توحيد الألوهية -1

منذ 2022-10-06

العبادة ببساطة هي الطاعة المطلقة لله عز وجل، أو هي اسم جامع لما يحبه الله من الأعمال الظاهرة والباطنة.

 

الحمد لله الواحد المعبود، عمّ بحكمته الوجودَ، وشمِلَت رحمتُه كلَّ موجود، أشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن مُحمدًا عبدُه ورسوله صاحب المقام المحمود والحوض المورود، صلى الله وسلم عليه وبارك، وعلى آله وأصحابه الأتقياءِ الركَّعِ السجودِ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد

ذكرنا في لقائنا السابق القليل من فضل الله على عباده ومخلوقاته وسبحت قلوبنا في الكون الفسيح تتفكر في عظمة الخالق وإبداعه ورعايته لنا ونعمه علينا وعرفنا معنى توحيد الربوبية والذي يطلق البعض عليه تعبير "توحيد الله بأفعاله"، فما أثر تلك المعرفة عليك وما هو موقفك من هذه النعم أو ما هو واجبك تجاه ربك بعد معرفتك أنه الخالق  الذي يرزقك ويتولاك بنعمه ويحيطك بعنايته؟

 

في لقائنا الماضي ذكرنا قول الله عز وجل: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ (32)) سورة يونس

وقلنا أن نتذكر هذه الآية والتي تذكرنا بالنتيجة الطبيعية لمعرفتنا لربوبية الله وهي: أن نتقيه، أن نعبده وحده لا شريك له، أن نشكره على نعمه.

وذلك الإحساس بالشكر لنعم الله هو الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتفطر قدماه وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه .. قالت عائشة : يا رسول الله أتصنع هذا وقد غُفِرَ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟! ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا ) رواه مسلم، فماذا نفعل نحن مع كل هذه المعاصي وهذا التقصير؟ إذا كنا لا نستطيع أن نعد نعم الله علينا بل لا نستطيع أن نعد النعم الموجودة في نعمة واحدة؛ قال تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّوا۟ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَاۤۗ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَظَلُومࣱ كَفَّارࣱ﴾ [ابراهيم : ٣٤]، فلا أقل من أن نعبر عن شكر الله على نعمه بعبادته وحده لا شريك له، واتباع أوامره واجتناب نواهيه، فهل حققنا معنى توحيد الألوهية حقا؟

 

تخيل وأنت تعطي ابنك هدية فإذا به يذهب ليشكر صديقه عليها! ولله المثل الأعلى، كيف بعد كل هذه النعم العظيمة من الله نجد البعض يصرف عبادته لغير الله أو يشرك معه عبادة غيره، أو يعصيه؟

وليس فقط عبادة الأصنام والأوثان وغيرها من المعبودات المعروفة، وإنما أيضا عبادة المال أو الزوج أو الأولاد، ولا تستغربن من ذلك فكم من امرأة فضلت حب زوجها على حب الله، وطاعة زوجها على طاعة الله.

كم من إنسان عبد المال أو اتخذ هواه وشهواته إلاها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تعِس عبدُ الدينارِ ، تعِس عبدُ الدرهمِ ، تعس عبدُ الخميصةِ ، تعس عبدُ الخميلةِ ، تعِس وانتكَس وإذا شيكَ فلا انتقشَ) رواه البخاري؛ والخميصة: ثوبٌ أسْوَدُ أو أحمرُ له أعْلامٌ، والخميلة: القطيفة.

وهذا ما يتحدث عنه النوع الثاني من أنواع التوحيد وهو توحيد الألوهية.

 

عندما نقول الألوهية نتذكر فورا اسم الله "الإله"، ومعناه: المعبود، أو المستحق للألوهية والعبادة.

إذا توحيد الألوهية هو : إفراد الله عز وجل بجميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة قولاً وعملاً، ونفي العبادة عن كل ما سوى الله كائناً من كان، كما قال تعالى : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } (23) سورة الإسراء .

