذلك جوائزَ الرحمة والغفران؛ قال سبحانه وبحمده في سورة النور بعد حادثة الإفك، وإقسام الصديق ألَّا ينفق على مِسْطَحٍ لما تكلم في عِرض الصديقة: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]، فقال الصديق: "بلى والله نحب أن يغفر الله لنا"، فعفا عنه وأعاد النفقة عليه، ولا غرو فهو صاحب النبي الأكرم الذي عفا عمن ظلموه وشتموه وسفَّهوه وقتلوا أصحابه، حتى إذا استمكن من رقابهم قال: «أقول لكم كما قال يوسف لإخوته» : {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92]، «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك والبقاء والدوام، فهو حي لا يموت والإنس والجن يموتون، وهو قيوم لا يغفُل ولا يتعب ولا ينام، والخليقة كلها بتدبيره تقوم، لو تركها لحظة واحدة ووكلها لنفسها لهلكت وعَطَبَتْ، فسبحانه لا إله إلا هو، اللهم إنا نسألك أن تصلي وتسلم وتبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد أمة الإسلام:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة.

 

عباد الله؛ اتقوا الله تعالى حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وازهدوا في الدنيا، يحببكم الله، وازهدوا فيما عند الناس، يحببكم الناس، واعلموا أن من مراتب الدين وشِيَم الصالحين، وسجايا الكرام: العفو عند المقدرة؛ فإن النفوس تضعف عند بسط الانتقام بسبب غليان مراجل الغضب بين حنايا الصدور، خاصة إن أسعف إيقاد شرر نار الانتقام والثأر أحاديث المجالس، ورسائل الهواتف، حينها يتبين المؤمن الحليم والعاقل الصبور حقًّا، فلا يُعرَف الحليم إلا عند الغضب، ولا الصبور إلا عند الابتلاء، ولا العفو إلا عند المقدرة، ولا يعني هذا تحريم العقوبة ولا ذمَّ الاقتصاص؛ فرب العزة يقول: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 41 - 43]، تبارك الله ذو الجلال والإكرام، فآيات الشورى قد بيَّنت الموضوع برمته، فالاقتصاص عدل لا سبيل لذامٍّ على من طلبه، فهو حقه الذي كفله له الإسلام، ولكن من أراد المراتب العالية فليتسلح بالصبر والمغفرة؛ {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43]، وهذه الآية عامة في كل حقوق العباد، سواء في المال أو العِرض أو الدم، ولا يخلو مؤمن من حقوق له أو عليه فيما بينه وبين عباد الله، والمؤمن يُبتلَى في الدنيا بأمور، والله ناظر ما هو صانع: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].

 

عباد الله: اعتبروا الجزاء من جنس العمل بما رواه الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حُوسب رجل ممن كان قبلكم، فلم يوجد له من الخير شيء، إلا أنه كان رجلًا موسرًا، وكان يخالط الناس، فكان يقول لغلمانه: تجاوزوا عن المعسر، قال: فقال الله عز وجل لملائكته: نحن أحق بذلك منه، تجاوزوا عنه».

 

ألَا ما أسمى العفو وأجمله! وأحسن الصفح وأرفعه! وتأملوا - عباد الله - ما جاء في غزوة تبوك لما أمر نبي الله صلى الله عليه وسلم بالجهاد بالمال والنفس؛ فجاء البكَّاؤون، وهم سبعة، يستحملون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92]، فقام علبة بن يزيد رضي الله عنه، فصلى من الليل وبكى، ثم قال: ((اللهم إنك أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلمٍ بكل مظلمةٍ أصابني فيها؛ من مالٍ، أو جسدٍ، أو عرضٍ، ثم أصبح مع الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أين المتصدق هذه الليلة» ؟ فلم يقم أحد، ثم قال: «أين المتصدق» ؟ فلم يقم، فقام إليه فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: «أبْشِرْ، فو الذي نفس محمد بيده، لقد كُتبت في الزكاة المتقبَّلة».

 

إن العفو عن الناس رغبة فيما عند الله والدار الآخرة لا يخرج إلا ممن صفت نفوسهم، وزكت أديانهم؛ فعن أنسٍ رضي الله عنه قال: ((كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ي «طلُع عليكم الآن رجل من أهل الجنة»، فطلع رجل من الأنصار، فلما كان الغد، قال مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل، ثم في اليوم الثالث، فتبِعه عبدالله بن عمرو بن العاص، فقال: إني لاحيت أبي فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي، فعلت، قال: نعم، قال أنس: كان عبدالله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث، فلم أره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تعارَّ من الليل تقلب على فراشه، فذكر الله تعالى، وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبدالله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فكدت أحتقر عمله، قلت: يا عبدالله لم يكن بيني وبين أبي غضبٌ، ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة»، فطلعت أنت الثلاث مراتٍ، فأردت أن آويَ إليك لأنظر عملك؛ لأقتدي به، فلم أرَك تعمل كثيرَ عملٍ، فما الذي بلغ بك ما قال؟ قال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي على أحدٍ من المسلمين غشًّا، ولا أحسد أحدًا على خيرٍ أعطاه الله إياه، قال عبدالله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق)).

