فَتحُ مَكَّة .. درس نبوي في التواضع والعفو

لقد ضرب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعفوه عن أهل مكة للدنيا كلها، وللأجيال المتعاقبة مثلا في البر والرحمة، وسمو نفس لم تعرفه البشرية بأسْرِها، وهذا من دلائل نبوته وعظيم أخلاقه، فإنه لا يستطيع أن يفعل هذا إلا نبي .

  • التصنيفات: السيرة النبوية -

 

قلما يجد المتأمل في تاريخ البشرية كلها ـ قديما وحديثا ـ نصرا وفتحًا يُضاهي فتح مكة في روعة قيمه وسمو أخلاقه، فهو يوم الفتح الأعظم، وهو يوم المرحمة، ويوم البر والعفو، ويوم العز والتواضع، يقول ابن القيم : " هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجا، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجا ".

على مدى ثلاثة عشر عامًا ظل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعو قومه إلى الإسلام، ولم يستجب له إلا القليل، وتحمَّل البلاء الشديد في سبيل دينه ودعوته، ودُبِّر له الكثير من المكائد، وفُعِل به وبأصحابه ما لا يتخيل من الإيذاء والاضطهاد، إلى أنْ أذن الله له وللمسلمين بالهجرة .. وفي المدينة أقام ـ صلى الله عليه وسلم ـ دولةً تقوم على الأخوة والبر، والعدل والرحمة، وكان بينه وبين قريش معارك شديدة، إلى أن كان صلح الحديبية في العام السادس من الهجرة، والذي كان من نصوصه قيام هدنة لعشر سنوات، وإعطاء الحق للقبائل في الدخول في حِلف أحد الطرفين، فدخلت قبيلة بكر في حلف قريش، ودخلت قبيلة خزاعة في حِلف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولكن قريشًا نقضت العهد والصلح وأغرت رجال (بكر) بـ(خزاعة)، وحرضتهم عليهم، واشتركوا معهم في قتل رجال من خزاعة غدرًا، فانطلق عمرو بن سالم الخزاعي إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنشد بين يديه شعرًا يشرح فيه غدر قريش وخيانتها ونقضها لعهد الحديبية .

وفي العاشر من رمضان من السنة الثامنة للهجرة، توجه الجيش الإسلامي الذي بلغ عشرة آلاف مقاتل إلى مكة، ودخلها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاتحا في تواضع عجيب، حيث كان يركب ناقته القصواء وقد أحنى رأسه على رَحله تواضعًا لله ـ عز وجل ـ .

تواضع لله :

مواقف النصر والفتوح تستبد بالقادة والفاتحين، وتستولي على نفوسهم، فيكون فيها فخرهم وعلوهم، ولا يقدر على التواضع فيها إلا أقل الرجال، وما حُفِظ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم - رغم كثرة فتوحاته وانتصاراته، أنه اغترَّ أو تكبر بنصر، بل ازداد تواضعا إلى تواضعه.

وفي هذا اليوم العظيم ـ يوم الفتح الأكبر ـ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وهو خافض رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل، ودخل وهو يقرأ سورة الفتح مستشعرًا نعمة الفتح وغفران الذنوب، وإفاضة النصر العزيز, فهذا الفتح المبين يذكره بماض طويل الفصول: كيف خرج مُطارَدًا؟ وكيف يعود اليوم منصورًا مؤيدًا؟، وأي كرامة عظمى حفه الله بها؟، وكلما استشعر هذه النعمة ازداد لله خشوعًا وانكسارا، وانحناء وتواضعا .

لقد حاز نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الأخلاق أعلاها وأكملها، والتواضع كان وصفا له ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، تخلَّق به امتثالا لأمر الله تعالى حين خاطبه بقوله سبحانه: { 
{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } } (الحجر: 88)، فكان أكثر الناس تواضعا، وألينهم جانبا، وسيرته وحياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ مليئة بالمواقف والعبر في هذا الخلق العظيم، وما حُفِظ عنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أنه اغتر بنصر أو قوة، أو أنه تكبر على أحد، أو فاخر بنفسه ومكانته، مع أنه انتصر في غزوات كثيرة، وحظي عند ربه بأعلى المقامات، فهو صاحب الحوض المورود، واللواء المعقود، والمقام المحمود، وأُسري به إلى السموات العلى حتى بلغ سدرة المنتهى، ومع علو منزلته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الدنيا والآخرة كان يقول: ( لا تُطروني -لا تجاوزوا الحد في مدحي- كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا : عبد الله ورسوله) رواه البخاري .

العفو الجميل :

لقد دخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة دخول نبي كريم، دخول من أرسله الله رحمة للعالمين، ولم يدخل دخول المنتصرين الجبارين الذين يبطشون وينتقمون من أعدائهم الذين أخرجوهم من ديارهم وأموالهم وآذوهم وقاتلوهم، بل قابل ذلك بالعفو الكريم، والصفح الجميل، ولو شاء أن يثأر وينتقم لفعل، ولكن هذا ليس من طبعه ولا من أخلاقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، الذي سبق أن جاءه ملَكُ الجبال فعرض عليه أن يطبق على من آذاه الجبلين، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ) رواه البخاري .
وها هو اليوم في قمة انتصاره وتمكينه، يقطف ثمار صبره وصبر أصحابه وجهادهم، فتحا مبينا، دون علو في الأرض ولا فساد، بل في تواضع لله، وعفو جميل عمن أساء إليه، فقال قولته الشهيرة لمن حاربه وآذاه هو وأصحابه: ( ما ترون أني فاعل بكم ؟، قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال: أقول كما قال أخي يوسف: { 
{قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } } (يوسف:92)، اذهبوا فأنتم الطلقاء ) رواه البيهقي .
وهو درس في أخلاقيات الفتح والنصر، فأقرب الدعاة إلى نشر دعوتهم أحاسنهم أخلاقًا، وأحق الدعوات بالنجاح أكارمها أخلاقًا، ومن ثم كان من أثر عفو النبي - صلى الله عليه وسلم - الشامل عن أهل مكة، أن دخلوا ـ رجالاً ونساءً، وأحراراً وعبيداً ـ في دين الله طواعية واختياراً، وبدخول مكة تحت راية الإسلام دخل الناس في دين الله أفواجاً .

ألا ما أجمل العفو عند المقدرة، وما أعظم النفوس التي تسمو على الأحقاد والانتقام، بل تسمو على أن تقابل السيئة بالسيئة، ولكن تعفو وتصفح، والعفو عن من؟، عن قوم طالما عذبوه وأصحابه، وهموا بقتله مرارا، وأخرجوه وأتباعه من ديارهم وأهليهم وأموالهم، ولم ينفكّوا عن محاربته والكيد له بعد الهجرة !!.
إن غاية ما يُرجى من نفس بشرية كانت مظلومة فانتصرت أن تقتص من غير إسراف في إراقة الدماء، ولكنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي قال عنه ربه عز وجل: {
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}  }(الأنبياء:107)، والذي قال هو عن نفسه صلى الله عليه وسلم: (  «إنما أنا رحمة مهداة » ) [رواه البخاري]  .
والنبوة من خصائصها العفو والتسامح، ثم أليس من صفاته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ التي بشّرت بها التوراة أنه ليس بفظّ ولا غليظ، ولا سخّاب في الأسواق، ولا يقابل السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ؟ .

لقد ضرب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعفوه عن أهل مكة للدنيا كلها، وللأجيال المتعاقبة مثلا في البر والرحمة، وسمو نفس لم تعرفه البشرية بأسْرِها، وهذا من دلائل نبوته وعظيم أخلاقه، فإنه لا يستطيع أن يفعل هذا إلا نبي .
وحياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسيرته العطرة حافلة بالوقائع الدالة على ذلك، فعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: (
« كأني أني أنظر إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحكي نبيا من الأنبياء، ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»  ) [رواه البخاري]  .
قال القاضي عياض : " قال القاضي أبو الفضل : انظر ما في هذا القول من جماع الفضل ودرجات الإحسان، وحسن الخلق وكرم النفس، وغاية الصبر والحلم، إذ لم يقتصر ـ صلى الله عليه وسلم ـ على السكوت عنهم حتى عفا عنهم، ثم أشفق عليهم ورحمهم، ودعا وشفع لهم، فقال: اغفر أو اهد، ثم أظهر سبب الشفقة والرحمة بقوله: لقومي، ثم اعتذر عنهم بجهلهم فقال: فإنهم لا يعلمون " .

لقد كان فتح مكة أهم انتصار وفتح للإسلام، أكرم الله به نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاصة والمسلمين عامة، فقد جاء هذا الفتح المبارك بعد سنوات متواصلة من الصبر والدعوة والجهاد لتبليغ رسالة الإسلام، وقد أعطانا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه دروسا نبوية كريمة، منها التواضع والعفو، وصدق الله ـ عز وجل ـ الذي قال عنه:
{{ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }} (القلم:4) .