وقال تعالى : {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (14) سورة طـه .

وغير ذلك من الآيات .

وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله؛  أي لا معبود "بحق" إلا الله.

 لا يُعبد من دون الله لا عيسى ولا مريم ولا ملك ولا شجر ولا بقر ولا شمس ولا كائن من كان، وكل من عبد من دون الله فعبوديته باطلة.

 

وشهادة أن لا إله إلا الله تتضمن نفي (لا إله) وإثبات (إلا الله)، فنثبت جميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة لله، وفي نفس الوقت ننفي العبادة عن كل ما سوى الله كائنا من كان كما قال تعالى : {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} (36) سورة النساء .

 

ويمكن أن يعرف أيضا بأنه : توحيد الله بأفعال العباد .

لأننا هنا نتحدث عن أفعال العباد، بأن تكون كل أفعالهم من صوم وصلاة وزكاة وتوكل ودعاء وغيرها تكون خالصة لله.

 

وهذا النوع من التوحيد هو الذي وقع فيه الخلل، ومن أجله بعثت الرسل، وأنزلت الكتب، ومن أجله خلق الخلق، وشرعت الشرائع، وفيه وقعت الخصومة بين الأنبياء وأقوامهم ، فأهلك المعاندين ونجى المؤمنين ، فالقلوب والعقول والفطر السليمة تدرك وجود خالق لها ولكن هل عبدت هذا الخالق وحده أم أشركت معها غيره؟ فمشركوا مكة كانوا يؤمنون بوجود الله فهو فطرة مغروسة في النفوس، قال تعالى: ﴿ وَلَئن سَأَلۡتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَحۡیَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِ مَوۡتِهَا لَیَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ ﴾ [العنكبوت : ٦٣]، وقال تعالى: ﴿ وَلَئن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَیَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ ﴾ [لقمان : ٢٥]، ولكن المشكلة في أنهم صرفوا العبادة لغيره، وحول هذا يدور معنى توحيد الألوهية.

فمن أخل به بأن صرف شيئا من العبادة لغير الله فقد خرج من ملة الإسلام، ووقع في الفتنة، وضل عن سواء السبيل، نسأل الله السلامة .

 

ومن أجل توحيد الألوهية أنزل الله الرسل؛ فكان أول ما بدأ به الرسل كلهم دعوتهم هو لا إله إلا الله، قبل كل التشريعات وبيان الحلال والحرام، ولهذا نجد اختلاف الشرائع السماوية في التحليل والتحريم، إلا أن دعوتهم الموحدة كانت للا إله إلا الله، لبيان أنه لا معبود لحق إلا الله، الإله الذي خلقهم واستحق أن تتوجه إليه القلوب كلها والجوارح كلها بمختلف العبادات، وأن تتبرأ من عبادة سواه؛ قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل: 36]، أي أن كل الأنبياء دينهم واحد هو التوحيد، وإن اختلفت التشريعات

 

وقد نسمع أكثر من مصطلح يعبر كلهم عن توحيد الألوهية، فله أكثر من اسم :

1 توحيد الألوهية: لأنه مبني على التأله لله وهو التعبد المصاحب للمحبة والتعظيم.

2 توحيد العبادة : لأن العبد يتعبد لله بأداء ما أمره به واجتناب ما نهاه عنه .

3 توحيد الطلب والقصد والإرادة : لأن العبد لا يطلب ولا يقصد ولا يريد إلا وجه الله سبحانه فيعبد الله مخلصا له الدين.

 

وتوحيد الألوهية الغاية من خلق الإنسان فلم يخلقنا الله سبحانه وتعالى ويسخر لنا الكون بأسره عبثا تعالى الله عن ذلك. بل إن الجمادات لها وظيفة؛ فالقلم نكتب به، والملعقة نأكل بها، وهكذا، وإذا انتقلنا إلى النبات لوجدنا أن هناك نباتات للأكل ونباتات أخرى للزينة، وحتى لو لم تكن  للزينة أو للأكل  فهي ضرورية لتنقية الجو من ثاني أكسيد الكربون، والحيوانات نأكل لحمها أو نستخدمها في الانتقال وفي حرث الأرض و في الصيد، وغيرها.

لم يخلق الله الحكيم شيئا عبثا، بل خلق كل شيء لحكمة وهدف عرفنا ذلك أم لم نعرف، بل حتى المخلوقات التي نظن أنها ضارة أو لم تستطع عقولنا أن تبلغ الحكمة من خلقها هناك هدف من خلقها ووظيفة.

 وما زال العلم يكشف بعض أسرار المخلوقات وما خفي كان أعظم وأكبر.

ولنضرب أمثلة بسيطة:

لا نحب الميكروبات، رغم هناك الكثير من أنواع الميكروبات المفيدة؛ فبعضها يشترك في دعم دورة النيتروجين فيما يسمى تثبيت النيتروجين، وفي تنقية المياه، كما تستخدم أنواع منه في المصنوعات الغذائية لإنتاج مواد غذائية مثل صناعة الجبن والزبادي الخل. كما تستغل تقنية الميكروبات في إنتاج المضادات الحيوية وإنتاج مواد تستغل في الصناعة، وتجرى حاليا بحوث لاستخدام البكتيريا في بناء المنازل عوضا عن استخدام الأسمنت الذي يحتاج إلى طاقة حرارية كبيرة، وذلك بابتكار ملاط يقوم بعمل الأسمنت مع استخدام قليل من الأسمنت. وبمجرد ولادة الطفل تبدأ عملية استعماره بمختلف البكتيريا وينشأ له مع الوقت مستعمرات بكتيرية خاصة به.  فيتكون ما يسمى نبيت جرثومي معوي في الأمعاء الغليظة بعد عام إلى عامين من ولادته، ويضم أكبر عدد من البكتيريا وأكبر عدد من الأصناف مقارنة بمناطق أخرى في الجسم؛  للمساعدة في عملية الهضم في الإنسان. أيضا هناك نبيت جرثومي جلدي يتكون بعد ولادته طبقا لمحيطه البيئي والإنساني ويتغير بتغيير بيئته وتقدمه في العمر ليحمي الجلد من الميكروبات الضارة. وهذه الميكروبات تعيش مع الجسم في سلام ووئام. فسبحان من سخرها للإنسان.

 

الزائدة الدودية ذلك الجزء الصغير في أحد طرفي الأمعاء الغليظة كان هناك اعتقاد أنه لا فائدة منها ولذلك سموها "الزائدة"، ولكن الله لا يخلق شيئا عبثا، فالأبحاث الجديدة تقول أنه قد يكون لها وظائف وهي:

1 تعد مكانا مناسبا وآمنا للبكتيريا النافعة للجهاز الهضمي، فعند تعرض الجهاز الهضمي لعدوى أو اضطراب تقوم البكتيريا النافعة بالاختباء في الزائدة الدودية، وفور انتهاء المرض أو الاضطراب تعود البكتيريا لمكانها في الأمعاء، وتبدأ بعملها المهم في الجهاز الهضمي.

2 تساعد على تقوية الجهاز المناعي ومحاربة مسببات الأمراض؛ فهي تحتوي على خلايا ليمفاوية تساعد الجسم على محاربة العدوى.

3 تسهم في الحماية من مرض كرون فالأشخاص الذين يملكون زائدة دودية سليمة أقل عرضة لمرض كرون بأربع مرات، وهو التهاب شديد يصيب الجهاز الهضمي ويسبب ألم البطن، والإسهال، وفقدان الوزن.

