عز المؤمن استغناؤه عن الناس
ما أهم أسباب عيش الواحد عزيزا محفوظ القدر؟ ما السبيل إلى ذلك؟
كل واحد منا يتمنى أن يعيش عزيزا بين الناس، له قدره، لا يشعر بالدون، لا يطأطئ رأسه في بعض المواقف، يقول ما يعتقده... ما السبيل إلى ذلك؟ ما أهم أسباب عيش الواحد عزيزا محفوظ القدر؟
يبين ذلك حديث سهل بن سعد، قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس»؛ (رواه الطبرانـي في الأوسط (4278)، وحسَّن إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (929).
فمن أعظم أسباب العزة في الدنيا الاستغناء عن الناس، فلا يزال الإنسان عزيزا محفوظ القدر إذا كان مستغنيا عن الناس، لا يحتاج إليهم، ومتى ما سأل الناس لنفسه وأكثر من مسألتهم وطلب إعانتهم - هان عليهم، وقلَّ قدرُه عندهم؛ وشعر هو بجميل معروفهم عليه؛ فكان أسيرا لهذا الإحسان؛ فالمعروف عبودية..
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ♦♦♦ فطالما استعبد الإنسان إحسان
ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على الاستغناء عن الناس، وعدم طلب الحوائج من الناس، فكان يبايع بعض أصحابه على الاستغناء عن الناس؛ فعن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة؛ فقال: «ألا تبايعون رسول الله» ؟ وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: «ألا تبايعون رسول الله» ؟ فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: «ألا تبايعون رسول الله» ؟ قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: «على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وتطيعوا» - وأَسَرَّ كلمةً خفية - «ولا تسألوا الناس شيئا». فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله إياه؛ (رواه مسلم (1043).
فلنستغن عن الناس في حوائجنا، فما نستطيع القيام به قمنا به بأنفسنا، وما لا نستطيع أن نقوم به إن كان لنا مندوحة في تركه تركناه، وإن كان مما لابد منه طلبنا الإعانة من إخواننا وأقاربنا.
ومن أعظم الاستغناء عن الناس: استغناء من قدر عليه رزقه فيستعفف ولا يطلب المال من الناس، فيصبر على الضائقة، ويمتنع عن بعض الكماليات حتى يوسع الله عليه، فمن أنزل حوائجه بالله وصبر وتعفف أعانه الله ويسَّر أمره، ومن يتوكل على الله فهو حسبه؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ؛ فَقَالَ: «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ»؛ (رواه البخاري (1469) ومسلم (1053).
وإذا تصبك خصاصة فتجمل ♦♦♦ واستغن ما أغناك ربك بالغنى
وقد أثنى الله على طائفة من المسلمين لتعففهم وتركهم المسألة بقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [(273) سورة البقرة].
فالتعفف عن المسألة وعدم التطلع لأوساخ الناس مطلب شرعي، وقد يكون ذلك على سبيل الوجوب فمن كان قوياً في بدنه يستطيع العمل والتكسب ووجد عملاً يليق بحاله ويكفيه، حرمت عليه الزكاة؛ لأنَّه صار غنياً بكسبه كغنى غيره بماله، وإلاَّ فلا تحرم، فعن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال: أَخْبَرَنِي رَجُلَانِ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَةَ، فَسَأَلَاهُ مِنْهَا، فَرَفَعَ فِينَا الْبَصَرَ وَخَفَضَهُ، فَرَآنَا جَلْدَيْنِ فَقَالَ: «إِنَّ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» (رواه أحمد (17511) وغيره بإسناد صحيح ومما ينبه عليه في هذا المقام تساهل البعض في الأخذ من الضمان الاجتماعي مع عدم فقرهم و الأصل في الأموال التي تدفع من الضمان الاجتماعي أنها زكاة التجار فمن كان فقيرا حل له الأخذ أما الغني بنفسه أو بمن ينفق عليه كالمرأة لها زوج غني أو أولاد أغنياء فنفقتها عليهم ويحرم الأخذ من الزكاة ومن ذلك الأخذ من الضمان الاجتماعي.
