يقظة الوعي الحضاري هل يُنهي زمن الغفوة ؟

مسفر بن علي القحطاني

إن الأزمة الحقيقية التي تمر بها مجتمعاتنا الإسلامية في عصورنا الراهنة هي أزمة وعي بالدور الحضاري للأمة التي أراد الله –عز وجل- أن تكون شاهدة على كل الأمم وفي كل العصور!!

  • التصنيفات: قضايا إسلامية -

يشكّل غياب فقه مقاصد الشريعة وبُعده عن فقه الأحكام التكليفية وعزله عن الفروع الجزئية- أزمة واقعية على المستوى الفكري والتطبيقي للإسلام؛ فأصبحت الأحكام الشرعية نتيجة لهذا الغياب عبارة عن أفعال ديناميكية تصدر من اللاشعور الاعتيادي عند ممارسة الفرد لها دون فهم حقيقي لمراد الشرع الحنيف من هذه التكاليف أو مقصد الدين من هذه العبادات، كما أدّى هذا الغياب في فهم المقاصد إلى تأطير الشريعة في مجالات محدودة من الحياة، وقصر التعبّد على نواحٍ معدودة من العبادات العملية، فأثر هذا الفصام في تهميش دورها التفاعلي في "حفظ نظام الأمة واستدامة صلاح هذا النظام الشامل بصلاح المهيمن عليه، وهو النوع الإنساني" .. كما قال الإمام الطاهر بن عاشور -رحمه الله- في معرض ذكره عن المقصد الرئيس لهذه الشريعة.

إن الأزمة الحقيقية التي تمر بها مجتمعاتنا الإسلامية في عصورنا الراهنة هي أزمة وعي بالدور الحضاري للأمة التي أراد الله –عز وجل- أن تكون شاهدة على كل الأمم وفي كل العصور!! يقول الحق تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ..} [آل عمران:110] وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً...} [البقرة:143]. فالخيرية التي وُصفت بها الأمة إنما هي معلّلة بالدور الذي يجب أن تؤديه لتلك المجتمعات الأرضية من أمر بالمعروف بكل ما يشمله هذا المفهوم، وكذلك النهي عن المنكر بنفس الشمول أيضاً، وهذا المعنى الزائد عن الوصف هو من أهم الأسس في شهودنا الحضاري على الأمم، وقد نبه عمر -رضي الله عنه- على حقيقة هذا المفهوم الشامل الذي يتعدى الأحكام الفردية إلى الممارسات الحياتية المختلفة إلى الهيئات الخارجية للناس، وذلك لمّا رأى في أحد الحجج التي حجها هيئة سيئة للناس لا تليق بمقام أهل الإسلام، حينها قرأ قوله تعالى:  {كنتم خير أمة أخرجت للناس ..} ثم قال:، من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله منها.

إن المراد بحقيقة هذه الأزمة التي تعاني منها الأمة يكمن في أن رسالتها في الشهود الحضاري على الخلق جميعاً: إنسهم وجِنّهم، برّهم وفاجرهم، جمادهم وحيوانهم غير واضحة في وعيهم الديني فضلاً عن وجود هذه المعاني في واقع حياتهم .. بل أصبحت مغيّبة من دروس العلم وخطب الوعظ ولقاءات ومؤتمرات وكتابات أهل الفكر والعلم والنظر- إلا من رحم ربك- وأظن أن عددهم قليل بالنسبة لجموع أولئك النخب.

هذه الأهمية لا مجال لبسط الحديث حولها في مثل هذا المقال؛ بل يحتاج الأمر إلى فصول وأبواب حتى يتم تشكيل الوعي المدرك بالخطوة الأولى في مدارج العمل الراشد للتحضر .. ولعل الأهم في هذه المرحلة أن نثير أهل العزم والحزم من علماء ودعاة الأمة الإسلامية بأن يبعثوا من جديد هذا الوعي في عقول الجميع، ويقدموا لأفراد الأمة العدة الكافية والعتاد اللازم لخوض المعركة الحضارية التي زاد سعارها بعد اندفاع سيل العولمة في كل أودية الفكر والثقافة والاقتصاد في مجتمعاتنا؛ حتى الحملات العسكرية الغربية التي تُشنّ على بعض البلاد الإسلامية وغيرها تُسوّغ بأنها دفاع عن القيم والمبادئ الحضارية، ولا يقصدون هنا سوى حضارتهم دون غيرها.

فأُقحمنا -شئنا ذلك أم أبينا- أمام صدام عملي بين الحضارات العالمية، وإن كان المفهوم النظري لهذا الصدام أكثر تسامحاً وتعقّلاً - ومع هذا التحفظ على المصطلح - فإن الأدوات الفاعلة في هذه الحرب المستعرة هي للعلم والتقدم والتسابق التقني والتنافس الاقتصادي على الموارد والطاقة، وليست في حقيقتها سباقاً في التسلح أو من خلال عسكرة الحرب.

فالمعركة ضارية، وتحتاج منا إلى تأهل يدفعنا إلى معرفة موقعنا على خارطة الأمم، ومحاولة اليقظة العاجلة بالعودة إلى أسس المدافعة والبناء، ولن يتم ذلك إلا بالبناء العلمي، وإشاعة العدل والمساواة، واحترام الإنسان والإحسان إلى كل شيء.

وبالعودة الصادقة الواعية للدين نضمن الحصول على كل تلك الأدوات الفاعلة للنهوض الحضاري، كما استخدمها النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعثه الأول للأمة ..فالعلم فريضة في شريعتنا على كل مسلم ومسلمة، والعدل والمساواة قواعد كلية عليها قامت كل أحكام الدين و الدنيا، واحترام الإنسان جاء من خلال حفظ كلياته الخمس: دينه ونفسه ونسله وعقله وماله، وانتظمت كل الأحكام الشرعية في تلك المقاصد الكلية، أما الإحسان فقد كتبه الله –عزوجل- على كل شيء حتى في أعنف حالات التعامل مع الآخرين، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله كتب الإحسان في كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» حتى الجماد والبيئة لم يُغفل حقها من التشريع؛ كما في النهي عن البول في الماء الراكد أو تحت الأشجار أو طرقات الناس، وكذا نهيه عن سبّ الدهر، والريح، أو قطع الأشجار المثمرة، إلى غيرها من صور التحضر الواعي الذي افتقدناه في مجتمعاتنا التي أصبحت مضرب المثل في التخلف والفقر، وشيوع الأمراض، وانعدام الحياة الكريمة للفرد العادي، فهل ستشكّل يقظة الوعي لدينا الإفاقة اللازمة لغفوتنا الحضارية الراهنة..؟!

ـــــــــــ