 

إذا هل يُعقل أن الجماد والنبات والحيوان لهم وظيفة، والإنسان العاقل المكرم لا وظيفةَ له؟ هل خُلق الإنسان للأكل والشرب والنوم والزواج وتربية الأولاد والعمل ثم يموت وفقط؟ هل يكون كالأنعام؟

إن الإنسان الذي كرمه الله بالعقل وسخر له كل الكائنات لتكون في خدمته لابد له من غاية ووظيفة أسمى؛ يقول الله تعالى: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115].

إذا فلماذا خلقنا الله؟ قال تعالى : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:56]، فهذا هو ما خلقنا الله تبارك وتعالى لأجله، ألا وهو عبادته سبحانه وتعالى.

 

نستحي من الله عندما نَعلَم أننا ما خُلقنا إلا للعبادة ثم نقيس ذلك على يومنا - الذي هو من رصيد عمرنا - لنرى ما هو قدر تحقيقنا للعبادة فيه فلا ينجح إلا القليل، من منا عندما يستيقظ من نومه يتذكر  قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162]؟

إننا لم نخلق إلا للعبادة، كثير من المسلمين قلَّ ما تأتي العبادة في حياتهم، وإن كانت موجودة تكون مهمشة .

نجد من يقول: أنا أصلي،  متى؟ عندما أنهي مهماتي، لا الصلاة رقم واحد في حياتك ثم كل الأشياء تأتي بعدها.

وهكذا لابد أن تكون الأولوية في حياتنا كلها لعباداتنا، ومن فرط فلا زال أمامه الفرصة لتصحيح ما مضى وتوجيه بوصلة يومه، بل وحياته كلها وفق الوظيفة التي خُلِقنا من أجلها.

 

يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ﴾ [محمد: 12].

هذا الكافر الذي لم يدرك الغاية والهدف من خلقه كانت حياته بلا معنى فهو يعيش فقط ليتمتع ويشبع شهواته ويأكل كما تأكل الأنعام، فماذا استفاد بتلك المتعة المؤقتة؟ ذهبت تلك المتعة وبقي العقاب والمصير المحتم لأمثال من لم يفقهوا الغاية من خلقهم وهو النار والعياذ بالله، ولذلك فالعبادة هي التي تميزنا عن غيرنا من المخلوقات، يقول أحدهم أنا مسلم، ولكنه لا يصلي ولا يصوم وقد يسرق وقد يرتشي وقد يغش وقد ....  وقد..... فما دليله على أنه مسلم؟ و ما الفرق بينه وبين غير المسلم ؟

 

لا يُعرف المسلم إلا بطاعة الله عز وجل، وأقرب مثال على ذلك الحجاب الشرعي، ما الذي يميز المسلمة عن غيرها حينما أراها ولم أعرف ديانتها بعد عندما أمشي في الشارع وأرى أختًا لا ترتدي الحجاب الشرعي فأول ما يخطر في بال من يراها أنها غير مسلمة حتى يثبت العكس، فهل ترضيها لنفسك يا أختي ؟ هل ترضين أن يشكك الناس في إسلامك، وأن يعجزوا عن التمييز إذا كنتِ مسلمة أم لا ؟

 

إذًا يعرف المسلم بعبادته، فما معنى العبادة ؟

العبادة ببساطة هي الطاعة المطلقة لله عز وجل، أو هي اسم جامع لما يحبه الله من الأعمال الظاهرة والباطنة.

 

بمجرد سماع الأمر أو النهي من الله فورا نقول سمعنا وأطعنا، فورا ننفذ، هل رأيتم إبراهيم عليه السلام عندما أُمر أن يذبح ابنه إسماعيل عليه السلام ماذا فعل؟ رغم أن الأمر كان بذبح ابنه، لم يتردد ولم يناقش ولم يجادل ولم يسأل عن السبب وإنما امتثل فورا، ﴿ وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 124] ؛ فالإمامة أتت من الامتثال لأمر الله عز وجل.

