علاقة العقل بعالم الغيب

منذ 2022-10-08

إنَّ قضية الإيمان بالغيب هي مَحَكُّ الخلاف بين المنهجين: منهج عرَف أصحابه للعقل إمكاناته وطاقاته أما المنهج الثاني، فأطْلَق أصحابه العِنان لعقولهم، فلم يَعترفوا بإمكاناته ولا طاقاته...

علاقة العقل بعالَم الشهادة مؤسَّسة على إدراك كاملٍ بطاقة العقل، وإمكاناته والعلم بوظيفته، والإنسان لو فقَد حاسَّة من حواسِّه الخَمس، فاتَه العلم بالعالَم الحِسي المقابل لها، ولو تخيَّلنا إنسانًا خُلِق دون هذه الحواسِّ، فإنه لا يعلم شيئًا عن هذا العالم على سبيل اليقين.

 

واليقين هنا مَطلب أساسي لهذا اللون من المعرفة بعالَم الغيب؛ لأنَّ العقل قد يتخيَّل أمورًا وعوالِمَ كثيرة لا نصيبَ لها من الواقع، والخيال العلمي له دورُه المعرفي في عالَم الشهادة، ولا سبيل إلى إنكاره، لكن ينبغي أن نعرف هنا أنه لَمَّا غابَت الحواس عن العقل، تخلَّف عنه العلم اليقيني بعالَم المحسوسات؛ لأنَّ روافد المعرفة الحسيَّة أصبَحت مفقودةً بالنسبة له، فانتقَل المستوى المعرفي للشخص من اليقين إلى التخيُّل، هذا في عالم الشهادة.

 

أمَّا في عالم الغيب، فإن الأمر يختلف تمامًا عن ذلك؛ لأنَّ الحواس لا تناله أصلاً، ولا سبيل لها إليه، وبالتالي فإنَّ روافد العقل التي تُزوِّده بالمعرفة بعالم الغيب مفقودة، والتخيُّل العقلي هنا ليس مطلوبًا، لأنَّ مطلوب المعرفة هنا هو اليقين الجازم الذي لا مَجالَ فيه للتخيُّل، وينبغي أن نفرِّق هنا بين مستويين لمعنى الغيب.

 

مستويات الغيب:

أ- غيب نسبي:

هناك ما يسمَّى بالغيب النسبي، وهو ما غاب عن الحواس في عالم الشهادة، ويدخُل في ذلك الماضي والمستقبل، فكلاهما غيبٌ بالنسبة للحواس، وكذلك الأمر بالنسبة للحاضر، فهو غيبٌ بالنسبة لِمَن لَم يشاهده، لكنه ليس غيبًا لِمَن عاصَره وعاشَه، فهناك أمورٌ معاصرة للشخص المعيَّن، لكنه لَم يشاهدها لغيابه عنها، فتكون غيبًا بالنسبة له، وليستْ غيبًا لِمَن شاهَدها، والشخص الواحد قد يكون الأمر غيبًا لَدَيه في وقتٍ دون وقت، وعلاقة العقل بهذا النوع من الغيب النسبي متفرِّعة من علاقته بعالم الشهادة، فما غاب عنَّا وجرَّبه غيرُنا، لَزِمنا العمل بمقتضاه عند العلم به.

 

وما تواتَر العلم به عن الأُمم الماضية من أخبار الأنبياء عنهم، هو ما يلزم العلم به، وما يَتَنبَّأ به العلماء - بناءً على المشاهدات العلميَّة المتكرِّرة - هو من هذا القبيل؛ بناءً على اطِّراد السُّنن الإلهيَّة في الكون؛ سواء تعلَّقت هذه السُّنن بالظواهر الطبيعية، أو بالمجتمعات البشرية؛ لأن سُنة الله في كونه لا تتخلَّف إذا وُجِد المقتضي وارتفَع المانعُ، وهذا هو محلُّ اعتبار الإنسان الذي ندبَه القرآن إليه في نهاية كلِّ قصة يقصُّها عن الأُمم الماضية؛ حيث يقول - سبحانه وتعالى -: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [الشعراء: 8].

