حكم تعلم النساء العلوم الدنيوية

منذ 2023-01-03

تعلم المرأة للعلوم المدنية، الأصل فيه الجواز، وقد ينتقل إلى الكراهة والحرمة، أو إلى الاستحباب والوجوب، وذلك بحسب حال الدراسة، وحاجة المجتمع.

مصطلح العلوم الدنيوية:

يمكن تعريف العلوم الدنيوية بأنها العلوم التي يُرشِد إليها العقل كالحساب، أو التجربة كالطب، أو السماع كاللغة[1].

 

فكل ما هو مغاير للعلوم الشرعية التي تدور في فلك الوحي، أو ترجع إليه، يمكن اعتباره من العلوم الدنيوية.

 

 

أقسام العلوم الدنيوية باعتبار الحكم الشرعي عليها:

إذا كانت العلوم الشرعية محمودة كلها، ومندوبًا إلى طلبها وتعلمها، فإن العلوم الدنيوية ليست كذلك؛ فقد ذكر العلماء أن منها ما هو محمود؛ كعلوم الطب والرياضيات، ومنها ما هو مذموم كعلوم السحر، ومنها ما هو مباح كالأشعار.

 

وقد قسَّم العلماء تعلم تلك العلوم إلى أقسام:

الأول: ما هو فرض كفاية؛ وهو تعلم ما في تعلمه قوام أمر الدنيا، وانتظام مصالحها؛ كالطب والحساب والصناعات كالفلاحة والخياطة.

 

الثاني: ما هو مندوب؛ وهو التعمُّق في دقائق الحساب وحقائق الطب، وغير ذلك مما يُستغنى عنه، ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه.

 

الثالث: ما هو مباح؛ كعلم الأشعار التي لا سخف فيها، وكتواريخ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما يجري مجراها.

 

الرابع: ما هو محرم؛ كعلوم السحر والشعوذة والطلاسم، ونحو ذلك[2].

 

ولا ريب أن ما ذكره بعض العلماء من العلوم المحمود تعلمها مما له ارتباط بالمصالح الدنيوية، وأن تعلمها فرض كفاية على الأمة - يتغير من زمان إلى آخر، ومن عصر إلى عصر، فقد مثَّل له الغزالي بعلوم الطب والحساب، والآن صارت علوم الرياضيات والفيزياء، والكيمياء والأحياء، والاقتصاد والتكنولوجيا، ونحو ذلك من العلوم الحديثة - ضروريةً في عصرنا، بل تقوم عليها الحضارة الحديثة، فيكون تعلم العلوم من فروض الكفايات في عصرنا[3].

 

أما عن حكم تعلم المرأة لتلك العلوم لا سيما العلوم الحديثة، فإننا نجد أن هناك اتجاهين للعلماء المعاصرين في هذه المسألة:

الاتجاه الأول: التفريق بين تعلم بعض العلوم وبعضها الآخر.

فأجاز أصحاب هذا الاتجاه للمرأة تعلم العلوم المتعلقة بشؤون المرأة ووظيفتها الرئيسة كأمٍّ وزوجة، وذلك كالعلوم المتعلقة بالتطريز والحياكة، وتربية الأطفال، أو علوم الطب؛ لتقوم بتطبيب النساء وعلاجهن؛ لئلا تنكشف عوراتهن إذا قام الرجال بتطبيبهن، ومنع مَن تعلم العلوم التي لا تتلاءم مع وظيفة المرأة من رعاية للبيت وتربية للأولاد، فمنع تعلمها علومَ الهندسة والفيزياء والميكانيكا والفلك؛ لأنها لا تناسب طبيعة المرأة، ولا الدور المطلوب منها القيام به في المجتمع في المنظور الإسلامي، ولأن تعلم هذه العلوم والعمل في وظائفها سيكون على حساب وظيفتها ودورها الرئيس كزوجة وأم.

 

الاتجاه الثاني: عدم التفريق بين تلك العلوم في جواز تعلم المرأة لها.

فما دام ذلك العلم مباحًا غير محرم، فإنه يُباح تعلمه للمرأة كما يُباح للرجل، ما لم يقترن به محرم آخر كاختلاط وخلوة.

 

ولنعرض لكلام كل طائفة من هذين الاتجاهين.

 

الاتجاه الأول:

وهو الذي يفرق بين تعلم بعض العلوم وبعضها الآخر.

 

ويجد أصحاب هذا الاتجاه من المعاصرين في التفريق بين تعلم بعض العلوم دون بعض سلفًا لهم من الفقهاء القدامى حول ما أجاوزه من علوم تتعلمها المرأة.

 

فتعلم النساء للطب جاءت الإشارة إليه عند الفقهاء المتقدمين، وإن لم يكن الأمر بالصورة الموجودة حاليًّا؛ نظرًا للتطور الكبير في علوم الطب وسائر العلوم الحديثة، التي لم تكن موجودة بصورتها هذه في عصر الفقهاء القدامى.

 

جاء في الجوهرة من كتب الحنفية: "... أما إذا كان المرض في سائر بدنها غير الفَرْجِ، فإنه يجوز له النظر إليه عند الدواء؛ لأنه موضع ضرورة وإن كان في موضع الفرج، فينبغي أن يُعلِّم امرأةً تداويها"[4]؛ قال ابن عابدين: "والظاهر أن (ينبغي) هنا للوجوب"[5].

 

ولعله يُستأنس لهذا القول بأنه في عصر النبوة وُجدت نساء "قابلات" يقُمْنَ بمساعدة النساء في الولادة، وأخريات "خافضات" يقُمن بختان الإناث؛ فيكون تعلم علوم الطب المتعلقة بالنساء من الفرض الكفائي على النساء من هذه الجهة المذكورة؛ ذلك أن الفقهاء حين قالوا: إن ما كان من العلوم والحرف لها منافع دنيوية وتعلمه فرض، أرادوا بهذا وجود من يعرفها في المجتمع الإسلامي، دون تحديد أن يكون متعلموها هم الذكور[6].

 

وفي إحدى فتاوى علماء اللجنة الدائمة: "تعلم علوم الطب واجب وجوبًا كفائيًّا على المسلمين رجالًا ونساءً؛ لحاجتهم إلى ذلك في علاج الرجال والنساء ... وخاصة ما يتعلق بالنساء والأطفال، فإن الأمة في حاجة مُلِحَّة إلى طبيبات من النساء؛ حتى لا تضطر المرأة أن يكشف عليها الرجال ويطلعوا على عورتها لتوليدها، أو تشخيص مرضها، وإذا حسنت نيتها في تعلمها وأداء مهمتها، كان لها أجر عظيم، فلتحتسب ولتحسن قصدها، ولتمضِ في علم الطب على بركة الله"[7].

 

وأما تعلم الحياكة والتطريز، فقد وقعت الإشارة إليه في كلام ابن عابدين الحنفي في مسألة إلزام الأب بنفقة ابنته، فكان مما ذكره أن للأب تسليم ابنته "لامرأة تعلمها حرفة كتطريز وخياطة مثلًا"[8].

 

 

أما علوم الهندسة والفيزياء والكيمياء وغيرها من العلوم الحديثة:

فمن الطبيعي ألَّا نجد ذكرًا لها في كلام الفقهاء القدامى، أما المعاصرون الذين يتبنون اتجاه التفريق بين تعلم بعض العلوم دون بعضها الآخر، فيستندون في ذلك إلى كون تلك العلوم التي يمنعون من تعلمها غير ملائمة لطبيعة المرأة، ولا لدورها المطلوب منها في المجتمع في المنظور الإسلامي.

 

 

ولننقل نماذجَ من كلامهم في هذا المنع:

جاء في كتاب الدين الخالص للشيخ محمود خطاب السبكي: "... وإذا كنت من الذين يحبِّذون تعليم المرأة، فإني أرى أن يُقصَر هذا التعليم على ما يناسب طبيعتها وبيئتها، وما تدعو إليه حالة جنسها، وما يلائم رسالتها في الحياة، ومن العبث أن تتعلم المرأة هندسة البناء، وهندسة الصرف والري، أو غير ذلك مما لا يتفق وتكوينها، إن مجتمعنا في حاجة إلى زوجات وأمهات مثقَّفات ثقافة عالية في كل ما له علاقة بشؤون الأسرة والأولاد، مع حظٍّ وافر من التعليم؛ حتى يستطعن تحقيق رسالة سامية ينشدها المجتمع منهن[9].

