مشاهد من عبودية الطعام وتسبيحه
حقيقٌ ببني آدم أن يكونوا في طليعة هذه الكائنات التي خضعت لعبودية الله، فالإنسان من أفقر المخلوقات لبارئها، وهو مع ذلك من أكثرها تمردًا وعصيانًا وجحودًا وإنكارًا لربه ولنعمه
الطعام يقدِّس الله تعالى ويسبحه، فقد ثبت عند البخاري منْ حديث عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الآيَاتِ بَرَكَةً وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَقَلَّ الْمَاءُ فَقَالَ: «اطْلُبُوا فَضْلَةً مِنْ مَاءٍ». فَجَاءُوا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ، ثُمَّ قَالَ: «حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ المُبَارَكِ، وَالبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ» فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهْوَ يُؤْكَلُ"[1].
وبعد هذا البيان يتضح للمتأمل عبودية المخلوقات كلها لربها جل في علاه، العوالم كلها علويها وسفليها، الجن والإنس والملائكة، والسماوات العلا وما فيها وما حوته من كواكب وأجرام وشمسٍ وقمر ونجوم وأفلاك، وغيرها مما لا يعلمه إلا الله، والأرض وما فيها من جبالٍ وأنهارٍ وبحارٍ وقفارٍ وجنات ونبات، وحيوانٍ ووحشٍ وطيرٍ ودوابَّ وهوامَّ وجمادات، والعرش والكرسي، والجنة والنار، واللوح والقلم، وغيرها من مخلوقات الله، ما علمنا منها وما لم نعلم، الكل أقرَّ بعبوديته لله وسبَّح بحمده، وأقر بربوبيته وألوهيته، فوحَّده وقدَّسه، وخضع لكبريائه وعظمته، وسجد له وخشع وعبده سبحانه خوفًا وطمعًا رغبًا ورهبًا.
تنبيه لبني آدم:
وحقيقٌ ببني آدم أن يكونوا في طليعة هذه الكائنات التي خضعت لعبودية الله، فالإنسان من أفقر المخلوقات لبارئها، وهو مع ذلك من أكثرها تمردًا وعصيانًا وجحودًا وإنكارًا لربه ولنعمه، كم قال تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6]؛ أَيْ طُبِعَ الْإِنْسَانُ عَلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَكَنُودٌ: لَكَفُورٌ جَحُودٍ لِنِعَمِ اللَّهِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ: يَذْكُرُ الْمَصَائِبَ وَيَنْسَى النِّعَمَ[2]، فـ" مَنْ أَرَادَ السَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ، فَلْيَلْزَمْ عَتَبَةَ الْعُبُودِيَّةِ، فَأَسْعَدُ الْخَلْقِ أَعْظَمُهُمْ عُبُودِيَّةً لِلَّهِ"[3].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] أخرجه البخاري في كتاب المناقب، رقم: (3579).
[2] تفسير القرطبي: (20/ 143).
[3] مجموع الفتاوى (1/ 39).
__________________________________________________
الكاتب: الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
- التصنيف: