الوسطية في الإسلام.. معناها وتطبيقاتها
تعتبر الوسطية في الإسلام واحدة من أبرز خصائص هذا الدين، وهي أيضا الركيزة الكبرى لهذه الأمة التي ارتضت بالإسلام وشريعته وأحكامه.
- التصنيفات: - آفاق الشريعة -
تعتبر الوسطية في الإسلام واحدة من أبرز خصائص هذا الدين، وهي أيضا الركيزة الكبرى لهذه الأمة التي ارتضت بالإسلام وشريعته وأحكامه.
والوسطية في لغة العرب تدور على ثلاثة معان:
المعنى الأول: العدل والعدالة، كما في سورة القلم: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ}[القلم:28]، ومعنى أوسطهم أي أعدلهم. قال الشاعر:
همُ وسط يرضى الأنام بحكمهم .. .. إذا نزلت إحدى الليالي العظائم..... أي هم عدول.
وقال سبحانه عن أمة الإسلام: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} أي عدولا أخيارا. "والشهادة لا تقوم إلا بالعدل، ولا تقبل إلا من العدل"[انظر فتح الباري: ج13، ص613].
المعنى الثاني: الخيرية
قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[آل عمران:110]. قال الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان: "بين وصف الأمة بالخيرية ووصفها بالوسطية تلازم، إذا أن الوسط في لغة العرب الخيار"[أضواء البيان: ج1، ص87], وكما في قولهم: "كان رسول الله أوسط العرب نسبا" أي خيرهم نسبا.
المعنى الثالث: الوسط بين طرفين، والفضيلة بين رذيلتين، أو الحسَن بين سيئتين.
كانت هي الوسط المحميّ فانفرقت .. بها الحوادث حتى أصبحت طرفا
قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29}، وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا}[الفرقان:67].
والدلالة الاصطلاحية لمفهوم الوسطية أنها تعني التوازن والاعتدال بين طرفي الغلو والتقصير، والإفراط والتفريط، والإسراف والتقتير.. فكل أمر له طرفان مذمومان، إما إلى إفراط، وإما إلى تفريط، والوسط هو التوازن بينهما.
مظاهر وتطبيقات
وللوسطية مظاهر وتطبيقات في دين الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقا وأعمالا ومعاملات، حتى إنها حازت من كل جانب من هذه الجوانب خيره وأفضله وأحسنه.. ومن مظاهر الوسطية في الإسلام:
أولا: الوسطية في العقيدة
وأول ما يدخل في هذه الوسطية وسطية العقيدة، والتي قامت أسسها على أمرين: اعتبار الفطرة واحترام العقل، والاستنارة بنور الوحي.
ذلك أن الله فطر الخلق على الحنيفية السمحة كما جاء في كتاب الله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَاۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه}[الروم:30]. وكما في الحديث القدسي: «إنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وإنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عن دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عليهم ما أَحْلَلْتُ لهمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بي ما لَمْ أُنْزِلْ به سُلْطَانًا»(رواه مسلم).
لكن لما كانت هذه الفطرة لا تستقل وحدها بمعرفة الخير والشر، والاطلاع على المغيبات، أرسل الله الرسل وأنزل عليهم الكتب وشرع الشرائع لتستقيم الفطر على قانون الله، ولتبين للناس ما غاب عنهم مما لا تدركه العقول بمفردها، ولذلك قال سبحانه {نور على نور} أي نور الوحي مع نور الفطرة.. فما لا يستقل العقل بمعرفته أمده الشرع بنور الهداية فيه، وتبيين الصواب من الخطأ، والحق من الباطل حتى تقوم حجة الله على الناس ويقطع عنهم المعاذير. فما بين كون الله المنظور وكتاب الله المسطور تستقيم الفطرة على هذه الوسطية.
ثانيا: الوسطية في الشعائر التعبدية
وهو تقوم على مبدأ التلازم بين الظاهر والباطن، فالعبادة فيها حركات من ركوع وسجود، وفيها أعمال قلبية من خشوع واستشعار لعظمة الله.. والوسطية تمثل تلازم الظاهر والباطن.
ثالثا: الوسطية في السلوك الإنساني
وذلك بالتوفيق بين حظ الدين وحظ الدنيا، وبين حق النفس والعقل والبدن، وبين حق الله وحقوق العباد.. قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}[القصص:77]، وهذا ما عبر عنه الحديث حين قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: «قُمْ ونَمْ، وصُمْ وأَفْطِرْ، فإنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا».
فالإنسان عقل وجسد وروح: فهو مخلوق من قبضة من طين الأرض، ونفخه من روح الله. ولابد من التوازن بينها:
ففي جانب العقل: لابد من تغذيته بالعلوم والمعارف الدينية والدنيوية، وأن يفتح له نوافذ الفكر على كل جديد ومفيد، ويقرأ في التاريخ الماضي والحاضر، ويأخذ من كل شيء أحسنه وأجمله.
وفي جانب الروح: لابد من التزكية بالعبادات والأذكار والأوراد وما يسمو بالنفس ويرقيها.
وأما البدن: فمن حقه على صاحبه أن ينظفه إذا اتسخ، وأن يقويه إذا ضعف، وأن يطعمه إذا جاع، وأن يريحه إذا تعب، وأن يبحث له عن الدواء إذا مرض، وأن يحفظه من كل ما يؤذي ويضر، فلا ضرر ولا ضرار.
رابعا: الوسطية في الدعوة
وهي تقوم على مبدأين: التيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة.
وهذا أصله ما رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعَثه ومُعاذَ بنَ جبلٍ إلى اليَمنِ فقال لهما: «بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا».. انظر صحيح البخاري وصحيح ابن حبان.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لم يبعثني معنِّتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً مُيسراً» (رواه مسلم). وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع عن هذه الأمة الإصر والأغلال التي كانت على الأمم السابقة كما في قوله سبحانه {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}[الأعراف:157].
ولهذا قال الزاهد الفقيه، والإمام الورع سفيان الثوري: "إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشدد فيحسنه كل أحد".
خامسا: الوسطية في التجديد والاجتهاد
وهذه تقوم أيضا على ركنين: ارتباط بالأصل، واتصال بالعصر.
أما الارتباط بالأصل فهو الارتباط بهذه المرجعية الشرعية التي تقوم على الثوابت في المقاصد الكبرى: وهي الحفاظ على الدين، وعلى النفس، وعلى العقل، والمال، والنسل أو العرض.. والمحافظة على قطعيات الشريعة وأحكامها، وعلى الفرائض الركنية وعلى القيم الخلقية.
ولما كانت الشريعة وسعت الأزمان والعصور كان لابد أن يمر ذلك عبر آلة الاجتهاد والتجديد، فالثبات في المقاصد والأحكام القطعية، والمرونة في الوسائل والآليات.
فأصول الأحكام تنضوي تحتها تفاصيلُ الوقائع، فيأتي الاجتهاد المحكم ليستخرج لكل حادث حكما فلا يخلو واقع أو فعل من حكم للشرع فيه.. وبهذا تستمر مرجعية هذه الشريعة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
سادسا: الوسطية في الأحكام
وهي تقوم على: تعظيم الأصول وتيسير الفروع؛ لأن تعظيم الأصول يدخل في قوله تعالى: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}[الحج:32]، وهذا يقتضي أن من يتصدر للفتوى في الأحكام ينبغي عليه أن يكون متأهلا لها، ومن تكلم في الأحكام بلا رسوخ قدم فقد جازف، وربما أوقع الناس في الفتنة والبلبلة والاضطراب في قضايا الأمة العليا ومصالحها الكبرى. وهذا من الفتنة العظيمة التي ينبغي أن يتصدى لها أولو الأمر والعلم حتى لا يسأل إلا من كان أهلا للسؤال، ولا يستفتى إلا من كان متأهلا للإفتاء كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[النحل:43]، وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء:83]، وقال: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرا}[الفرقان:59].
سابعا: الوسطية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الأمر بالمعروف هو من أسباب خيرية هذه الأمة بل هو أساسها: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[آل عمران:110].
لكن لابد من النظر إلى المآلات والآثار التي تترتب على الأمر والنهي، فإذا كانت المفاسد أكثر من المصالح لم يجز الإنكار، حتى قال بعض الأئمة: "إن النهي عن المنكر هنا هو في ذاته منكر"، وأما إذا كانت المصالح أرجح وجب أن يقوم به من تأهل له. ولهذا يلزم فيمن ينكر أن يكون عالما بالمفاسد والمصالح.
والدليل على اعتبار فقه الموازنات هو كتاب الله وسنة رسوله، فقد قال ربنا سبحانه: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}[الأنعام:108].
ومن السنة ما رواه البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: «يا عائِشَةُ، لَوْلا أنَّ قَوْمَكِ حَديثُو عَهْدٍ بشِرْكٍ، لَهَدَمْتُ الكَعْبَةَ، فألْزَقْتُها بالأرْضِ، وجَعَلْتُ لها بابَيْنِ: بابًا شَرْقِيًّا، وبابًا غَرْبِيًّا، وزِدْتُ فيها سِتَّةَ أذْرُعٍ مِنَ الحِجْرِ، فإنَّ قُرَيْشًا اقْتَصَرَتْها حَيْثُ بَنَتِ الكَعْبَةَ». ورغم أن بناء الكعبة على قواعد إبراهيم من المعروف والخير الكثير إلا أنه لم يفعل خوف الفتنة على الناس فإنهم كانوا قريبي عهد بشرك وكفر، ونفوسهم لا تطيق مثل هذا، فتركه صلوات الله عليه وسلامه لهذا الاعتبار.
ومن جميل قول سفيان الثوري رحمه الله: "لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى. عدل بما يأمر، عدل بما ينهى. عالم بما يأمر، عالم بما ينهى" [رواه أبوبكر الخلال في "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر": ص24].
ثامنا: الوسطية في التفاعل الحضاري
فنحن نعيش في عالم سقطت فيه حواجز الزمان والمكان، وليس لنا من سبيل أن ننكفئ على أنفسنا أو نتقوقع على ذواتنا، فتبادل المنافع ورعاية المصالح تقتضي من أمة الإسلام أن تمد الجسور بينها وبين بقية الأمم.. والوسطية هنا تقوم على ركيزتين:
تفاعل إيجابي من غير ذوبان، وخصوصية حضارية من غير انكفاء.
أي أن الحكمة ضالة المؤمن يلتمسها من أي وعاء خرجت، والحضارات تتقاسم أقدارا من القيم فنلتمس الحِكَم النافعة كما التمس المسلمون في بداية الإسلام واقتبسوا من فارس والروم نظام البريد ونظام السجون وتدوين الدواوين وتمصير الأمصار، كما قدموا للحضارة الأوروبية من علوم الأندلس وعلوم الإسلام فحدث هذا التفاعل الإيجابي بين الأخذ والعطاء.
ففي التفاعل الحضاري، نرعى المنافع ونتبادل المصالح لتحقيق المنافع وجلب المصالح ودرء المفاسد في ظل موازين لا تختل فيها قيم العدالة.
تاسعا: الوسطية في رعاية فقه الاختلاف
نحن نؤمن أن الله وحد الأمة على مصدر الكتاب ووحي السنة وعلى وحدة القبلة، وعلى وحدة الهدف والمصير المشترك، ولكن جعل من رحمته أن يقع الاختلاف في فروع الشريعة؛ فالقرآن نزل باللغة العربية وفيها الخاص والعام، والمطلق والمقيد، والحقيقة والمجاز.
وشاء الله ألا يجعل آيات القرآن كلها محكمة وإنما كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}[آل عمران:7]. والمتشابهات تحتمل أكثر من وجه في التفسير والأحكام، وهذا يعني أنه لابد من حتمية الخلاف.
وهذا الاختلاف لا يعني الفرقة بالضرورة، وإنما الوحدة التي ندعو إليها وحدة الأصول والمقاصد والكليات والمصالح، وإن وقع اختلاف في الفروع فهذا لا يؤدي إلى تقاطع وتهاجر وتدابر وتشاحن، وإنما رحمة..
فالاختلاف في الفروع سعة وثروة ولهذا اجتهد الصحابة واختلفوا في أمور جزئية كثيرة، ولم يضيقوا ذرعا بذلك، بل نجد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز يقول عن اختلاف الصحابة رضي الله عنهم: "ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم يكن لنا رخصة".
ولقد تتلمذ الأئمة بعضهم على بعض، واختلفت اجتهاداتهم فما تقاطعوا ولا تدابروا، وما منعهم هذا أن يثني بعضهم على بعض، ويعترف بعضهم بفضل بعض، وهكذا كلما رجح العقل وتم الفهم واتسع الأفق ورسخ العلم، سارت الأمور كما قدر لها وأريد منها، وإنما يقع الشقاق والاضطراب حينما يجهل الناس معنى الوسطية ومفهومها في دين الله.