تكرَّرت كثيرًا في سورة الشعراء هذه التعقيبات القرآنية على قَصص الأُمم الماضية، وهي تَلفت نظرنا إلى الغرض من سَوْق هذه القصة أو تلك؛ ليقوم العقلُ بوظيفته فيها - فكرًا وتأمُّلاً واعتبارًا، وذلك ما ندَبه الشرع له، وحثَّه عليه.

 

ب- الغيب المُطْلق:

وهو ما لا سبيلَ للعقل إلى العلم به عن طريق الحواس بحالٍ ما، أو هو ما استأثَر الله بعلْمه وحجبه عن جميع خلْقه؛ قال الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59]، {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} [النمل: 65].

 

أ- والغيب قد يُطلق في القرآن الكريم ويُراد به مكنون العلم الإلهي الذي استأثَر الله به عن سائر خلْقه، يستوي في ذلك الرسول والنبي والوَلِي، إلاَّ مَن شاء ربُّك منهم، فيعلِّمه الله ما شاء من عِلْمه كيف شاء؛ كما قال - تعالى -: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113].

فهذا العلم الإلهي غيْبٌ عن الإنسان لا يُنال بحسٍّ ولا عقلٍ، ولا سبيل إليه إلاَّ بالتعليم الإلهي لِمَن شاء من عباده، عن طريق الوحي أو الرُّؤيا أو الإلهام، فهو ليس اكتسابًا، ولكنَّه وهبٌ وعطاءٌ، لا مدخل لروافد العقل المعرفيَّة إليه، ولكن هناك أبواب أخرى لتحصيل هذه المعرفة، يدخل منها أهلها ويسعى إليها عُشَّاقها؛ كما في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]، {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151].

فهذا العلم لا يُنال بكسْب عقلي، ولا يتخيَّله عقلٌ، ولا يَناله وهمٌ، وإنما يتعلَّم من الله بطريقه المعروف ووسائله المشروعة.

 

ب- وهل يُطْلَق الغيب في القرآن الكريم، ويُراد به الذات الإلهيَّة وصفاتها؟ على ذلك كثير من المفسِّرين في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]، فقالوا: إن الغيب هنا هو الله، نقَل ذلك ابن تيميَّة عن جماعة من الحنابلة، منهم: القاضي أبو يعلى، وابن عقيل، وابن الزاغوني[1]، وخالَفهم في ذلك جماعة آخرون، رفَضَوا إطلاق لفْظ "الغيب" على الله.

ويبدو أنَّ الخلاف في هذه المسألة خلافٌ لفظي؛ ذلك أنَّ الذين أجازوا إطلاق لفظ "الغيب" على الله رأوا أنَّ الخَلْق يغيبون عن الله في معظم أحوالهم، فلم يَذكروه، ولَم يعبدوه، ولَم يُشهدوه في أفعالهم، فهو - سبحانه - ليس بنفسه غائبًا عنهم: حفظًا ورزقًا، ولُطفًا وعونًا، وإنْ كانوا هم غائبين عنه: إنابةً وتوكُّلاً، وذِكرًا وعبادة.

 

فالمعنى المقصود في استعمال لفظ "الغيب" على الله: أنه حاضرٌ مع كلِّ كائن في كونه؛ {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].

 

فهو - سبحانه - مع خلْقِه: عِلمًا ورزقًا، ولُطفًا وإحياءً وإماتة، وهو - سبحانه - لا يَعْزُب عنه مثقالُ ذرَّة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغرُ من ذلك ولا أكبر، فهو - سبحانه - شهيد على العباد، رقيبٌ عليهم، ومع كلِّ كائن في كونه بهذا المعنى، فهم الغائبون عنه، وليس هو الغائب عنهم؛ ولذلك لا يجوز إطلاق لفظ "الغيب" على الله، وهذا المعنى صحيحٌ أيضًا.

 

وعند التحقيق لا نجد خلافًا بين أصحاب الرأْيَيْن، فأصحاب الرأي الأول يُجيزون استعمال لفظ "الغيب" على الله؛ لغياب الخلْق عنه، وأصحاب الرأي الثاني يرفضون ذلك؛ لأنه - سبحانه - ليس غائبًا عن الخَلْق - وإن كان الخلْقُ غائبين عنه، وكلا الرأْيَيْن صحيحٌ على هذا التفسير، فصارَت المسألة خلافًا لفظيًّا فقط.

 

معرفة الغيب بين منهجين:

والسؤال الذي ينبغي أن نطرحَه الآن: ما موقف العقل من التعرُّف على عالم الغيبيَّات وقضاياه؟ إنَّ العقل مُطالَبٌ هنا بالإيمان بالغيب؛ سواء استعملنا لفظ "الغيب" مُرادًا به معلومات الله التي لا تَتناهى، والتي حَمَل إلينا منها أنبياءُ الله ورُسلُه، أو أردْنا بها الذات الإلهيَّة وصفاتها، واليوم الآخر والبعث، وقضايا السمعيَّات عمومًا؟

 

لقد سبَق القول بأنَّ الذي فقَد حواسَّه يستطيع أن يتخيَّل في عالم الشهادة ما يشاء؛ لأنَّ عالَم الشهادة محسوسٌ، والعالم الذي يريد التعرُّف عليه هو أيضًا محسوس، فالتخيُّل بالنسبة له ممكنٌ، ولكن تَظَلُّ معرفته بهذا العالم معرفةً تخيُّليَّة لا ترقى إلى اليقين، ولا ضيْرَ أن يحدثَ ذلك في عالم الشهادة، بل قد يكون ذلك مطلوبًا في بعض الأحيان أن يتخيَّل الإنسان مستقبله على نحوٍ ما، ولكن الإيمان بالغيب لا يكفي فيه التخيُّل ولا الظنُّ، بل لا بدَّ فيه من اليقين الجازم الذي لا يُخالطه شكُّ، ولا يَرقى إليه ريبٌ؟

والإجابة عن السؤال السابق تحمل معالِمَ المنهج المطلوب في علاقة العقل بعالَم الغيب، وفي نفس الوقت تَضَع أمامنا حقيقةَ الخلاف بيننا وبين منهج المخالفين في الإيمان بقضايا الغيب؛ فلاسفةً كانوا أو متكلمين، قُدامى كانوا أو معاصرين، وهذا يفسِّر لنا بالتالي سببَ الحملة التي شنَّع بها المخالفون على منهج السلف، واتَّهموهم خلالها برفْض العقل وأحكامه.

إنَّ قضية الإيمان بالغيب هي مَحَكُّ الخلاف بين المنهجين: منهج عرَف أصحابه للعقل إمكاناته وطاقاته من جانب، وعرَفوا أيضًا مطلب الشرع والوحي من العقل والوظيفة التي ناطَه بها من جانبٍ آخرَ.

 

أما المنهج الثاني، فأطْلَق أصحابه العِنان لعقولهم، فلم يَعترفوا بإمكاناته ولا طاقاته، بل قالوا: إنَّ العقل قادرٌ على أن يُخضعَ كلَّ شيء لسلطانه؛ ما غاب عنه، وما حضَر، ما أدركتْه الحواس، وما غاب عنها، حتى ما أخْبَرَت به الأنبياء عن عالَم الغيب وقضاياه، يجب أن يَخضع العلم به وبكيفيَّته لسُلطان العقل، ولا مانع عندهم أن يتخيَّل العقل ويَخلق لنفسه عالَمه الغيبي الخاص به، ولا مانع أيضًا عندهم من رفْض هذا العالم الغيبي وإنكاره، ولَم يُفرِّقوا في ذلك بين مطلب الشرع من العقل في عالم الشهادة، ومطلبه من العقل في عالَم الغيب، والخلاف بين الموقفين يكمُن في المنهج أولاً.

 

إنَّ أصحاب المنهج الأوَّل وظَّفوا العقل فيما خُلِق له في التعرُّف على عالم الشهادة، وعرَفوا له قَدْره وحدوده في مجال التعرُّف على عالم الغيب، عرَفوا أنَّ العقل في عالم الشهادة مُسَلَّط لاكتشاف الكون وقوانينه، وهو في عالم الغيب متعلِّم يأخذ العلم من مصادره التي غاب عنها، أو غابَتْ عنه، والتي جاء الخبرُ عنها معصومًا عن معصومٍ عن الله - سبحانه، عرَفوا أنَّ العقل يَملك البحث والتعرُّف على عالم الشهادة، لكنَّه يفقد جميع الأدوات التي يتعرَّف بها على عالَم الغيب، إلاَّ مصدرًا واحدًا هو الوحي الذي هو إخبارُ الله عن ذاته بذاته على لسان رسوله، هذا إذا كان للعقل أن يدَّعي الإيمان بما جاء به الرسول، أمَّا إذا كان العقل رافضًا الأخْذَ عن الرسول ابتداءً، فهذا له شأْنٌ آخرُ، وليس لنا معه هنا من حديثٍ.

 

أمَّا أصحاب المنهج الثاني، فلم يُفرِّقوا في ذلك بين عالم الشهادة وعالم الغيب في علاقة العقل بكلٍّ منهما، ونَسُوا في ذلك أنَّ روافد المعرفة العقليَّة إلى عالم الشهادة، يَمتلك العقل أدواتها وهي الحواسُّ الخَمس، أمَّا بالنسبة لعالم الغيب، فلا يَملك من أدوات التعرُّف عليه إلاَّ الجهْل المُطْبِق أو التخيُّل، أو التوهُّم أو الظن، وكلُّ هذه المستويات المعرفيَّة لا تُغني في مجال الإيمان شيئًا.

 

السؤال الآن: أيُّ المنهجين أكثرُ احترامًا للعقل؟ وأيُّهما أكثر عقلانيَّة: أنَّ نأخُذَ الحديث عن الغيب وعن الله مأْخَذ التصديق به كما جاء به الوحي، أم نتخيَّل له كيفيَّات عقليَّة لسْنا مطالَبين بها أولاً، ولا سبيلَ لنا إلى العلم بها بالحواس ثانيًا؟

إنَّ القضية هنا تتعلَّق بتصديق الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في كلِّ ما أخْبَر به عن عالم الغيب أو عدم تصديقه.

فإذا كان المخاطب بذلك مؤمنًا بمحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبرسالته، وأنه صادقٌ في الحديث عن الله وبما أنزَل الله، فلا شكَّ أن كلَّ ما أخبَر به الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن قضايا الغيب يكون عنده حقٌّ لا مِرْيَة فيه، ولا يجوز للعقل أن يتدخَّل في ذلك بالتخيُّل أو التوهُّم؛ لكي يتأوَّل النصَّ الإلهي على ما تخيَّله بعقْله أو توهَّمه بظنِّه.

 

أمَّا إذا لَم يكن له من الإيمان بنبوَّة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - نصيبٌ، فيكون الحديث معه أولاً في تثبيت النبوَّة وعن دلائل صِدق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما أخبَر به عن الله، فإذا ما ثبَت عنده صِدق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في كلِّ ما أخبَر به، يكون ذلك وحْده مدخلاً صحيحًا لتسليم العقل بما أخبَر به الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن الغيبيَّات، خاصة إذا عرَفنا أن قضايا الغيب لَم يَطلب الشرع منَّا أن نبحثَ فيها؛ لا كمًّا ولا كيفًا، ولكن طلَب منا الإيمانَ بها على ما أخبَر به الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقط، ولذلك فإن العلماء قد دوَّنوا معالم المنهج وأصوله، خاصة فيما يتصل بالغيبيَّات، وكانوا لا ينقلون من الأحاديث إلاَّ ما صحَّ عندهم عن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا من الآثار إلاَّ ما له نسبٌ إلى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو إلى أحد صحابته - رضوان الله عليهم - وإذا أرادوا شرْحَ آية أو بيانًا لحديثٍ يتعلَّق بالغيبيَّات، شرَحوا ذلك بالآثار المرويَّة عن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وليس بما يُمكن أن يَفهمه العقل منها؛ يقول الإمام أحمد: "نؤمن بها ونُصدِّق بها، ولا نردُّ منها شيئًا إذا كانتْ بأسانيدَ صِحاح"[2].

وقال في موضع آخر: "أحاديثُ صِحاح نؤمِن بها ونُقِرُّ، وكلُّ ما رُوِي عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأسانيدَ جيدة نؤمِن بها ونُقِرُّها"[3].

وقال ابن عُيينة: "هي حقٌّ نرويها على ما سَمِعناها، ممن نَثِق به ونرضى به"، وقال أبو عبيد: "إنَّ هذه الأحاديث يَرويها الثِّقات بعضُهم عن بعض"[4].

 

وحين رَوَى السلف هذه الآثار النبويَّة؛ ليؤكِّدوا بها قضيَّة من القضايا الإيمانيَّة، لَم يُغلقوا الباب أمام العقل أن يعملَ وينظر، ويتدبَّر الأثر النبوي أو الآية القرآنيَّة، لكن بشرْط ألاَّ يقدِّم نظرَه على الآية أو الحديث، ويجعل ذلك أصلاً له يتأوَّل عليه الآية أو الحديث ويجعل ذلك أصلاً له يتأوَّل عليه الآية القرآنية؛ لتوافِق أصوله من المعقولات؛ لأن في ذلك أمانًا من الزَّلل والضلال، خاصة أننا لَم نُكلَّف من الشرع في قضايا الغيب سوى الإيمان بما ورَد عنه فقط.

 

يقول اللالكائي: "فمَن أخَذ في مثْل هذه المحجَّة، وداوَم بهذه الحُجَج على منهاج الشريعة، أَمِن في دينه التَّبِعة في العاجلة والآجلة..، ومَن أعْرَض عنها، وابْتغَى الحقَّ في غيرها مما يهواه أو يروم سواها مما تعدَّاه، أخطأَ في اختيار بُغيته وأغواه، وسلَكه سُبل الضلالة وأرْدَاه في مهاوي الهلكة، فيما يعترض على كتاب الله وسُنة رسول الله بضرْب الأمثال ودفْعهما بأنواع المِحال، والحَيْدة عنهما بالقيل والقَال، ممَّا لَم يُنَزِّل الله به مِن سُلْطان، ولا عرَفه أهلُ التأويل واللسان، ولا خطَر على قلب عاقلٍ بما يَقتضيه من برهان، ولا انشَرح له صدرُ موحِّد عن فِكرٍ أو عِيان"[5].

 

إنَّ الاعتصام بالنصِّ الصحيح في قضايا الغيب كان منهجًا أقومَ في منطق العقل نفسه، ذلك أن العقل مطالب بالإيمان به، وفي نفس الوقت ليس مؤهَّلاً للبحث فيه، كما هو شأْنه في عالم الشهادة، ولَم يطلب منه الشرع البحث فيه، لأنَّ الله لا يكلِّف نفسًا إلاَّ وُسعها، ولا يُكلِّفها إلاَّ ما أتاها، وسبيله الوحيد إلى التعرُّف على الغيب هو خَبَرُ المعصوم عن الله الذي قال لصحابته: «قد تَركْتُكم على البيضاء، ليْلُها كنهارِها، لا يَزِيغ عنها بعدي إلا هالكٌ»[6].

وفي القرآن الكريم: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]، وعن ابن مسعود: "اتَّبعوا ولا تَبتدعوا".

وكان أهل الحديث هم أحْرصَ الناس على ذلك؛ لاختصاصهم برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وطول ملازمتهم له، وحِفظهم العلمَ النبويَّ عنه، وشدَّة تمسُّكهم بما سَمِعوه ونَقَلوه عنه إلى الناس من بعدهم، وذلك دون واسطة بينهم وبينه، فحَفِظوا عنه ووَعَوْا، واعتَقدوا جميع ما سَمِعوا.

 

يقول الإمام اللالكائي في كتابه "السُّنة" عن هذا المنهج: "فهذا دِين أُخِذ أوَّلُه عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مُشافهة، لَم يُشبه لبْسٌ ولا شُبهة، ثم نقَلها العدول عن العدول من غير تحامُل ولا ميلٍ، ثم الكافَّة عن الكافَّة، والصافَّة عن الصافَّة، والجماعة عن الجماعة، أخْذَ كَفٍّ بكفٍّ، وتَمسك خلف بسلَف، الحروف يتلو بعضُها بعضًا، ويتَّسق أُخراها على أُولاها - وصفًا ونَظمًا - فهؤلاء الذين تُعُهِّدتْ بنَقْلهم الشريعة، وانحفَظَت بهم أصولُ السُّنة، فوجَبَت لهم بذلك المنَّة على جميع الأُمَّة، فهم حَمَلة عِلْمه، ونَقَلة دِينه، وسَفَرته بينه وبين أُمَّته، وأُمَناؤه في تبليغ الوحي عنه"[7].

 

ومن أهم ما عُنِي به أصحابُ هذا المنهج حِرْصُهم على صفائه ونقائه، فلم يتأثَّروا فيه بمسْلك الخصوم معهم، ولا بتشنيع المخالفين عليهم، فكانوا يَكرَهون مناظرة أهْل البِدع، ويتناهون عن نقْل شُبهاتهم، أو عرْضها على المسلمين مَخافة الفتنة بها؛ يقول سفيان الثوري: "مَن سَمِع بدعة، فلا يَحكِها لجُلسائه، ولا يُلْقِها في قلوبهم"[8].

وقال الإمام ابن بطة: "لسْت برَادٍّ عليْهم بشيءٍ أشدَّ مِن السُّكوت"[9].

وقال الإمام أحمد بن حنبل يعلِّم تلامِذته ذلك المنهجَ، فلقد كتَب إليه تلامذته يستأذنونه في أن يضع كتابًا يردُّ فيه على أهل البدع، وأن يحضُر مع أهل الكلام، فيناظرهم ويَحتجَّ عليهم، فكتب إليهم الإمام أحمد، يقول: "الذي كنَّا نسمع، وأدرَكنا عليه مَن أدرَكنا من أهل العلم، أنهم كانوا يكرهون الكلام والجلوس مع أهْل الزَّيغ، وإنما الأمور في التسليم والانتهاء إلى ما كان في كتاب الله وسُنة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا في الجلوس مع أهْل البِدع، والزَّيغ لتردَّ عليهم، فإنهم يُلبِّسون عليك وهم لا يرجعون، فالسلامة - إن شاء الله - في ترْكِ مُجالستهم والخوْض معهم في بدعتهم"[10].

 

ولقد شَغَب أصحاب المنهج المخالف - من المعتزلة وغيرهم - على أهل الحديث في منهجهم، وشنَّعوا عليهم، وكانوا ينتصرون عليهم بالسياسة أحيانًا؛ كما حدَث في زمن مِحنة الإمام أحمد، ونالُوا منهم كثيرًا، فنَسَبوهم أحيانًا إلى الحشْو، وأحيانًا إلى الجهْل ومُحاربة العقل، ولا يَخفى الأمر على ذي فِطنة، إذا انتصَرت السياسة لمذهب أو رأْي، فالويل للمُخالفين - ولو كانوا على الحقِّ المُبين.

 

ولقد صوَّر كثيرٌ من علماء المذهب الموقفَ الفكري للمخالفين لهم، وأنه لا سندَ له من علْمٍ ديني ولا بُرهان عقلي، وأنَّ المنهج الذي سَلَكوه في الغيبيَّات منهجٌ أخْرَقُ، فسادُه أكثر من صلاحه، فقال: فهو راكضٌ ليلَه ونهاره في الردِّ على كتاب الله وسُنة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - والطَّعن عليهما، أو مُخاصِمٌ بالتأويلات البعيدة فيهما، أو مُسلِّطٌ رأْيَه على ما يوافق مذهبَه بالشُّبهات المخترَعة الركيكة؛ حتى يتَّفق الكتاب والسُّنة على مذهبه، وهَيْهَات أن يتَّفِقا، فهذه حاله إذا نَشِط للمحاورة في الكتاب والسُّنة.

 

فأمَّا إذا رجَع إلى أصْله وما بَنَى بِدعته عليه، اعترَض عليها بالجحود والإنكار، وضرَب بعضها ببعض من غير استبصار، واستقبَل أصْلهما ببُهتِ الجَدَل والنظر من غير افتكار، فما اغْبرَّت أقدامهم في طلب سُنة، أو عرَفوا من شرائع الإسلام مسألة، فيَعُدُّ رأي أصحابه حِكمةً وعلمًا، وحُججًا وبراهينَ، ويَعُدُّ كتابَ الله وسُنة رسوله حشوًا وتقليدًا، ويَعُدُّ حمَلَتها جُهَّالاً وبُلَهاءَ، يَرمون أهل الحق بالألقاب القبيحة، ومقالتهم هذه لا تَظهر إلاَّ بسلطان قاهرٍ، أو بشيطان معاند فاجرٍ، يَصِل الناس خفيًّا بِبدعته، أو يَقهر ذاك بسيفه وسَطوته، أو يستميل قلبَه بماله؛ ليُضلَّه عن سبيل الله؛ حِمْيَةً لبِدعته، وذَبًّا عن ضلالته.

 

لقد زعموا أنهم أكبرُ من السابقين في المحصول وفي حقائق المعقول، وأهدى إلى التحقيق، وأحسن نظرًا منهم في التدقيق، وأنَّ المتقدمين تفادَوْا من النظر لعجزهم، ورَغِبوا عن مكالمتهم لقلَّة فَهْمهم، لقد ابتدعوا من الأدلة ما هو خلاف الكتاب والسُّنة؛ رغبة للغَلَبة وقَهْرِ المخالفين، ثم اتَّخذوها دينًا واعتقادًا بعد ما كانت دَلائلُ الخصومات والمعارضات، وضَلَّلوا مَن لا يعتقد ذلك من المسلمين، ومَن خالَفهم وسموه بالجهل والغباوة[11]، هكذا يصوِّر إمام السُّنة موقفَ المخالفين منهم، وتشنيعَهم عليهم.

ولقد تناهي السلف فيما بينهم عن منازلة خصومهم في محاورة أو مناظرة، أو ما أشْبَه ذلك؛ خوفًا من استعمال الألفاظ المجمَلة التي يُطلقونها في النفي والإثبات، والتي يلبسون بها الحق بالباطل؛ ليَخدعوا بها جُهَّال الناس.

 

ولقد أشار الإمام أحمد إلى ذلك الخطأ المنهجي عندهم في أوَّل كتابه "الرد على الجهميَّة"، فقال: "الحمد لله الذي جعَل في كلِّ زمان فترة من الرُّسل، بقايا من أهل العلم، يدعون من ضلَّ إلى الهدى، ويَصبرون منهم على الأذى، يُحيون بكتاب الله الموتى... إلى أن قال: يَنفون عن كتاب الله ترجيفَ الغالين، وانتحالَ المُبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عَقَدوا ألْوِيَة البدعة، وأطْلَقوا عِنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مُخالفون للكتاب، مُتَّفقون على مُخالفة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علمٍ، يتكلَّمون بالمتشابه من الكلام، يَخدعون جُهَّال الناس بما يُشبِّهون، فنعوذ بالله من فِتن المضلِّين"[12].

وعند تأمُّل هذين النَّصين، نجد أنَّ كلاًّ منهما يحمل نفس الأخطاء المنهجيَّة التي يَسلكها الخصم في موقفه من السلف، إنَّ القضية عندهم ليستِ انتصارًا للعقل وأحكامه، بقَدْر ما هي رِفْعة لمنهج القرآن والاعتصام به.

 

ومن أبرز هذه الأخطاء المنهجيَّة عندهم:

1- استعمال الألفاظ المجمَلة التي قد يَلْتَبِس فيها الحقُّ بالباطل، فإن في نفْيها نفيًا لبعض الحقِّ، وفي إثباتها إثباتًا لبعضِ الباطل.

2- يتركون المُحكم ويتكلمون بالمتشابه من الكلام؛ ليَخدعوا جُهَّال الناس بأنهم أصحاب النظر العقلي بما يُشَبِّهون عليهم من الكلام.

3- لجوؤهم إلى التأويل لَم يكنْ طلبًا للحقِّ في ذاته، وإنما كان انتصارًا للمذهب، وإبطالاً لرأْي الخَصم.

4- التنفير من رأي المخالف، باستعمال الألقاب المذمومة، والتشنيع عليهم بالأكاذيب، كالحشويَّة، والعجز والجهل، ومُحاربة العقل، ورفْض أحكامه.

5- الاستعانة على المخالف بالسلطان وسيفه، بدلاً من الرجوع إلى الحقِّ وأهله.

وهذه الأخطاء السابقة التي أشرْنا إليها ليستْ من باب الردِّ على الباطل بباطلٍ مثله، وإنما هي تِبيان لِمَا في الموقف الآخر من أخطاءٍ في المنهج الذي يَنسبه أصحابه إلى العقل، ويَنسبون إلى منهج غيرهم مُحاربة العقل.

 

ويتبيَّن من هذه الأخطاء التي أشرْنا إليها مدى الخلاف بين المنهجين في قضايا الغيب: منهج التعامل مع عالم الشهادة ودور العقل في ذلك المنهج، وكيفيَّة التعامُل مع عالم الغيب، ودور العقل في ذلك، وموقف العقل الذي اعتصَم بالنصِّ من منطق العقل نفسِه، ورأى أنه أكثر أمانًا وإيمانًا فيما لا سبيل للعقل إليه بذاته، وموقف العقل المخالِف الذي رأى أن التخيُّل العقلي، أو التوهُّم أو الظنون التي يَصِلون إليها بالتأويلات العقليَّة، كافية في تحقيق معنى الإيمان بالغيب.

وسوف تتَّضح القضيَّة أكثر في حديثنا عن علاقة العقل بالوحي والشرع.

 


[1] - راجع: دقائق التفسير 1/ 202، منهج القرآن في تأسيس اليقين، ص 41.

[2] - نفسه.

[3] - نفسه.

[4] - نفسه.

[5] - السُّنة، ص 10.

[6] - حديث العِرباض بن سارية، مشهور رَواه ابن ماجه في المقدِّمة ص 43، ورَواه أحمد 4/ 126، والحاكم وابن أبي عاصم في السُّنة 48، 49.

[7] - شرح السُّنة؛ اللالكائي، 23.

[8] - شرح السُّنة؛ للبغوي 227؛ نقلاً عن السُّنة؛ للالكائي 560.

[9] الإبانة 2/ 365 - 366؛ نقلاً عن السُّنة ص 56.

[10] - نفسه ص 57.

[11] - من كتاب السُّنة بتصرُّف، ص 18، المقدِّمة.

[12] - دَرء تعارُض العقل والنقل 152.

_________________________________________________________

الكاتب: د. محمد السيد الجليند

  • 1
  • 0
  • 1,397

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً