التطفيف المجتمعي

لنحذر من التطفيف وبخس الحقوق والظلم، ولنكن من أهل العدل والقسط؛ فإن الله تعالى يحب المقسطين.

  • التصنيفات: النهي عن البدع والمنكرات -

تعددت صور الوعيد والتحذير والترهيب في كتاب الله للمعاصي والآثام؛ ليرتدع عنها الخَلْقُ والأنام، ومن تلك الصيغ البلاغية كلمة "ويل"، التي تكررت في كتاب الله تعالى، ونقف اليوم مع إحداها، والتي حذرت من فعل شنيع وخُلُق ذميم، وتوعَّدت فاعله بالويل، وأنذرته؛ فقال جل وعلا: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 1 - 6].

 

هؤلاء المطفِّفون أخلُّوا بميزان الحق والعدالة، وهتكوا قيم الصدق والأمانة؛ ففي حال شرائهم من الناس يستوفون لأنفسهم الكيل والوزن تامًّا، وإن كانوا بائعين أنقصوه، فكانوا على هذه الصورة يتصرفون بلا رقيب أخلاقي يصدهم، ودون رادع اجتماعي يردعهم، وكأنهم أمِنوا العقاب ونسوا يوم الحساب؛ روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ كانوا من أبخس الناس كيلًا؛ فأنزل الله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}، فأحسنوا الكيل بعد ذلك)).

 

ولقد توعَّد ربنا من طفَّف في الكيل أو الوزن بهذا الوعيد، وكفى به وعيدًا وإنذارًا، والتطفيف - عباد الله - نقص يخون به المرء غيره في كيل أو وزن أو حق، فكل من خان غيره وبخسه حقه، أو انتقص مما وجب عليه، فهو داخل في هذا الوعيد.

 

قال السعدي رحمه الله في تفسير هذه السورة: "دلت الآية الكريمة على أن الإنسان كما يأخذ من الناس الذي له، يجب عليه أن يعطيهم كل ما لهم من الأموال والمعاملات".

 

معاشر المؤمنين:

اعلموا - أثابكم الله - أن التطفيف ليس خاصًّا بالكيل والوزن، بل هو عام يدخل فيه كل بخس، سواء كان بخسًا حسيًّا أو معنويًّا، فمن التطفيف أن يطالب الموظف بكل ما له، مع إخلاله بواجباته الوظيفية وتقصيره، فهو يطالب بكل ما يظنه حقًّا له، ويقصر فيما هو واجب عليه.

 

ومن التطفيف تطفيف المعلِّم في حقوق التعليم والتربية تجاه طلابه، من جودة التحضير، وحسن التعليم، ودقة التربية والإحسان في الأداء، وفي مقابل ذلك يطالب تلاميذه بنَيلِ أعلى الدرجات ويحاسبهم على ذلك، ويُلِحُّ على إدارته لاستيفاء كافة متطلباته وحقوقه، وكذلك تطفيف الطلاب بتقصيرهم عن الجد والمذاكرة، والمطالبة بأعلى الدرجات والنجاح، أو باتخاذ الغش وسيلةً للنجاح، كما نسمع عن حالات الغش هذه الأيام.

 

ومن التطفيف استئجار العمال واستيفاء ما استُؤجروا له، وبخس حقوقهم كلها أو بعضها؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يعطِهِ أجره»؛ (رواه البخاري (2270)).

 

ومن التطفيف عباد الله، تطفيف الزوج تجاه زوجته، وتطفيف الزوجة تجاه زوجها؛ فيطالب كلٌّ منهما الآخر بكامل حقوقه، ويتناسى هو أو هي بعض واجباته ومسؤولياته؛ وربنا جل وعلا قال: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء: 32].

 

معاشر المؤمنين:

المانع من التطفيف والحاجز للمرء أن يقع فيه، والرادع له أن يكون من المطففين هو تذكُّر الوقوف بين يدي الله تعالى يوم القيامة، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون؛ لذا فقد جاء بعد الوعيد عن ذلك السلوك المشين قوله تعالى: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 4 - 6].

 

عندها لن ينفع المرء ما طفف به من حقوق، وما أفسده من ذمة، وما أخل به من أمانة، بل سيكون ذلك عليه حسرة وندامة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «من كانت له مظلمة لأخيه من عِرضه أو شيء، فليتحلَّلْهُ منه اليوم، قبل ألَّا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات، أُخذ من سيئات صاحبه فحُمل عليه»؛ (صحيح البخاري).

 

فلنتقِ الله عباد الله، ولنحذر من التطفيف وبخس الحقوق والظلم، ولنكن من أهل العدل والقسط؛ فإن الله تعالى يحب المقسطين.

___________________________________________________
الكاتب: يحيى سليمان العقيلي