ونحن يأمرنا ربنا بأمور هي أهون كثيرا من أمره لإبراهيم بذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام  فهل امتثلنا وأطعنا ونفذنا؟

 

إن أيقنت أنك ما خلقت إلا للعبادة فكل شيء سيهون عليك، فلن تتهاون أو تجادل في أي أمر من أمور العبادة بعد الآن، فعندما تلتحق بوظيفة لابد أن تقوم بمتطلبات تلك الوظيفة كاملة وإلا فأنت معرض للطرد أو الخصم من راتبك، ووظيفتك الأساسية في الحياة هي عبادة.

 

نضرب بعض الأمثلة من واقع حياتنا ونراجع أنفسنا وعباداتنا ومقدار انقياد وإذعان قلوبنا وجوارحنا لأوامر الله.

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [الأحزاب: 59]

نقول مثلاً: لماذا يا أختي لا ترتدين الحجاب الشرعي؟ تقول عندما أتزوج، أو بعد إنهاء دراستي، من يضمن لكِ أن تحيي إلى أن تنهي الدراسة؟ من يضمن لكِ أن تحيي إلى أن تتزوجي؟

وإنما إذا سمعتِ الأمر بالحجاب قولي فورا سمعتُ و أطعت يا ربي.

 هل تريدين أن تلقي ربك وأنتِ على هذه الحال؟ يقيناً ستقولين لا، إذاً ماذا تنتظرين؟ ألغي كلمة سوف من حياتك، سوف أتحجب بعد عام، في رمضان القادم، من أول الأسبوع.

فرق كبير بيننا وبين أمهات المؤمنين والصحابيات، فرق كبير ما بين حرصهن على ستر أنفسهن وطاعة ربهن وبين حال كتير من بنات المسلمين اليوم؛ عن عائشة رضي الله عنها قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن } شققن مروطهن فاختمرن بها . رواه البخاري

عندما سمعن الآية تأمرهن بالحجاب لم ينتظرن حتى يذهبن إلى السوق وشراء ما يتحجبن به، لا يمكن أن يخرجن من البيت بعد ما صدر الأمر الإلهي بالحجاب من غير أن ينفذن الأمر، فماذا يفعلن؟ شققن مروطهن فاختمرن بها، لأنه من المستحيل بعدما أمرهن الله بالحجاب أن يخرجن من بيوتهن من غيره أبدا. إلى متى ستتحكم فينا شهواتنا وهوانا وننسى أوامر الله سبحانه وتعالى؟ إلى متى سنبيع آخرتنا بدنيا فانية؟

 

وليس معنى الحجاب أن ألبس ما يستر جزءا من شعري أو أن أرتديه وأنا أضع على وجهي المساحيق، ولا معناه أن أستر شعري ثم أرتدي بنطالا أو ملابس شفافة أو ملابس ضيقة  تظهر كل تفاصيل جسمي، فالحجاب الشرعي له شروطه من أن يكون واسعا لا يصف شكل الجسم، ليس شفافا ، يغطي جميع البدن على خلاف في الوجه والكفين ، وليس فيه تشبه بالكفار ولا بالرجال، ثبت في الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { صنفان من أمتي لم أرهما بعد : نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات على رءوسهن كأمثال أسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها . ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها عباد الله }، إما أن تحشري مع أمهات المؤمنين أو مع الكاسيات العاريات  فاختاري لنفسك.

 

لو سألنا من يفرط في صلاته وقلنا له: لماذا لا تصلي؟ قد تكون الإجابة مشغول أو الدراسة أو العمل أو ابني الرضيع أو التعب. المبررات لا تنتهي، ولو استشعر من يقول ذلك فعلا معنى العبودية لن يقوله أبدًا  .

هل تعرفون منزلة الصلاة في الإسلام؟ إنها كعمود الخيمة للخيمة، فهل ستظل الخيمة منصوبة دون عمود ؟  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة " رواه الترمذي

هل هناك موعد أهم من أقابل رب العالمين؟ يا لها من قسوة قلب عندما نتقلب في نعم الله ثم لا نصلي له.

ننسى أن" أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة ، فإن صلحت صلح له سائر عمله ، و إن فسدت ، فسد سائر عمله " كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فلتنتبه قلوبنا وعقولنا إلى قوله: " و إن فسدت ، فسد سائر عمله "، فكيف لا نحافظ على صلاتنا بعد ذلك؟! هل نضمن الحياة ولو لحظة ؟ قد يدخل النفس ولا يخرج مرة أخرى فلنبدأ فورا.

 

أمر آخر قد لا ننتبه إليه أنه من مسئولياتنا وأننا محاسبون عليه وقد نقصر فيه؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه، والأمير راعٍ، والرجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولدِه، فكلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤول عن رعيَّتِه))؛ متفق عليه.

فهل قمنا بأداء مسؤولياتنا تجاه بيوتنا وأزوجنا وأولادنا؟ هل حافظنا على بيوتنا نظيفة هادئة وجعلناها سكنا لأزواجنا؟ هل ربينا أبناءنا تربية إسلامية صحيحة وحافظنا على صحتهم النفسية قبل الجسمانية؟ أم قدمنا رغباتنا ومصالحنا الشخصية على مصلحة الأسرة؟ هل ضيعنا مسئوليتنا الأساسية بقضاء الوقت على وسائل التواصل أو أمام التلفاز ؟ أم قدمنا عملنا ووظائفنا على وظيفتنا الأساسية في بيوتنا؟

قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، إذا سمعتِ الأمر فقولي فورا سمعت وأطعت، قولي علمت فلزمت العبادة يا رب، من قبل أن يأتي اليوم الذي من كثرة ما قلتِ سمعت وعصيت -حتى لو بلسان حالك لا بلسان قولك - تسمعين الحق ولا تدركين أنه حق؛ قال تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ؛ يعني من كثرة المعصية والذنوب هذا الران يغطي القلب فيأتي عليك يوم وترين الحق باطلا والباطل حقا -نسأل الله العافية-  فهيا نبادر للتوبة وعبادة المولى عز وجل.

 

ولكن ما معنى أن أكون عبدا لله؟ أو ما هو معنى العبد؟

كلمة عبد لها معنيان :

1 معنى عام بمعنى: المذلل المسخر.

 يشمل الكون كله - أي أن كل الكون عبد لله عز وجل-  

فنحنُ مسخرون شئنا أم أبينا، خاضعون لقدر الله عز وجل، لا يمكن أن نفعل شيئًا دون مشيئته.

 

فكيف يكون الكافر ذليلا لله تعالى؟

لو أراد الله بهذا الكافر مرضًا هل يستطيع أن يقول لله أنا لا أريد أن أمرض الآن؟ بالطبع لا فهو عبد لله رغم أنفه. هل إن أراد الله عز وجل بدولة عظيمة - بها من العلم والتكنولوجيا ما بها – إعصار، من يستطيع دفعه؟

 لا أحد يستطيع، لأنهم عباد لله عز وجل. انظروا ماذا يفعل فيروس متناهي في الصغر في بلدان العالم حتى المتحضر منها؟!

 

2 المعنى الخاص: ونسأل الله أن نكون منهم، وهو: العابد المحب المتذلل لحبيبه سبحانه وتعالى، وهذا المعنى لا ينطبق إلا على المسلمين فقط فهم عباده المكرمون .

وإذا استشعرت معنى العبودية ولذة العبودية لله تعالى، إن علمت أو أيقنت بقلبك أنك ما خُلقت إلا للعبادة والله لتحققن أعلى منازل العابدين لله - عز وجل - .

 

أيقنا الآن واتفقنا أننا لم نخلق إلا للعبادة، فهل العبادة أن نقضي اليوم كله بين قرآن وصلاة وصيام؟

كثير منَّا يظنُّ أن العبادة هي الصلاة والصيام والصدقات وفقط، لكن المسلم الفطن يعلم أن  كل شيء في حياته عباده، يقول تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِين ﴾ .

شعار المسلم الحق؛ "حياتي كلها لله" بل مماتي أيضا لله؛ ألم يقل نبيك صلى الله عليه وسلم تبسمك في وجه أخيك صدقة؟ إذا تبسمك في وجه أخيك عبادة،  حسن التبعل للزوج من أكل وتنظيف وغيره عبادة،  كوب الشاي لزوجك عبادة، لقمة تضعها في فم زوجتك عبادة، ويقينًا سيصبح بعدها كل ما تقوم به سببًا في رفع مستوى إيمانك، حتى إن اجتمعتِ مع جارتك بنية أنها عبادة لأن النبي ﷺ أوصانا بالجار لكان كوب الشاي أو العصير لها عبادة تزيد إيمانك، نومك بنية أن تتقوى على العبادة عبادة، أكلك وشربك وضحكك وكل عادة أو تفصيلة في حياتك قد تصبح عبادة، فأي فضل وجود وكرم يَمُنُّ به الإله الكريم علينا؟!

 

لا تجعل يومك يمر بلا قيمة، قال تعالى : ﴿ قُل هَل نُنَبِئُكمُ بالأَخسَرِينَ أَعمالًا * الذينَ ضَلَّ سَعْيُهُم في الَحيَاةِ الدُّنْيَا وهُمْ يَحسَبُونَ أنَّهُم يُحسِنُون صُنعًا ﴾ [الكهف: 103-104] .

 نرى زوجةً تُحسن التبعل لزوجها وإذا سألناها لماذا ؟ تقول حتى لا يتزوج بأخرى، نخشى أن تكون ممن ذكروا في الآية، أو من يحسن تربية أبناءه لكي يشار له بالبنان، فنخشى أن يكون ممن ذكروا فيها أيضا، فهؤلاء تعبوا بلا قيمة.

 

وحتى يكون يومك كله ذا قيمة فهناك شرط واحد لابد من تحقيقه، فما هو يا ترى؟

النية هي كلمة السر، والقاعدة أن  النية تميز العبادات عن العادات.

ونقارن ما بين اثنين: شخص يأكل لشهوة الجوع وآخر يأكل ليتقوى على العبادة وامتثالًا  لأمر الله ﴿كُلُوا واشرَبوا﴾، صار أكل الثاني عبادة وأكل الأول عادة.

شخص يلبس لبسًا جديدًا ليفتخر به أمام الناس وآخر يلبس الجديد ليرى الناس أثر نعمة الله وفضله عليه، الأول لا يُؤجر والتاني يُؤجر.

 في يوم الجمعة شخص لبس أحسن ثيابه ليكون مظهره جميلًا أمام الناس، والثاني لبس أحسن ثيابه تأسياً بالنبي ﷺ أيهما العبادة؟  الثاني طبعًا.

مسلمة تنظف بيتها حتى يقول الناس عنها أنها نظيفة أو لأنه روتين يومي وأخرى تنظفه لأن الإسلام دين النظافة وحثنا عليها ولأن الله جميل يحب الجمال وحسن تبعل للزوج إرضاء له، أصبح التنظيف عبادة في حق الثانية أما الأولى تعبت دون أن تحصل على ثواب رغم أنه كان بإمكانها ذلك.

وعلى هذا قِس كل ما تقوم به خلال يومك من مهام كنت تظن أنها تعطلك عن العبادات فإذا بك تجعلها عبادة تؤجر عليها، ولذلك نقول (عادات أهل اليقظة عبادات)، لكن النية محلها القلب ولا ننطق بها.

هبة حلمي الجابري

خريجة معهد إعداد الدعاة التابع لوزارة الأوقاف بجمهورية مصر العربية

  • 0
  • 0
  • 1,346

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً