الإعاقة
في حياة رسول الله ﷺ وفي حياة صحابته شواهد كثيرة تدل على أن الإعاقة ليست حاجزًا ولا مانعًا من تحقيق المراد ومبتغى الإنسان في الدنيا والآخرة
- التصنيفات: تربية النفس -
إن الله تبارك وتعالى خلق الخلق وأحصاهم عددًا، وصوَّر كل فرد في صورة، وجعل كل صورة دلالة على كل إنسان، والكُلُّ خلق الله، منهم من خلقه كاملًا مكتمل الأعضاء، ومنهم مَن ابتلاه بنقصٍ في جسده، وفي كلٍّ حكمةٌ لله وسِرٌّ من أسراره أودعه في خلقه، وليس في ذلك النقص أدنى دلالة على غضب الله على العبد المبتلى كما يظُنُّ بعض الناس، بل هو في الحقيقة حُبٌّ خاصٌّ من الله لعبده، فعلى قدر المحبة يأتي البلاء والابتلاء، والله إذا أحَبَّ عبدًا ابتلاه، وقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الله عز وجل إذا أحَبَّ عبدًا ابتلاه»[1]، وإن الناظر بعين التفقُّد والتفحُّص والاستقراء لحال المجتمعات وتعاملهم مع هذه الفئة من الناس؛ يجد السواد الأعظم من الناس تشبَّعوا بنظرة تشاؤمية لهؤلاء، سواء على مستوى المشاعر أو التسميات، فتراهم غالبًا ما ينفرون منهم، وهم يظنون أن صحبتهم تنقص من مكانتهم وقدرهم، ناهيك عن تلك النظرة الازدرائية وتسميتهم بالمعاقين أو المتخلِّفين عقليًّا، وهو بلا شكٍّ ينعكس سلبًا على نفسيتهم، بعكس التسميات الإيجابية التي تترك أثرًا طيبًا وانطباعًا جيدًا؛ كذوي الاحتياجات الخاصة مثلًا؛ مما يدفعهم ويُسهِّل عليهم الاندماج في محيطهم ومجتمعاتهم والحياة العامة؛ إذ لا يخفى على المرء أن ديننا الحنيف يأمرنا بالتأدُّب والتخلُّق مع الناس ومناداة الإنسان بأحبِّ الأسماء إليه.
وإذا كان المجتمع ينظر إلى هذه الفئة الاجتماعية بعين النقص والازدراء؛ فإن دين الإسلام الذي جعل ديدنه المساواة لا يراهم عبئًا وثقلًا على المجتمع؛ بل يعتبرهم مواطنين صالحين وعبادًا لله، يستطيع كل فرد منهم خدمة دينه ووطنه، شأنهم في ذلك شأن الناس أجمعين، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، غير أن ذا الحاجة الخاصة في ابتلاء شاء الله أن يبتليه به، وهو أمر عادي يعتري جميع الناس في هذه الدنيا الفانية الموسومة بدار الابتلاء، والإسلام حثَّ الناس على الصبر في مواجهة متاعب الحياة ومصائبها؛ لأن أمر الله لا مردَّ له ولا مفرَّ منه؛ بل للمؤمن خير فيما قدره الله تعالى عليه إنْ هو التزم بقواعد الابتلاء، وقد أقرَّ ذلك مولانا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حديث لو اطَّلع عليه مَن نزلت عليه كل مصائب الدنيا وأحاطه الدهر بنوائبه لهان عليه ما يجد؛ قال عليه الصلاة والسلام «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»[2]، وهي شهادة أو تزكية بطابع محمدي، فالوصف بالخيرية من الرسول صلى الله عليه وسلم وِسامُ فخرٍ للمؤمن المُبتلى؛ إذ لو لم يكن في ذلك خيرٌ لمَا ابتلى الله به عباده المؤمنين، ولمَا كان سببًا في محبته لهم، ولمَا كان سببًا في رضوان الله ومغفرته.
أيها الإخوة المسلمون، لقد اهتمت الشريعة الإسلامية بالضعفاء وذوي الاحتياجات الخاصة اهتمامًا عظيمًا يرقى إلى أعظم درجات الاهتمام وأسماها، وهو ما يظهر جليًّا في النصوص الشرعية التي تحثُّ الناس على وجوب رعايتهم والوقوف بجانبهم حتى تُكفل لهم الحياة الطيبة، والقرآن الكريم دائمًا ما ينبذ التنقيص من الآخر وتحقيره والسخرية منه، وهو بذلك يُؤسِّس لجمال الأخلاق وحسن المعاملة وضمان الخيرية للأقوى في التقوى، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات: 11]، فكم من شخصية في التاريخ لها وزنها ومقامها وأثرها، والعبرة في هذه الحياة ليست بنقص الأعضاء أو كمالها؛ وإنما العبرة بالتأثير والتأثُّر والعمل، فكم من كامل الأعضاء سليم الحواس كامل الخلقة لا نجد له أثرًا في الحياة ولا يُذكر في حياته ولا بعد مماته، لم ينفع نفسه ولا قدَّم لمجتمعه أي شيء- وما أكثرهم! - وكم ممن ابتلاهم الله تعالى بنقص في الخلقة والأعضاء استطاعوا بالتوكُّل على الله والثقة في النفس والتسليم بقضاء الله أن يفعلوا ما لم يفعله كامل الأعضاء، وإن الكامل في الحقيقة هو الذي آمن بقدراته واندمج في مجتمعه وقدم للناس ما ينتفعون به ولم يبق عالةً عليهم، واستطاع بنجاحه أن يكون درسًا لغيره في الإقدام على مشروع الحياة، فالإعاقة إعاقة الفكر، والتقاعسُ عن العمل أُمُّ الإعاقات، والذي يصنع المجد هو الجد والاجتهاد والعمل، وإن الجميل من جَمُلت أخلاقه وصفا قلبه، فلا عبرة إلا بالأثر، ولا فرق بين الناس إلا بالتقوى، قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبِكم» [3].
أحبابي الكرام، في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حياة صحابته شواهد كثيرة تدل على أن الإعاقة ليست حاجزًا ولا مانعًا من تحقيق المراد ومبتغى الإنسان في الدنيا والآخرة، وقصة سيدنا عمرو بن الجموح خير شاهد ودليل، فقد ورد في سيرته أنه كان يريد الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم للجهاد في سبيل الله وكان أعرجَ، والعرج عذر أقامه الله مع المرض والعمى؛ إذ قال سبحانه وتعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61]، وكان لعمرو بن الجموح بنون أربعة أرسلهم للقتال مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يطلب من رسول الله أن يذهب إلى المعركة ويقول له: يا رسول الله، إن بَني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو "أن أطأ بعرجتي هذه الجنة"، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أمَّا أنت فقد عذرك الله فلا جهادَ عليك»، وقال لبنيه: «ما عليكم ألَّا تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة»، فخرج معه فقاتل حتى استشهد[4]، فهل يرى المرء همة هذا الصحابي الجليل؟ لم يمنعه مرضُه ولا عرجُه من شهود الحرب مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل لم يثنيه ذلك عن طلب الشهادة في سبيل الله والسعي وراء شرف حمل لواء الدين والدفاع عن راية الإسلام والفوز بالجنة، وكم في واقعنا من قصص ونماذج تشهد على ما يُحقِّقه ذَوُوا الاحتياجات الخاصة من نجاح وتألُّق على مستوى كل الميادين، فمنهم مُبَلِّغ لدعوة الله، ومنهم رياضي، ومنهم عالم فيزياء أو كيمياء أو متقن لعلوم أخرى...
أيها الأحباب، هذه عبرة، فلا يخفى على أي إنسان أن أصحاب الاحتياجات الخاصة كغيرهم من الناس، واجبٌ علينا أن نُذكرهم بقدراتهم، ونهتمَّ بأمرهم، ونلتفت لمواهبهم، وألا نجعل من إعاقتهم سببًا لإقصائهم من الحياة والمجتمع، وحق علينا أن نواسيهم ونأخذ بأيديهم إلى حيث نجاحهم واندماجهم في الحياة العامة، فلا فرق بين عباد الله إلا بالتقوى، ولا فضل في هذه الحياة إلا بالعلم والعمل.
نسأل الله تعالى بِرَّه وإحسانَه، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين.
[1] شعب الإيمان لمؤلفه: أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخراساني، أبو بكر البيهقي (المتوفى: 458هـ)، ونص الحديث بسنده: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ، نَا إِبْرَاهِيمُ [ص:238] بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، نَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا ابْتَلَاهُ لِيَسْمَعَ صَوْتَهُ)).
[2] صحيح مسلم، باب المؤمن أمره كله خير، ونص الحديث بسنده: حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الْأَزْدِيُّ، وَشَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، جَمِيعًا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ - وَاللَّفْظُ لِشَيْبَانَ - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ)).
[3] صحيح مسلم، باب تحريم ظلم المسلم وخذله، ونص الحديث بسنده: حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)).
[4] تفسير الشعراوي، الباب 122، ج 3، ص 1732.