 

وفي فتاوى الشيخ عبدالعزيز بن باز: "ليس للمرأة التخصص فيما ليس من شأنها، وأمامها الكثير من المجالات التي تتناسب معها؛ مثل: الدراسات الإسلامية، وقواعد اللغة العربية، أما تخصصات الكيمياء والهندسة والعمارة والفلك والجغرافيا، فلا تناسبها، وينبغي أن تختار ما ينفعها وينفع مجتمعها، كما أن الرجال يعدون لها ما يخصها مثل الطب النسائي والولادة وغيرها"[10].

 

وقال الدكتور نور الدين عتر: "إن الله لم يحرم تعليم الفتاة، إنما حثَّ على تعليمها، ولكن نجد اليوم بنات المسلمين في أنحاء العالم الإسلامي يدرسن موادَّ لا تصلح لأنوثتهن وطبيعتهن التي خلقها الله، فهي تخالف تكوينها الجسمي مثل الجيولوجيا والكيمياء والتنقيب عن البترول ... فحين أمرنا الإسلام بتعليم الإناث، أمرَ بتعليمهن الأشياء التي تصلح لمقوِّمات الحياة التي تليق بالمرأة، والتي تحتاج إليها كربَّةِ بيتٍ مشرفة على شؤون منزلها؛ مثل: التطريز والخياطة، والطهي وتربية الأولاد، وتعليمهن الدين من عقائد وعبادات، وتهذيب وسيرة، وغيرها من العلوم النافعة التي تنفعها في الدنيا والآخرة، ولكن الأيدي الخفية لا ترى هذا، إنها تريد تدميرها وانحرافها عن طريق الحق إلى طريق الهاوية"[11].

 

أما الاتجاه الثاني:

الذي يرى أصحابه عدم التفريق بين علوم وأخرى في تعلم المرأة لها، وأنَّ لها أن تتعلم الرياضيات والهندسة والفيزياء والكيمياء، كما لها أنَّ تتعلم الطب والآداب، لكن المهم ألَّا يقترن بتعلمها محذور شرعي آخر؛ كالتبرج، والاختلاط بالرجال.

 

يقول الشيخ مصطفى صبري: "إني لا أمنع المرأة عن التعلم، ولا من التبحر في العلوم لمن يُستشْعَر منها النبوغ، لكن بشرط أن يكون كل من التعلم والتبحر في مدارس خاصة بالنساء، لا يخالطهن الطلاب الذكور، ومدرساتهن منهن"[12].

 

ويقول أبو الأعلى المودودي بعد تقريره أنَّ على المرأة أن تتعلم ما يساعدها في أن تكون زوجة صالحة وأمًّا رؤومًا:

"ثم إنْ كانت امرأة قد آتاها الله – بعد ذلك - عقلًا خصبًا وفكرًا غير عادي، فصَبَتْ بنفسها إلى تتعلم ما عدا ذلك من العلوم والفنون، فالإسلام لا يعترض سبيلها دونه، ما دامت لا تتعدى الحدود التي وضعها الشرع لبنات جنسها"[13].

 

ومن حجج أصحاب هذا الاتجاه:

1) إن الإسلام يدعو إلى العلم والمعرفة، والأصل أن الرجل والمرأة في هذا سواءٌ.

فالإسلام يسوِّي بين الرجل والمرأة "في حق التعليم والتثقيف؛ حيث أعطى المرأة الحقَّ نفسه الذي منحه للرجل، فحقها في تحصيل العلوم والفنون والأدب بمختلف فروعها، ولا يعني طلب العلم البقاء في البيت، وإنما يتعدى ذلك للسعي والبحث عن موارده؛ حيث تلقَّتِ المرأة المسلمة العلمَ من الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة ومن أصحابه في المسجد"[14].

 

ويقول الشيخ محمد الحجوي في ذلك:

"ولا مانع للمرأة من الطب والهندسة والتدريس ونشر العلم ... لوقوع جلٍّ من ذلك مِنَ النساء في الصدر الأول من الإسلام وبعده، ووقوع الإجماع السكوتي عليه ..."[15].

 

2) ومن حجتهم أيضًا أن النساء يستفِدْنَ من تعلُّم هذه في توسيع مداركهن، وتدريب عقولهن، وتعليم أبنائهن.

 

"فلتتعلَّمْ بناتنا ما شِئْنَ من العلوم؛ ليتوسع إدراكهن، وتكبر عقولهن، وليشاركن في بناء الجيل المسلم المجاهد الجديد ... وإنها لمهمة جليلة"[16].

 

3) ومن حجتهم أن العِبرة بكون العلم مباحًا في نفسه، وما دام كذلك، فتعلمه جائز للمرأة، كما هو جائز للرجل؛ ولأن الأصل في الأشياء الإباحة.

 

"... وبناءً على ذلك يمكن الاستنتاج أن المرأة المسلمة لها أن تتعلم كافة فروع العلم ما لم يَرِدْ نص يحرم فروعًا معينة من العلم في القرآن والسنة المطهرة، أو ما لا يتعارض مع مقصد من مقاصد التشريع، فلم نجِدْ في القرآن ولا في السنة ما يمنع من تعليم الأنثى، أو يخص ذكر بعلم دون الأنثى، بل نجد آيات الله تدعو إلى العلم والتعلم الشامل للجنسين، ولكن ما حرمه القرآن هو العلم الضار الذي لا ينفع كالسحر مثلًا"[17].

 

وفي جواب سؤالٍ عن حكم تعلم المرأة العلوم الدنيوية للمرأة؛ كالطب، أو الهندسة، أو الكيمياء ...؛ إلخ.

 

"فلا بد من التفريق بين مقام الجواز أو الإباحة، وبين مقام الفضل والاستحباب؛ فتعلم المرأة للعلوم المدنية المذكورة في السؤال، الأصل فيه الجواز، وقد ينتقل إلى الكراهة والحرمة، أو إلى الاستحباب والوجوب، وذلك بحسب حال الدراسة، وحاجة المجتمع، فإذا انضبط حال الدراسة بالضوابط الشرعية، وكان مجالها مما يحتاج إليه المجتمع؛ كتطبيب النساء، والتدريس لهن، ونحو ذلك، كان احتساب المرأة في تعلم ذلك مما يقربها إلى الله، وأما إذا كانت الدراسة غير منضبطة بالضوابط الشرعية، أو كان مجالها لا يفيد المرأة، ولا يحتاج إليه المجتمع المسلم في خصوص النساء، فخروجها عندئذٍ للدراسة يدور بين الكراهة والحرمة، بحسب الحال[18].

 

 

القول المختار:

الذي يظهر جواز تعلم المرأة للعلوم الدنيوية بلا تفريق بين علوم وأخرى، ما دامت تلك العلوم مباحة في الأصل.

 


[1] انظر: إحياء علوم الدين (1/ 16).

[2] انظر: إحياء علوم الدين (1/ 16)، المجموع شرح المهذب (1/ 27)، أبجد العلوم (ص: 47).

[3] انظر: المفصل في أحكام المرأة (4/ 238).

[4] الجوهرة النيرة على مختصر القدوري (2/ 284).

[5] الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (6/ 371).

[6] انظر: المفصل في أحكام المرأة (4/242).

[7] فتاوى الطب والمرضى لجماعة من العلماء (ص: 240).

[8] حاشية رد المختار على الدر المختار (3/ 612).

[9] الدين الخالص أو إرشاد الخلق إلى دين الحق (7/ 165). وانظر أيضًا الإسلام وقضايا المرأة المعاصرة للبهي الخولي ص 216.

[10] مجموع فتاوى ابن باز (24/ 40).

[11] ماذا قالوا يومًا عن المرأة؟ لنور الدين عتر، ص: 64، نقلًا عن المرأة المسلمة أمام التحديات لأحمد الحصين (ص 104).

[12] قولي في المرأة، مصطفى صبري، ص 59 - 60.

[13] الحجاب لأبي الأعلى المودودي، ص 244.

[14] تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة المتعلقة بالمرأة من منظور إسلامي، ص123، محمد حسني أحمد، بدون سنة نشر، ولا دار طبع.

[15] المرأة بين الشرع والقانون للعلامة محمد مهدي الحجوي، ص 35.

[16] تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية والاختلاط المستهتر، للشيخ محمد لطفي الصباغ، ص 28.

[17] تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة المتعلقة بالمرأة من منظور إسلامي، محمد حسني أحمد، ص123.

[18] فتوى رقم (274882) تعلم المرأة للعلوم المدنية، رؤية شرعية واقعية، المفتي: مركز الفتوى، بإشراف د. عبدالله الفقيه، موقع الإسلام ويب، على الشبكة العنكبوتية.

________________________________________________________

الكاتب: د. علي حسن الروبي

  • 5
  • 0
  • 1,607

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً