الحج المبرور يكفر الخطايا ويهدم ما كان قبله من الذنوب

قال رسول الله ﷺ: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة»

  • التصنيفات: فقه الحج والعمرة -

فقد أخرج الإمام مسلم من حديث ابن شماسة قال: حضرنا عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو في سياقة الموت، فبكى طويلًا وقال: في حديثه..... فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله ابسط يمينك لأبايعك، فبسط يده، فقبضت يدي، فقال: «مالك يا عمرو» ؟، قلت: أردت أن أشترط قال: «تشترط ماذا» ؟ قلت: «أن يُغفر لي»، قال: «أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدمُ ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله» ؟.

 

• وأخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحج والعمرة[1]، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة»؛ (صحيح الترغيب والترهيب: 1105) (صحيح الجامع: 2901).

 

• وعند ابن ماجه من حديث عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإن المتابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد»؛ (صححه الألباني في صحيح ابن ماجه).

 

• وفي رواية عند الطبراني في الأوسط من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدِيموا الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد»؛ (الصحيحة: 1085) (صحيح الجامع: 253).

 

وخصَّ الحديد بالذكر؛ لأنه من أشد المعادن صلابة وأكثرها خبثًا، إشارة إلى أن الفقر وإن اشتد، والذنوب وإن عظُمت، يزيلها المداومة على الحج والعمرة؛ قال المناوي في فيض القدير: 1/ 234: واظبوا وتابعوا ندبًا، وأتوا بهما على الدوام، لوجه الله، فإنهما ينفيان الفقر، وكل منهما على حدته ينفي الفقر، وقد جاء في الخبر ما أمعر حاج قط؛ أي: ما افتقر ولا احتاج، ثم شبَّه ذلك تشبيه معقول محسوس، كما ينفي الكير وسَخ الحديد الذي تخرجه النار، فإنه في كل مرة يخرج منه خبث، فلا ينفي خبثه إلا بتتابُع دخوله وتكراره، والفقر وإن اشتد، والذنوب وإن خبثت وعظُمت، يزيلها المداومة على النُّسكين؛ اهــ بتصرف واختصار.

 

• وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «.... فإن لك من الأجر إذا أممْتَ البيت العتيق أن لا ترفع قدمًا، أو تضعها أنت ودابتُك، إلا كتبت لك حسنةٌ، ورفعت لك درجةٌ، وأما وقوفك بعرفة، فإن الله عز وجل يقول لملائكته: يا ملائكتي ما جاء بعبادي؟ قالوا: جاؤوا يلتمسون رضوانك والجنة، فيقول الله عز وجل: فإني أشهد نفسي وخلقي إني قد غفرت لهم، ولو كانت ذنوبهم عدد أيام الدهر، وعدد رمل عَالجٍ، وأما رميك الجمار، قال الله عز وجل» : {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]، «وأما حلقك رأسك، فإنه ليس من شعرك شعرة تقع على الأرض إلا كانت لك نورًا يوم القيامة، وأما طوافك بالبيت إذا ودعت، فإنك تخرج من ذنوبك كيوم ولدتك أمك»؛ (صحيح الترغيب والترهيب: 1113).

 

• وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من حج فلم يرفث [2]، ولم يفسق [3]، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه»، وفي رواية: «رجع كيوم ولدته أمُّه».

 

• وعند مسلم بلفظ: «من أتى البيت فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كما ولدته أمُّه».

• قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح: 3/ 382: وهذا اللفظ يشمل الحج والعمرة.

• وقال أيضًا: وظاهر الحديث غفران الصغائر والكبائر والتبعات؛ اهــ.

 

وهذا الحديث السابق من أقوى الشواهد لحديث العباس بن مرداس رضي الله عنه الذي رواه ابن ماجه، فقد أخرج ابن ماجه والإمام أحمد من حديث العباس بن مرداس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأُمته عشيةَ عرفة بالمغفرة، فأجيب: إني قد غفرت لهم ما خلا الظالم، فإني آخذُ للمظلوم منه، قال: أي رب شئت أعطيت المظلوم من الجنة، وغفرت للظالم، فلم يجب عشية، فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء، فأُجيب إلى ما سأل، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، (أو قال تبسَّم)، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي، إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها، فما الذي أضحك؟ أضحك الله سنَّك[4]، قال: «إن عدو الله إبليس لما علم أن الله قد استجاب دعائي وغفر لأمتي، أخذ التراب فجعل يحثوه على رأسه ويدعو بالويل والثبور، فأضحكني ما رأيت من جزعه» [5].

 

وهذا الحديث وإن كان قد ضعَّفه الشيخ الألباني رحمه الله في ضعيف سنن ابن ماجه، فإن البيهقي والحافظ ابن حجر قد حسَّنا هذا الحديث بالنظر إلى مجموع الطرق، أضف إلى هذا أن له شواهد تشهد لمعناه ومنها:

• ما رواه ابن المبارك بإسناد جيد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، وقد كادت الشمس تؤوب[6]، فقال: «يا بلال أنصت إليَّ الناسَ»، فقام بلال، فقال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنصت الناس، فقال: معشر الناس، أتاني جبريل آنفًا، فأقرأني من ربي السلام، وقال: إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات، وأهل المشعر (الحرام)، وضمن عنهم التِّبعات[7]، فقام عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، هذا لنا خاصة؟ قال: «هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة»، فقال عمر بن الخطاب: كثُر خيرُ الله وطاب؛ (صحيح الترغيب والترهيب: 1151).

 

• وأخرجه أبو يعلى بإسناده، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تطول على أهل عرفات يباهي بهم الملائكة، يقول: يا ملائكتي، انظروا إلى عبادي شُعْثًا غُبْرًا، أقبلوا يضربون إليَّ من كل فجٍّ عميق، فأُشهدُكم أني قد أجبتُ دعاءهم وشفعتُ رغيبهم، ووهبتُ مسيئهم لمحسنهم، وأعطيتُ لمحسنهم جميع ما سألوني غير التبعات التي بينهم، فإذا أفاض القوم إلى جمع، ووقفوا وعادوا في الرغبة والطلب، فيقول الله تعالى لملائكته: يا ملائكتي، عبادي وقفوا فعادوا في الرغبة والطلب، فأُشهدكم أني قد أجبتُ دعاءهم وشفعتُ رغيبهم، ووهبتُ مسيئهم لمحسنهم، وأعطيتُ محسنهم جميع ما سألوني، وكفلتُ عنهم التبعات التي بينهم».

 

• وقد مرَّ بنا الحديث الذي رواه ابنُ ماجه عن بلال بن رباح رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له غداة جَمع: «يا بلال، أسكِت الناس»، أو «أنصِت الناس»، ثم قال: «إن الله تطاول عليكم [8] في جمعكم هذا، فوهب مسيئكم لمحسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، ادفعوا بسم الله»؛ (الصحيحة: 1624) (صحيح الجامع: 1730).

 

وبهذه الأحاديث أخذ بعض أهل العلم، فقالوا: إن الحاج يغفر له جميع الذنوب.

 

• واستنبط بعضهم ذلك من مباهاة الملائكة بالحجاج؛ لأن الملائكة مطهرون مطلقًا، ولا يباهى المطهر المطلق إلا بمطهر مطلق، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وظلمُ بعضهم بعضًا دون الشرك؛ قال المناوي رحمه الله كما في فيض القدير: 6/ 115: وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حجَّ لله فلم يرفُث ولم يفسُق، رجع كيوم ولدته أمُّه»؛ أي خلوه من الذنوب، وهو يشمل الكبائر والتبعات، وإليه ذهب القرطبي وعياض، لكن قال الطبري: وهو محمولٌ بالنسبة إلى المظالم على من تاب وعجز عن وفائها.

 

وقال الترمذي - رحمه الله -: هو مخصوص بالمعاصي المتعلقة بحق الله لا بحقوق العباد، ولا يسقط الحق نفسه، بل من عليه صلاة يسقط عنه، أثم تأخيرها لا نفسها؛ اهــ.

 

وخلاصة الأمر: وخروجًا من هذا الخلاف بين أهل العلم في كونه يُغفر له لذنوب والتبعات أم لا؟ فينبغي على من أراد الحج قضاء الدَّين، ورد المظالم، والتوبة من جميع الذنوب من جميع الذنوب قبل التوجه إلى بيت الله الحرام، حتى يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه.

 


[1] تابعوا بين الحج والعمرة: قال المناوي رحمه الله في فيض القدير: 3/ 225 : أي إذا حججتم فاعتمروا، وإذا اعتمرتم فحجوا.

[2] الرفث: يطلق ويراد به الجماع، ويطلق ويراد به الفحش من القول، ويطلق ويراد به خطاب الرجل للمرأة فيما يتعلق بالجماع، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يخصه بما خوطب به النساء.

وقال الأزهري -رحمه الله-: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة. (النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير: 2/ 241) وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (فلا رفث): أي من أحرم بالحج أو العمرة فليجتنب الرفث، وهو الجماع، كما قال تعالى: (أحـل لــكم ليلة الــصيام الرفث إلى نسائكم) (البقرة: 187) وكذلك يحرم تعاطى دواعيه: من المباشرة، والتقبيل، ونحو ذلك، وكذلك التكلم به بحضرة النساء (تفسير القرآن العظيم، 2/ 242).

[3] ولم يفسق: أصل الفسوق الخروج عن الاستقامة، والجور، وبه سمى العاصي فاسقًا. (النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، 3/ 446) ولا شك أن الفسوق: هو جميع المعاصي كما قال الله تعالى: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق) (البقرة: 197) فيدخل في الفسوق جميع المعاصي كما صوبه الإمام ابن كثير في تفسيره، 2/ 244، ومن ذلك الوقوع في محظورات الإحرام، والسباب، والشتم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) أخرجه البخاري ومسلم) وغير ذلك من أنواع المعاصي.

[4] قال الحافظ في الفتح: 7/ 47 : معنى أضحك الله سنك: لم يرد به الدعاء بكثرة الضحك، بل لازمه وهو السرور، أو نفي ضد لازمه وهو الحزن.

[5] هذا هو حال الشيطان في هذا اليوم، فقد أخرج مالك في الموطأ عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما رؤى الشيطان يومًا هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذلك إلا لما رأي ما تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب.

[6] تؤوب: أي تغرب، والأوب هو الرجوع، لأنها ترجع بالغروب إلى الموضع الذي طلعت منه النهاية في غريب الحديث لابن الأثير

[7] التبعات: مفرد تبعه، والتبعة: ما يتبع المال من نوائب الحقوق، وهو من تبعت الرجل بحقي (النهاية في غريب الحديث لابن الأثير).

[8] تطوّل عليكم: من طاول: مفاعلة من الطَّوْل بالفتح، وهو الفضل والعلو النهاية في غريب الحديث لابن الأثير والمعنى أن تفضل عليكم من واسع كرمه.

__________________________________________________________
الكاتب: الشيخ ندا أبو أحمد