 

نعم، لقد ربَّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على معالي الأمور، وسلامة الصدور، وصفاء السرائر، فقد كان يتلو عليهم قول الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 134]؛ قال ابن كثير رحمه الله: "أي: مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم، فلا يبقى في أنفسهم موجِدة على أحد، وهذا أكمل الأحوال".

 

وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كظم غيظًا وهو قادر على أن يُنْفِذَهُ، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يُخيَّر من أي الحور العين شاء»؛ (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني).

 

وقال سعيد بن سويد: صلى بنا عمر بن عبدالعزيز الجمعة، ثم جلس، وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل قد أعطاك فلو لبست، فنكس مليًّا، ثم رفع رأسه، فقال: "إن أفضل القصد عند الجدة، وأفضل العفو عند المقدرة"، نعم، فالعفو عند المقدرة من شُكْرِ المقدرة.

 

أيها الناس: إن العفو شعار الصالحين الأنقياء، ذوي الحلم والأناة والنفس الرضية؛ لأن التنازل عن الحق هو من إيثار الآجِلِ الباقي على العاجل الفاني، وبسط لخُلُقٍ نقي تقيٍ من جِبْلَةٍ كريمة، وشيمةٍ عزيزة.

 

إن العفو عن الآخرين ليس بالأمر الهين، بل لا بد فيه من مجاهدة للنفس وغير النفس، ومن انتصر على غضبه، وقهر حظ نفسه وإن كان بحق، فهو الشديد حقًّا؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصُّرْعَة ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب»؛ (متفق عليه)، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضِبَ".

 

وقال جل جلاله آمرًا نبيه والمؤمنين بالعفو والصفح والمغفرة: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109].

 

وقد جاء عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: "بلغنا أن الله تعالى يأمر مناديًا يوم القيامة فينادي: من كان له عند الله شيء، فليَقُمْ، فيقوم أهل العفو فيكافئهم الله بما كان من عفوهم عن الناس".

 

أيها المسلمون: إن كثيرًا من الناس يظنون أن العفو والتجاوز يقتضي الضعف والذلة، وهذا باطل؛ فالعفو عند القدرة على الانتقام لا يطيقه إلا أفذاذ الكِرام، ولا يقتضي الذلة والهوان بحال، بل إنه في ذُرا الشجاعة والقوة وغلبة الهوى؛ كما قال الأول:

ويشتموا فترى الألوان مسفرةً   ***   لا صفح ذلٍّ ولكن صفح أحلام 

 

 

وذكر البخاري عن إبراهيم النخعي قوله: "كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا"، قال الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما: "لو أن رجلًا شتمني في أذني هذه، واعتذر في أذني الأخرى، لقبلت عذره"، وقال جعفر الصادق رحمه الله: "لأن أندم على العفو عشرين مرةً أحب إليَّ من أندم على العقوبة مرة واحدة"، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلًا، فقل: يا أخي، اعفُ عنه؛ فإن العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو ولكن أنتصر كما أمرني الله عز وجل، فقل له: إن كنت تحسن أن تنتصر، وإلا فارجع إلى باب العفو؛ فإنه باب واسع، فإنه من عفا وأصلح فأجره على الله، وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلب الأمور؛ لأن الفتوة هي العفو عن الإخوان".

 

وهذا الإمام أحمد رحمه الله وقد سبق في هذا الباب علمًا وعملًا قد قال: "من دعا فقد انتصر"؛ أي: من دعا على ظالمه فقد أخذ شيئًا من حقه المستوجب عليه، فمن أراد حقه كاملًا موفورًا، فلا يدعو على ظالمه؛ لأنه بذلك يأخذ حقه منه عاجلًا، أما إن سكت فيبقى حقه في الآخرة، يأخذه من حسناته، كما في حديث المفلس، فإن فَنِيَتْ حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ من سيئاته، فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار، هذا كله لمن لم يعفُ، لكن من عفا، فحقه موفور ومضاعف عند الله؛ فالله عز وجل يقول: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، وهذا غاية الإغراء والترغيب؛ فقد أطلق الأجر، فما ظنك بأجرٍ تكفَّل به الكريم الغني الوهاب؟! ولكن هذا في العفو الذي فيه إصلاح، أما العفو الذي يلحقه فساد وإفساد، فليس من هذه الآية بسبيل، فمن غلب على الظن إجرامه بعد العفو، فالعقوبة خير، ومن غلب على الظن صلاحه، فالعفو خير، ومن جُهل حاله، فالعفو خير؛ لأن الأصل في المؤمنين السلامة.

 

هذا وإن المظالم أمرُها عند الله عظيم؛ فقد شدَّد الله في الظلم أيما تشديد، وحذَّر منه وأبدأ وأعاد، كظلم النفس بالمعاصي، أو العباد بالبغي والعدوان وحرمان الحقوق، وإن ديوان المظالم بين يدي الجبار جل جلاله يوم القيامة؛ ((ومن كانت عنده لأخيه مظلمة، فليتحلَّله اليوم، قبل ألَّا يكون درهم ولا دينار، إنما هي الحسنات والسيئات))، وإن من أعظم المظالم قتلَ المؤمن، بل هي أعظمها بعد الكفر والشرك؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]،

وفي المسند بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «يجيء المقتول يوم القيامة، آخذًا رأسه، إما قال: بشماله، وإما بيمينه، تشخَب أوداجه، في قِبل عرش الرحمن تبارك وتعالى، يقول: يا رب، سَلْ هذا: فيمَ قتلني» ؟))، ومع ذلك، فيبقى للعفو بين المؤمنين في الدنيا موضعًا، فقد ذكر أهل العلم أن قتل المؤمن بغير حق يتعلق به ثلاثة حقوق: حق لله تعالى لا يسقط إلا بالتوبة النصوح، وحق للميت لا يسقط في الدنيا بحال، بل لا بد من الوقوف بين يدي الديان يوم القيامة لأخذ حق القتيل من قاتله كاملًا، حتى وإن عفا أهل الدم، فحق القتيل باقٍ معه لا يزول حتى يفصل الله بينه وبين قاتله يوم الدين، أما الحق الثالث، فهو حق أهل الدم فإن شاؤوا القصاص، فهو حقهم بنص القرآن، وإن عفَوا وغفروا فهو أفضل؛ فالله تعالى يقول: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]، وقال: ﴿  «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ»  ﴾ [النور: 22]، مع التنبيه بأن حقهم منفصل تمامًا عن حق القتيل، فلا يتضرر بالعفو ولا ينتفع بالقصاص، ونبي الله صلوات الله وسلامه عليه لما أعطى ولي الدم القاتل برمته، وذهب به مقيدًا ليقتله، قال بعدما أدبر الرجل: «إن قتله فهو مثله»، فعاد الرجل فأطلقه لله، ولله فقط، قال العلماء: ومعنى فهو مثله: أي: إنه إن جازى القاتل بالقتل فقد استوفى حقه بالقصاص، ولم يبقَ له أجر العفو.

 

عباد الله: إن الانتصار للنفس من الظلم لَحَقٌّ وعدل، ولكن العفو هو الكمال والتقوى والإحسان؛ قال الله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40]، فالعدل مباح، والإحسان مستحب.

 

تأملوا - يا إخوتاه - هذا الخبر العجيب، والصفحَ النادر، والعفو الكامل: روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: «لقد لقيت من قومكِ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفِقْ إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك مَلَكَ الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال، وسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك؛ لتأمرني بأمرك فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا».

 

وجاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: ((كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ضربه قومه فأدمَوه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون))؛ (متفق عليه).

 

وروى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها، فقيل له: ألا نقتلها؟ قال: لا)).

 

العفو والصفح ومقابلة الإساءة بالإحسان: فهذا سبب لعلو المنزلة، ورفعة الدرجة، وفيه من الطمأنينة، وشرف النفس، وعزها؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: «وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله»؛ (رواه مسلم).

 

وبالعفو والإحسان، يتحول الكاره إلى محبٍّ، والعدو إلى صديق، فيرى كيف قُوبل خطؤه بالعفو والإحسان، فيثوب إلى الرشد والصواب، وتنطفئ من داخله الكراهية، ولا يملك إلا أن يكون مع أخيه كأنه ولي حميم؛ قال الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34، 35].

 

لقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في العفو والتسامح، فتحول أمام إنسانيته الكريمة العدوَّ إلى محبٍّ؛ روى ابن هشام: ((أن فضالة بن عمير الليثي أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضالة» ؟ قال: نعم فضالة يا رسول الله، قال: «ماذا كنت تحدث به نفسك» ؟ قال: لا شيء كنت أذكر الله، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «استغفر الله»، ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله أحب إليَّ منه)).

 

ولما قيل له: يا رسول الله، ادعُ على ثقيف، فقال: «اللهم اهد ثقيفًا، وائت بهم»؛ (رواه أحمد والترمذي).

 

وقد كانوا رضوان الله عليهم قمة في سلامة الصدر والعفو؛ ولهذا أثنى الله عليهم بقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 9، 10].

 

وعن أبي هريرة: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على أناس جلوسٍ، فقال: «ألا أخبركم بخيركم من شركم» ؟ قال: فسكتوا، فقال ذلك ثلاث مرات، فقال رجل: بلى يا رسول الله، أخبرنا بخيرنا من شرنا، قال: «خيركم من يُرجَى خيره، ويُؤمَن شره، وشركم من لا يُرجى خيره، ولا يُؤمن شره»؛ (قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني).

 

وانظروا كيف تسامى خُبَيب بن عدي رضي الله عنه لما أُخذ أسيرًا، قالت بنت الحارث، وكانت مشركة في مكة سُجن في بيتها، فحين سجنوه، استعار من بنت الحارث موسًى لكي يستحِدَّ بها، فأعارته، قالت بنت الحارث: فأخذ ابن لي وأنا غافلة حتى أتاه، فالتفت فوجدته قد أجلسه على فخذه والموس في يده، قالت: ففزِعت فزعة عرفها خبيب في وجهي، فقال: تخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك، ثم قالت: والله ما رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب، والله لقد وجدته يومًا يأكل من قطف عنبٍ في يده، وإنه لموثوق في الحديد، وما بمكة ثمر.

 

عباد الله: ثمة تأكيد على عموم الحض على العفو في التعامل مع الآخرين بسؤال الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا رسول الله، كم نعفو عن الخادم؟ فصمت ثم أعاد عليه الكلام، فصمت، فلما كان في الثالثة، قال: «اعفوا عنه في كل يومٍ سبعين مرةً»؛ (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

 

أيها المؤمنون: إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضربوا لنا أروع الأمثلة في عفوهم وصفحهم عن الناس، فقد تخلَّقوا بأخلاق نبيهم في العفو والصفح؛ فقد روى البخاري عن ابن عباس، عن عيينة بن حصن، أنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا ابن الخطاب، ما تعطينا الجَزْل، ولا تحكم فينا بالعدل، فغضِب عمر، حتى همَّ أن يُوقع به، فقال له الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين، إن الله قال لنبيه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين، فقال ابن عباس: فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافًا عند كتاب الله عز وجل.

 

وهذا زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنه قد جاءته جاريته تصب الماء عليه، فسقط الإبريق من يدها على وجهه، فشجَّه، فقالت: والكاظمين الغيظ، فقال: كظمت غيظي، قالت: والعافين عن الناس، قال: عفوت عنكِ، قالت: والله يحب المحسنين، قال: أنتِ حرة لوجه الله، ولما عفا عن أحد الأعراب وقد قدر على عقوبته هتف به الرجل: أشهد أنك من أولاد الأنبياء.

 

ولا عجب؛ فهو سليل بيت النبوة، والخير من معدِنه لا يُستغرب، وقد سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «لم يكن فاحشًا، ولا متفحِّشًا، ولا صخابًا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح»؛ {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 36، 37].

 

عباد الرحمن: هل تعلمون أن العفو قد تكرر ذكره والحض عليه، واستحبابه في القرآن العزيز ثماني مرات، فيما لم يُذكَر القصاص إلا مرتين، ولا يعزُب عن أذهان المؤمنين مغزى تلك الإشارات القرآنية الجليلة.

 

فمن أخذ بالعقوبة، فهي حقه المشروع، لكن ما هي إلا تلك الساعة، وينسى لذة الانتقام، ويفوته موكب الأجر وحظوظ الكرامة الإلهية.

 

ألا واعلموا - يا عباد الله - أن من أحب الأعمال إلى الله تعالى وأبقاها وأنماها إصلاحَ فساد ذات البين؛ قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]، وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة» ؟ قالوا: بلى، قال: «إصلاح ذات البين، فإن إفساد ذات البين هي الحالقة»؛ (رواه أبو داود)، وفي رواية: «هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين».

 

فليكن من صالح أعمالك التي تكنزها لقبرك وحشرك، وميزانك وصحيفتك إصلاحُ ذات البين ممن عرفت وممن لم تعرف، وليكن ديدنك الإصلاح بين المتخاصمين من المؤمنين حيثما كانوا، واحتسب بين يدي ربك كلماتٍ ممضةٍ ستسمعها، فهذا من فروع الابتلاء، فإن وفقك الله، فلا تحزن، ولا تعجز، ولا تمَلَّ، ولا تضجر، واعلم أن الله مع الصابرين المحسنين المصلحين، والساعي بالإصلاح بين الخلق قد يؤذَى، لكن من كان مع الله، كان الله معه، ومن كان الله معه، فمعه التوفيق بحذافيره في الدنيا والآخرة.

 

اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، اللهم أصلح ذات بيننا، وأصلح فساد قلوبنا، واسْلُل سخائمها، واجمعنا في الدنيا على طاعتك ومرضاتك، وفي الآخرة في أعلى جناتك، يا حي يا قيوم يا رب العالمين.

عبد الله بن عمر الدميجي

عميد كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى

  • 1
  • 0
  • 1,614

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً