لبيك اللهم لبيك
سعيد عبد العظيم
لبيك اللهم لبيك
18 ذو القعدة 1429هـ / 16 نوفمبر 2008م
كتبه/ سعيد عبد العظيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فقد أُمِر نبيّ اللهِ إبراهيمُ بعد أن فرغ هو وإسماعيل من بناء الكعبة، ورفع القواعد من البيت أن يؤذن في الناس بالحج، قال الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 27، 28].
وامتثل نبي الله إبراهيم لأمر ربه ونادى: "إن الله قد أمركم بالحج فحجوا"، فتجاوب الكون والأصداء مع هذا النداء العلوي، وأتى الناس من كل فج عميق وأوْبٍ سحيق، يُعظّمون شعائر الله {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
مناسكُ وأماكنُ جعل سبحانه تعظيمها تعظيمه، والتفريط في حقها تفريطاً في حقه، جاء الصيني والهندي والإندونيسي والعربي يودّون لو بذلوا المُهَج وساروا على رؤوسهم بلوغًا لبيت الله الحرام، يملؤهم الشوق والحنين تجاه هذه البقاع المباركة مصداق دعوة إبراهيم {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
حنين لا يمكن أن ينقطع من نفوس المؤمنين، دعاهم فلبوا النداء، لسان حالهم قبل مقالهم ينطق: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".
لقد بورك في الصوت الضعيف، وربُك على كل شيء قدير، ومِن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم، {{C}{C}إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ{C}{C}} [الشورى: ٤٨]، قال تعالى: {{C}لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84].
فإذا حدث الامتثال وتمت الطاعات، وتعلقت القلوب بخالق الأرض والسموات، فحدِّث عن الخيرات والبركات ولا حرج.
وإلا من كان يتخيل هذه الاستجابة لهذا النداء ممن اختلفت ألسنتهم وألوانهم وأوطانهم، وقد توحدوا في تلبيتهم يتوجهون في صلاتهم إلى بيت الله العتيق، يرتدون إزارًا ورداءً، يرجون تجارة لن تبور، ينتقلون إلى منى ثم إلى عرفات، ويمرون بمزدلفة، فلا يقفون بها، وفي عرفات يصلون الظهر والعصر جمعًا وقصرًا، ثم يدفعون بعد غروب الشمس إلى مزدلفة حيث يصلون بها المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا، ويبيتون بمزدلفة، ولا يحيون ليلة النحر، ثم يقفون بالمشعر الحرام بعد صلاة الفجر حتى تسفر الشمس ثم يدفعون إلى منى لرمي جمرة العقبة؟!
وكان الحمس - وهم المتشددون في دينهم - يأنفون من الوقوف بعرفات مع بقية الناس، ويقفون بمزدلفة؛ وذلك لأن عرفات من الحل، والمزدلفة من الحرم، فأمرهم سبحانه أن يقفوا حيثما وقف الناس، قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} [البقرة: 199].
حركة واحدة واندفاعة إيمانية هائلة، من شأنها أن تغيِّر الحياة والأحياء لتقيم أمر الله في دنيا الناس، وتكون الاستجابة من بعد الاستجابة، والطاعة من بعد الطاعة على مستوى الحاكم والمحكوم، والكبير والصغير، والرجل والمرأة، والعربي والعجمي، والحياة لا تصلح إلاّ بأن تكون هكذا {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} [الشورى: 52].
شأن المؤمن المطيع المستجيب كشأن الحي، وشأن الكافر الْمُعرض كشأن الميت {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122].
هذه الطاعة وهذه الاستجابة التي تحكيها التلبية مطلوبة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، مطلوبة في الظاهر والباطن، والسر والعلانية، مطلوبة في الحج والصلاة والصيام، وفي السياسة والاجتماع والأخلاق، في المسجد والسوق، في الحرب والسلم، ومطلوبة أيضًا على مستوى الفرد والدولة {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59].
لقد لبى السعداء الموفقون النداء، وأعرض التعساء المخذولون عنه، فبينما لبى الموحدون: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك" كان المشركون يلبون: "إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك"، وهذا على عادتهم في الكفر وعبادتهم الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع.
وما كانوا يسوون آلهتهم بالله من كل وجه، فقد كانوا إذا {رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: ٦٥]، كانوا يقذفون بالأصنام إلى البحر، ويقولون: "يا رب"، ولسفاهة عقولهم وضلالة أفئدتهم كانوا يعودون لعبادتها مرة ثانية!
وكانوا قد مَلَئوا الكعبة بالأصنام، وكانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون: "لا نطوف بثياب عصينا الله فيها".
لقد انتكست العقول وارتكست الفطر عند أهل الجاهلية الأولى، فكان التغيير والتبديل لمعاني التوحيد والتشريع في الحج وغيره.
والجاهلية ليست حقبة تاريخية حدثت وانتهت، بل هي تصورات ومعتقدات وظنون، وحمية، وتبرج، وحكم بغير ما أنزل الله، وكثير من الأوضاع ما زالت تتشبَّه بالجاهلية الأولى؛ فهذه الفلسفات والدساتير والنظم التي تخالف دين الله، وتشريع العباد للعباد، والذبح لغير الله، والتماس المدد من المخلوقين، والاستغاثة بالمقبورين، ودعاء الأولياء والصالحين.. كلها صور تخالف معاني التلبية والاستجابة والطاعة لله رب العالمين، بل ما زال الناس يعبدون الأصنام في أدغال أفريقيا، ويجثون على الركب للعذراء في أوروبا، ويطوفون حول قبر لينين في روسيا {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7].
إن التلبية بمثابة منهج حياة، ودلالة على معنى الوحدة والتوحيد، والملبِّي له أوفر الحظ والنصيب مما كان عليه الأنبياء والمرسلون {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، فحياة نبي الله إبراهيم عليه السلام ووصله وهجره، وحله وترحاله، ونقضه وإبرامه، كانت ترجمة حقيقية لهذه التلبية، فمناظرته لأبيه وقومه والنمروذ، وتركه لهاجر وولده الوحيد إسماعيل ببلد الله الحرام كانت استجابة لأمر الله، فلما أراد أن ينصرف إلى فلسطين تعلّقت به هاجر، وقالت له: "آلله أمرك بهذا"؟ قال لها: "نعم"، قالت: "فإنه لن يضيعنا"، والله لا يضيع أهله، وبعد أن غاب عنهم توجه إلى ربه وقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
ثم رفع القواعد من البيت هو وإسماعيل نزولاً على أمره سبحانه وتعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 127، 128].
ووقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات وقال: «قِفُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ» [رواه أبو داود، والنسائي، وصححه الألباني].
ولبّى صلوات الله وسلامه عليه: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك»، ولبى الصحابة معه، وسُمِع البعضُ يقول: "لبيك بحجة حقًا، لبيك تعبدًا ورقًا"، ولبى البعض: "لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والرغباء إليك والعمل".
وحكى صلى الله عليه وسلم لأمته حال الأنبياء في تلبيتهم، فقال: «{C}{C}كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ{C}{C}» [رواه مسلم]، وقال: «{C}وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا» [رواه مسلم].
وحياتهم جميعًا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وجهادهم ومواصلتهم الليل بالنهار كانت إقامة لمعاني التلبية وتعبيد الدنيا بدين الله، ونشرًا للشرائع والشعائر في الأرض {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت} [النحل: 36].
ولذلك يجب أن تكون حياتنا الخاصة والعامة استجابة من بعد استجابة، وطاعة من بعد طاعة، وكيف لا نعبد خالق الخلق، ومالك الملك؟ القلوب له مفضية، والسر عنده علانية، والغيب لديه مكشوف، وكل أحد إليه ملهوف، عنت الوجوه لنور وجهه، ودلَّت الفطرُ على امتناعِ مثله وشبهه، له الحمد بالإسلام، وله الحمد بالإيمان، وله الحمد بالقرآن، أظَهَرَ أمننا، وبَسَطَ رزقنا، وأحسن معافاتنا، له الحمد بالمال والأهل والولد {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].
وإذا أردت أن تعرف مقامك فانظر: أين أقامك؟ جعلك مسلمًا، وأقامك في طاعته، ويسّر لك الحج وبلوغ بيته الحرام بمنّه وكرمه "إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".
وهل النعم بيد أحد سواه؟ وهو جلّ في علاه مالك الملك، وملك الملوك، الكبرياء رداؤه، والعظمة إزاره، فمن نازعه واحدًا منهما قصَمَه ولم يبالِ، ولذلك كان أخنع الأسماء رجل تسمى بملك الملوك أو شاهنشاه، ولا ملك على الحقيقة إلا الله، ومن أنكر ذلك عَلِمَه وتَيَقنَه في يوم يُقال فيه: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16].
وإذا كانت النعم منه وحده، والملك بيده وحده، فكيف يخلق هو ويُعبَد سواه؟ ويرزق هو ويُشكَر غيره؟ لا شريك له في ربوبيته وألوهيته {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54]، التلبية التي يلبي بها الحجيج، حَرِيةٌ أن تـُبَحَّ بها الأصواتُ، وأن يُؤمَر بها العباد في كل زمان ومكان.
كلمة انعطفت لها الجمادات، فما من ملبي يلبي إلاّ لبى ما عن يمينه وما عن شماله من شجر وحجر ومدر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا، نستشعر بها التناسب والإنسجام مع الكون من حولنا، وتزول النفرة بين ظواهرنا وبواطننا، ونسعد في دنيانا وأخرانا عندما تكون حياتنا طاعة من بعد طاعة لخالق الخلق ومالك الملك لا شريك له.
وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.
موقع صوت السلف
www.salafvoice.com
18 ذو القعدة 1429هـ / 16 نوفمبر 2008م
كتبه/ سعيد عبد العظيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فقد أُمِر نبيّ اللهِ إبراهيمُ بعد أن فرغ هو وإسماعيل من بناء الكعبة، ورفع القواعد من البيت أن يؤذن في الناس بالحج، قال الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 27، 28].
وامتثل نبي الله إبراهيم لأمر ربه ونادى: "إن الله قد أمركم بالحج فحجوا"، فتجاوب الكون والأصداء مع هذا النداء العلوي، وأتى الناس من كل فج عميق وأوْبٍ سحيق، يُعظّمون شعائر الله {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
مناسكُ وأماكنُ جعل سبحانه تعظيمها تعظيمه، والتفريط في حقها تفريطاً في حقه، جاء الصيني والهندي والإندونيسي والعربي يودّون لو بذلوا المُهَج وساروا على رؤوسهم بلوغًا لبيت الله الحرام، يملؤهم الشوق والحنين تجاه هذه البقاع المباركة مصداق دعوة إبراهيم {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
حنين لا يمكن أن ينقطع من نفوس المؤمنين، دعاهم فلبوا النداء، لسان حالهم قبل مقالهم ينطق: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".
لقد بورك في الصوت الضعيف، وربُك على كل شيء قدير، ومِن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم، {{C}{C}إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ{C}{C}} [الشورى: ٤٨]، قال تعالى: {{C}لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84].
فإذا حدث الامتثال وتمت الطاعات، وتعلقت القلوب بخالق الأرض والسموات، فحدِّث عن الخيرات والبركات ولا حرج.
وإلا من كان يتخيل هذه الاستجابة لهذا النداء ممن اختلفت ألسنتهم وألوانهم وأوطانهم، وقد توحدوا في تلبيتهم يتوجهون في صلاتهم إلى بيت الله العتيق، يرتدون إزارًا ورداءً، يرجون تجارة لن تبور، ينتقلون إلى منى ثم إلى عرفات، ويمرون بمزدلفة، فلا يقفون بها، وفي عرفات يصلون الظهر والعصر جمعًا وقصرًا، ثم يدفعون بعد غروب الشمس إلى مزدلفة حيث يصلون بها المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا، ويبيتون بمزدلفة، ولا يحيون ليلة النحر، ثم يقفون بالمشعر الحرام بعد صلاة الفجر حتى تسفر الشمس ثم يدفعون إلى منى لرمي جمرة العقبة؟!
وكان الحمس - وهم المتشددون في دينهم - يأنفون من الوقوف بعرفات مع بقية الناس، ويقفون بمزدلفة؛ وذلك لأن عرفات من الحل، والمزدلفة من الحرم، فأمرهم سبحانه أن يقفوا حيثما وقف الناس، قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} [البقرة: 199].
حركة واحدة واندفاعة إيمانية هائلة، من شأنها أن تغيِّر الحياة والأحياء لتقيم أمر الله في دنيا الناس، وتكون الاستجابة من بعد الاستجابة، والطاعة من بعد الطاعة على مستوى الحاكم والمحكوم، والكبير والصغير، والرجل والمرأة، والعربي والعجمي، والحياة لا تصلح إلاّ بأن تكون هكذا {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} [الشورى: 52].
شأن المؤمن المطيع المستجيب كشأن الحي، وشأن الكافر الْمُعرض كشأن الميت {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122].
هذه الطاعة وهذه الاستجابة التي تحكيها التلبية مطلوبة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، مطلوبة في الظاهر والباطن، والسر والعلانية، مطلوبة في الحج والصلاة والصيام، وفي السياسة والاجتماع والأخلاق، في المسجد والسوق، في الحرب والسلم، ومطلوبة أيضًا على مستوى الفرد والدولة {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59].
لقد لبى السعداء الموفقون النداء، وأعرض التعساء المخذولون عنه، فبينما لبى الموحدون: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك" كان المشركون يلبون: "إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك"، وهذا على عادتهم في الكفر وعبادتهم الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع.
وما كانوا يسوون آلهتهم بالله من كل وجه، فقد كانوا إذا {رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: ٦٥]، كانوا يقذفون بالأصنام إلى البحر، ويقولون: "يا رب"، ولسفاهة عقولهم وضلالة أفئدتهم كانوا يعودون لعبادتها مرة ثانية!
وكانوا قد مَلَئوا الكعبة بالأصنام، وكانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون: "لا نطوف بثياب عصينا الله فيها".
لقد انتكست العقول وارتكست الفطر عند أهل الجاهلية الأولى، فكان التغيير والتبديل لمعاني التوحيد والتشريع في الحج وغيره.
والجاهلية ليست حقبة تاريخية حدثت وانتهت، بل هي تصورات ومعتقدات وظنون، وحمية، وتبرج، وحكم بغير ما أنزل الله، وكثير من الأوضاع ما زالت تتشبَّه بالجاهلية الأولى؛ فهذه الفلسفات والدساتير والنظم التي تخالف دين الله، وتشريع العباد للعباد، والذبح لغير الله، والتماس المدد من المخلوقين، والاستغاثة بالمقبورين، ودعاء الأولياء والصالحين.. كلها صور تخالف معاني التلبية والاستجابة والطاعة لله رب العالمين، بل ما زال الناس يعبدون الأصنام في أدغال أفريقيا، ويجثون على الركب للعذراء في أوروبا، ويطوفون حول قبر لينين في روسيا {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7].
إن التلبية بمثابة منهج حياة، ودلالة على معنى الوحدة والتوحيد، والملبِّي له أوفر الحظ والنصيب مما كان عليه الأنبياء والمرسلون {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، فحياة نبي الله إبراهيم عليه السلام ووصله وهجره، وحله وترحاله، ونقضه وإبرامه، كانت ترجمة حقيقية لهذه التلبية، فمناظرته لأبيه وقومه والنمروذ، وتركه لهاجر وولده الوحيد إسماعيل ببلد الله الحرام كانت استجابة لأمر الله، فلما أراد أن ينصرف إلى فلسطين تعلّقت به هاجر، وقالت له: "آلله أمرك بهذا"؟ قال لها: "نعم"، قالت: "فإنه لن يضيعنا"، والله لا يضيع أهله، وبعد أن غاب عنهم توجه إلى ربه وقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
ثم رفع القواعد من البيت هو وإسماعيل نزولاً على أمره سبحانه وتعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 127، 128].
ووقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات وقال: «قِفُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ» [رواه أبو داود، والنسائي، وصححه الألباني].
ولبّى صلوات الله وسلامه عليه: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك»، ولبى الصحابة معه، وسُمِع البعضُ يقول: "لبيك بحجة حقًا، لبيك تعبدًا ورقًا"، ولبى البعض: "لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والرغباء إليك والعمل".
وحكى صلى الله عليه وسلم لأمته حال الأنبياء في تلبيتهم، فقال: «{C}{C}كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ{C}{C}» [رواه مسلم]، وقال: «{C}وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا» [رواه مسلم].
وحياتهم جميعًا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وجهادهم ومواصلتهم الليل بالنهار كانت إقامة لمعاني التلبية وتعبيد الدنيا بدين الله، ونشرًا للشرائع والشعائر في الأرض {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت} [النحل: 36].
ولذلك يجب أن تكون حياتنا الخاصة والعامة استجابة من بعد استجابة، وطاعة من بعد طاعة، وكيف لا نعبد خالق الخلق، ومالك الملك؟ القلوب له مفضية، والسر عنده علانية، والغيب لديه مكشوف، وكل أحد إليه ملهوف، عنت الوجوه لنور وجهه، ودلَّت الفطرُ على امتناعِ مثله وشبهه، له الحمد بالإسلام، وله الحمد بالإيمان، وله الحمد بالقرآن، أظَهَرَ أمننا، وبَسَطَ رزقنا، وأحسن معافاتنا، له الحمد بالمال والأهل والولد {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].
وإذا أردت أن تعرف مقامك فانظر: أين أقامك؟ جعلك مسلمًا، وأقامك في طاعته، ويسّر لك الحج وبلوغ بيته الحرام بمنّه وكرمه "إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".
وهل النعم بيد أحد سواه؟ وهو جلّ في علاه مالك الملك، وملك الملوك، الكبرياء رداؤه، والعظمة إزاره، فمن نازعه واحدًا منهما قصَمَه ولم يبالِ، ولذلك كان أخنع الأسماء رجل تسمى بملك الملوك أو شاهنشاه، ولا ملك على الحقيقة إلا الله، ومن أنكر ذلك عَلِمَه وتَيَقنَه في يوم يُقال فيه: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16].
وإذا كانت النعم منه وحده، والملك بيده وحده، فكيف يخلق هو ويُعبَد سواه؟ ويرزق هو ويُشكَر غيره؟ لا شريك له في ربوبيته وألوهيته {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54]، التلبية التي يلبي بها الحجيج، حَرِيةٌ أن تـُبَحَّ بها الأصواتُ، وأن يُؤمَر بها العباد في كل زمان ومكان.
كلمة انعطفت لها الجمادات، فما من ملبي يلبي إلاّ لبى ما عن يمينه وما عن شماله من شجر وحجر ومدر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا، نستشعر بها التناسب والإنسجام مع الكون من حولنا، وتزول النفرة بين ظواهرنا وبواطننا، ونسعد في دنيانا وأخرانا عندما تكون حياتنا طاعة من بعد طاعة لخالق الخلق ومالك الملك لا شريك له.
وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.
موقع صوت السلف
www.salafvoice.com