القراءة في فجر الجمعة
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْرَأُ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: (الم (1) تَنْزِيلُ) السَّجْدَةَ وَ: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ).
- التصنيفات: - آفاق الشريعة -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: (الم (1) تَنْزِيلُ) السَّجْدَةَ وَ: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ).
فيه مسائل:
1- سورة السجدة (30) آية، وسورة الإنسان (31) آية، وعامة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ما بين السِّتِّين إلى المائة.
ففي حديث أَبِي بَرْزَةَ رضي الله عنه قال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الصُّبْحَ وَأَحَدُنَا يَعْرِفُ جَلِيسَهُ، وَيَقْرَأُ فِيهَا مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ. (رواه البخاري ومسلم) .
فَعَلى هذا تكون قراءته صلى الله عليه وسلم في ليلة الجمعة من أقصر ما يقرأ، بينما إذا قرأ بها الأئمة في زماننا هذا رأى بعض الناس أنه قد أطال!
2- سبب قراءة مثل هذه السُّوَر في ليلة الجمعة، ومثلها قراءة سبِّح والغاشية، أو الجمعة و" المنافقون " في صلاة الجمعة - الإِشَارَة إِلَى مَا فِيهِمَا مِنْ ذِكْر خَلْق آدَم وَأَحْوَال يَوْم الْقِيَامَة، لأَنَّ خَلْق آدَم كَانَ يوم الجمعة، ولأن يَوْم الْقِيَامَة سَيَقَعُ يَوْم الْجُمُعَة، أي: أن بداية يوم القيامة والنفخ في الصور يكون يوم جُمعة.
قال ابن القيم: وَسَمِعْت شَيْخَ الإِسْلامِ ابْنَ تَيْمِيّة َ يَقُولُ: إنّمَا كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقْرَأُ هَاتَيْنِ السّورَتَيْنِ فِي فَجْرِ الْجُمُعَةِ لأَنّهُمَا تَضَمّنَتَا مَا كَانَ وَيَكُونُ فِي يَوْمِهَا، فَإِنّهُمَا اشْتَمَلَتَا عَلَى خَلْقِ آدَمَ، وَعَلَى ذِكْرِ الْمَعَادِ، وَحَشْرِ الْعِبَادِ، وَذَلِكَ يَكُونُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَكَانَ فِي قِرَاءَتِهِمَا فِي هَذَا الْيَوْمِ تَذْكِيرٌ لِلأُمّةِ بِمَا كَانَ فِيهِ وَيَكُونُ، وَالسّجْدَةُ جَاءَتْ تَبَعًا لَيْسَتْ مَقْصُودَةً حَتّى يَقْصِدَ الْمُصَلّي قِرَاءَتَهَا حَيْثُ اتّفَقَتْ. اهـ.
3- لا عِبرة بكراهة من كَرِه قراءة سورة السجدة ليلة الجمعة، وذلك لأنهم عللوا ذلك بخشية التخليط على الْمُصَلِّين، وهذا مُنتَفٍ في الصلاة الجهرية، ولذلك فرّق العلماء بين قراءة آية فيها سجدة في الصلاة الجهرية وفي الصلاة السرية، فقالوا: قراءة السجدة في السرية والسجود حينئذ لا يُؤمَن معه التخليط.
ثم إن السنة قاضية على هذه الكراهة ؛ لأن قراءة سورة السجدة فجر الجمعة جاءت به السنة الصحيحة.
4- يُشرع للإمام أن لا يُداوم على قراءة هاتين السورتين لئلا يظُنّ الجاهل أنه لا يُجزئ غيرهما.
قال ابن القيم: كَرِهَ مَنْ كَرِهَ مِنْ الأَئِمّةِ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى قِرَاءَةِ هَذِهِ السّورَةِ فِي فَجْرِ الْجُمُعَةِ دَفْعًا لِتَوَهّمِ الْجَاهِلِينَ. اهـ.
5- اخْتُلِف في قراءة سورة فيها سجدة في فجر يوم الجمعة إن لم يقرأ سورة السجدة.
قال ابن حجر: قِيلَ الْحِكْمَة فِي اِخْتِصَاص يَوْم الْجُمُعَة بِقِرَاءَةِ سُورَة السَّجْدَة قَصْد السُّجُود الزَّائِد حَتَّى أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ هَذِهِ السُّورَة بِعَيْنِهَا أَنْ يَقْرَأ سُورَة غَيْرهَا فِيهَا سَجْدَة، وَقَدْ عَابَ ذَلِكَ عَلَى فَاعِله غَيْرُ وَاحِد مِنْ الْعُلَمَاء، وَنَسَبَهُمْ صَاحِب الْهَدْي إِلَى قِلَّة الْعِلْم وَنَقْص الْمَعْرِفَة، لَكِنْ عِنْد اِبْن أَبِي شَيْبَة بِإِسْنَادٍ قَوِيّ عَنْ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُسْتَحَبّ أَنْ يَقْرَأ فِي الصُّبْح يَوْم الْجُمُعَة بِسُورَةٍ فِيهَا سَجْدَة. وَعِنْده مِنْ طَرِيقه أَيْضًا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَرَأَ سُورَة مَرْيَم. وَمِنْ طَرِيق اِبْن عَوْن قَالَ: كَانُوا يَقْرَءُونَ فِي الصُّبْح يَوْم الْجُمُعَة بِسُورَةٍ فِيهَا سَجْدَة. وَعِنْده مِنْ طَرِيقه أَيْضًا قَالَ: وَسَأَلْت مُحَمَّدًا - يَعْنِي اِبْن سِيرِينَ - عَنْهُ فَقَالَ لا أَعْلَم بِهِ بَأْسًا. اهـ.
فَهَذَا قَدْ ثَبَتَ عَنْ بَعْض عُلَمَاء الْكُوفَة وَالْبَصْرَة فَلا يَنْبَغِي الْقَطْع بِتَزْيِيفِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيّ فِي زِيَادَات الرَّوْضَة هَذِهِ الْمَسْأَلَة وَقَالَ: لَمْ أَرَ فِيهَا كَلامًا لأَصْحَابِنَا، ثُمَّ قَالَ: وَقِيَاس مَذْهَبنَا أَنَّهُ يُكْرَه فِي الصَّلاة إِذَا قَصَدَهُ. اهـ. وَقَدْ أَفْتَى اِبْن عَبْد السَّلام قَبْله بِالْمَنْعِ وَبِبُطْلانِ الصَّلاة بِقَصْدِ ذَلِكَ، قَالَ صَاحِب الْمُهِمَّات: مُقْتَضَى كَلام الْقَاضِي حُسَيْن الْجَوَاز. وَقَالَ الْفَارِقِيّ فِي فَوَائِد الْمُهَذَّب: لا تُسْتَحَبّ قِرَاءَة سَجْدَة غَيْر تَنْزِيل، فَإِنْ ضَاقَ الْوَقْت عَنْ قِرَاءَتهَا قَرَأَ بِمَا أَمْكَنَ مِنْهَا وَلَوْ بِآيَةِ السَّجْدَة مِنْهَا، وَوَافَقَهُ اِبْن أَبِي عَصْرُون فِي كِتَاب الانْتِصَار وَفِيهِ نَظَرٌ. اهـ.
ولو كان المقصود بِقِرَاءَةِ سُورَة السَّجْدَة قَصْد السُّجُود الزَّائِد، لَكان النبي صلى الله عليه وسلم قرأ غير هذه السورة، أو لَكان نوّع بين السور التي فيها سجود، ولَكان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون مثل ذلك ؛ فَعُلِم بذلك أن السجود غير مقصود.
ولذلك قال ابن القيم: ويظن كثير ممن لا عِلْم عنده أن المراد تخصيص هذه الصلاة بسجدة زائدة، ويسمونها سجدة الجمعة! وإذا لم يقرأ أحدهم هذه السورة اسْتَحَبّ قراءة سورة أخرى فيها سجدة. اهـ.
6- كَرِه بعض أهل العلم أن يقرأ سورة السجدة في الركعتين، وتمام الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم قراءتها كاملة في الركعة الأولى، وقراءة سورة " الإنسان " في الركعة الثانية.
7- ويُستحبّ أن يَقرأ الإمام بهاتين السورتين ولا يُداوم على تركهما، وسمعت شيخنا الشيخ ابن عثيمين رحمه الله يقول: هاتان السورتان طويلتان، ربما لا يتيسر لكل إمام أن يحفظهما عن ظهر قلب، فلا بأس أن يقرأ بالمصحف.
وقال أيضا: القراءة من المصحف عند خوف النسيان لا بأس به، فيجوز للإنسان أن يقرأ في المصحف عند خوف نسيان آيةٍ أو غلطٍ فيها، ولا حرج عليه.
والله أعلم.