ومن الاستغناء عن الناس الاستغناء عن الشفاعات فالبعض منا حينما يكون له أدنى حاجة في دائرة من الدوائر تجده مباشرة يسأل عن من يعرف أحدا يعمل في هذه الدائرة ليشفع له فلننزل حوائجنا بربنا تبارك وتعالى ونسأله الإعانة وتيسير الأمور فإن الأمر كله لله ونقدم على إتمام العمل ولو تعسر الأمر هنا لا بأس من طلب الشفاعة إذا كانت بحق
ممن يتأكد في حقه الاستغناء عن ما في أيدي الناس طالب العلم والداعية ففتنة المال من أعظم الفتن فإذا أصاب طالب العلم من دنيا الناس خاصتهم وعامتهم صعب عليه الاحتساب عليهم فبدأ يبحث لهم عن المعاذير وتسويغ الخطأ في أقوال أهل العلم وإن كان القول في غاية الشذوذ فعن كعب بن مالك الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» (رواه الترمذي (2376) و غيره بإسناد صحيح فالحرص على المال من غير حله وحب الرئاسة من أعظم مايفتك بدين المسلم فإفسادهما للدين أعظم من إفساد ذئبين جائعين دخلا في مراح غنم فأعملا في الغنم قتلا وأكلا فإذا فتن طالب العلم والداعية بالترؤس وحب المال ضل وأضل إن لم يتداركه الله برحمته وقد اعتنى الرسل عليهم الصلاة والسلام بهذه القضية مع قومهم فبينوا لهم أنهم لايريدون دنيا مقابل دعوتهم فأولهم نوح عليه السلام يخاطب قومه {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ} [(29) سورة هود] وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم يخاطب قومه {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [(90) سورة الأنعام].
فعلى طالب العلم والداعية أن يكون له مصدر رزق يغتني به عن الناس لما حضرت الوفاة سعيد بن المسيب وقد ترك مالا قال اللهم إنك تعلم إني لم أجمعه إلا لأصون به ديني
وذكر المزي في تهذيب الكمال (2/ 280) في ترجمة حماد بن سلمة عن محمد بن الحجاج: كان رجل يسمع معنا عند حماد بن سلمة فركب إلى الصين فلما رجع أهدى إلى حماد بن سلمة هدية، فقال له حماد: إني إن قبلتها لم أحدثك بحديث، وإن لم أقبلها حدثتك. قال: لا تقبلها وحدثني.
فخشي حماد بن سلمة أن يتأثر بهذه الهدية فيحابي تلميذه دون بقية التلاميذ فرد الهدية وهدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل فكان يقبل الهدية فلا يقع في نفس المهدي شيء بسبب رد الهدية وكان يكافئ المهدي فلا يشعر بأن له منة وفضلا. فشرع النبي صلى الله عليه وسلم لنا مكافأة من أحسن إلينا ليبقى الواحد منا عزيزا لايشعر بالدون أمام من أحسن إليه والله أعلم فعن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أتى إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تعلموا أنَّكم قد كافأتموه» (رواه أبو داود (1672) و غيره و رواته ثقات).
ومما يندب الاستغناء عنه الاستغناء عن الزوجة والأولاد أحيانا فيقوم الأب والزوج ببعض حوائجه بنفسه ولا يطلب ذلك من أولاده في كل صغيرة وكبيرة فهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم بل كان صلى الله عليه وسلم يقوم أحيانا بحاجة أهله فعن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في مِهْنَةِ أهله، تعني خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة ) (رواه البخاري).
إذا كان عز الأفراد مرهونا باستغنائهم عن الناس فكذلك عز الشعوب والدول مرهون بذلك فلن يعتز المسلمون إلا بتمسكهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم الذين فيهما الأمر بأخذ أسباب العزة فلا عز لنا المسلمين إلا إذا استغنينا عن غيرنا واستقلينا عنهم في صناعتنا في اقتصادنا في نظامنا في سياستنا في سائر شؤوننا.
أوصيك أخي بوصية الإمام أحمد رحمه لله لرجل حيث قال له : استغن عن الناس فلم أرَ مثل الغنى عنهم.
في الختام لابد أن نفرق بين أمرين الأول سؤال الناس وطلب مساعدتهم بمال أو بغيره فهذا مما ينبغي الترفع عنه وطلب الناس قد يكون محرما وقد يكون مكروها وقد يكون مباحا.
الثاني مساعدة المحتاج وتفريج المكروب سواء ابتدأناه نحن القادرين من غير طلبه أو بعد طلبه فهذا الأصل فيه الاستحباب لعموم النصوص الواردة في الحث على الإحسان والبذل ومساعدة الناس.
_______________________________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان
- التصنيف:
عنان عوني العنزي
منذ