ويوم حُنين، رسالة عاجلة إلى ثوار ليبيا

منذ 2011-11-01
ويوم حُنين، رسالة عاجلة إلى ثوار ليبيا

الحمد لله الواحد الأحد الناصر المعين، ثم الصلاة والسلام على سيد المرسلين وقائد الغر المحجّلين، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اتّبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد..
فهذه رسالة عاجلة إلى إخواننا الثوار في ليبيا الجهاد التي خلعت ثوب التثاقل والقعود ولبست ثوب الكرامة والحياة..
أيها الأحبة الكرام..
إن لله سنن لا تتغير، وقوانين في الأرض لا تتبدّل، وهذه السنن تتجدد بتجدد المواقف والمشاهد على مر الأزمان، فلا بد للمؤمنين من معرفة هذه السنن ليعملوا على استغلالها كما في قوله تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا . سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً} [الفتح: 22-23]، أو يعملوا على تجنّب أسبابها كما في قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]، فلا بد للمؤمنين أن يعلموا بأن نتائج الحروب لا تكون بالعدة والعتاد، بل المآل بيد الله تعالى، ولا ينفع الناس الحذر ما لم يكن معهم القدر، فالنصر من عند الله وحده، والمنصور من نصره الله، والمخذول من خذله الله {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]..
إن في قصة الحديبية عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فالمسلمون لما دخلوا مكة وهدموا الأصنام حول الكعبة سمعت بذلك هوازن فجمع قائدها مالك بن عوف النَّصري الجموع وأراد قتال المسلمين، وكان المسلمون أكثر منهم عتاداً وعدّة، وكانت معركة مصيرية لهذا القائد وجنوده الذين ساقوا النساء والذرية ليقاتل كلٌ عن أهله وولده، وقد احتاج النبي صلى الله عليه وسلم إلى العتاد ليستعين به في هذه المعركة الخطيرة فاستعار مائة درع من صفوان بن أمية، وكان يومئذ مشرك..
جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه "لما اجتمع يوم حنين أهل مكة وأهل المدينة أعجبتهم كثرتهم، فقال القوم: اليوم والله ما نقاتل حين اجتمعنا، فكرِه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوا، ما أعجبهم من كثرتهم" (رواه الحاكم وصححه) .. كان المسلمون في هذه المعركة اثنا عشر ألفاً والمشركون أربعة آلاف فأُعجب بعض المسلمون بكثرتهم وقالوا: "لن نُغلب اليوم من قلّة"، فلما التقى الفريقان -وقد ركن المسلمون إلى عددهم وعدّتهم- كمنت لهم هوازن وشدوا عليهم شدة رجل واحد، فانهزم الناس لا يلوون على شيء، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين، وأخذ ينادي المسلمين: «إليّ أيها الناس، هلمّ إليّ، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله، أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطّلب، ياللمهاجرين ... ياللأنصار» ولم يكن يجيبه أحد بادئ الأمر!!

ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته وكبار المهاجرين والأنصار في عصابة قليلة، قيل أنه ثمانون رجلاً، وطفق النبي صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قِبل الكفار، وقال للعباس: «أي عباس، نادِ أصحاب السمرة»، وكان العباس رجلاً صيتاً، فقال بأعلى صوته "أين أصحاب السمرة"، "يا أهل سورة البقرة" !! فما أن بلغ سمع الناس صوت العباس حتى أعلنوها مدوية: "يا لبّيك، يا لبّيك" فعطفوا عطفة البقر على أولادها، وتنادى الناس: يا معشر الأنصار"، "يا بني الحارث بن الخزرج"، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عطفة الناس فقال: «هذا حين حمي الوطيس» أو «الآن حمي الوطيس»، ثم رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحصى في وجه جيش هوازن وقال «ارجعوا، شاهت الوجوه» فامتلأت عيون القوم بالتراب، ثم حمل المسلمون حملة رجل واحد على الكفار فولّوا مدبرين، وهزمهم الله وأيد جنده بنصر من عنده، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم قواته بأمر صارم هريج: «جزّوهم جزّاً» وأومأ بيده إلى الحلق (رواه البزار، وقال الهيثمي: رجاله ثقات)، ثم أعلن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلاً فله سلبه» فتسابق الأبطال لحصد رؤوس الكفار، فقتل أبو طلحة -رضي الله عنه- عشرين رجلاً وأخذ أسلابهم ..

ذه المعركة الرهيبة في تفاصيلها، والغنيّة بدروسها وأحكامها، هي ذات المعركة المتكررة في تأريخ صراع الحق مع الباطل، فالحق منصور إن كان أصحابه على الجادة، والباطل مغلوب لأن الله لا يحبه، ولكن أهل الحق إذا زاغوا وبدَر منهم الزّهو والاتكال على النفس والمادّة وابتعدوا عن التوكّل المحض على الله تعالى: كانت الدائرة عليهم حتى يراجعوا أنفسهم ويعلموا من أين يأتي النصر، وكيف تأتي الهزيمة، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعلّم قوّاده هذه الحقيقة الخالدة التي تعلّمها درساً واقعياً غالياً في غزوة حنين فيقول: "إنما تُنصرون بطاعتكم لله، وبمعصية عدوكم له، فإن تساويتم في المعصية كانت لهم الغلبة عليكم"..

إن قتال أهل الحق لم يكن يوماً بعدّة أو عتاد، بل كان بالتوكّل الخالص على الله، فإذا نسي المؤمنون هذه الحقيقة الجليّة وناموا عنها، كانت اليقظة منها مكلفة وصعبة وعسيرة..
يا ثوار ليبيا..
إن ما نسمعه اليوم في شاشات التلفاز من التصريحات، وما نراه من التلميحات: هي كلها من المُهلكات، وليس -والله- تأخركم عن دخول "بني وليد" و"سبها" و"سرْت" إلا بسبب إعجابكم بكثرتكم وبعتادكم في وقت أنتم في أمس الحاجة إلى ذكر الله وطلب نصره..

لقد كان القائد العبقري الفذ نور الدين محمود زنكي رحمه الله وطيّب ثراه ينأى عن جيشه جانباً ويلقي بنفسه على الأرض يتقلّب عليها ويعفّر وجهه في التراب، قائلاً: "اللهم انصر دينك ولا تنصر محمودا، من هو محمود الكلب حتى يُنصَر" !! لقد كانت انتصاراته معجزات بالمقاييس العسكرية، ولم يؤثر عنه يوماً اتكالٌ على عدد ولا عدّة، لأنه يعلم أن الذي نصره في المعركة السابقة هو من يهزمه في المعارك القادمة إن أوكل أمره إلى نفسه أو جيشه..

إنها قصة حُنين الخالدة، قصّها الله تعالى علينا ليعرّفنا آياته وسننه: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]، فأنتم يا معشر ثوار ليبيا نُصرتُم في مواطن كثيرة (في بنغازي وطبرق ومصراته وطرابلس وغيرها)، ولكنكم وقفتم في سرت وبني وليد إذ أعجبتكم كثرة عددكم وعتادكم، ولا والله لن تغني عنكم شيئاً، وستضيق عليكم الأرض بما رحبت إن لم تتداركوا أمركم، وتقيموا ليلكم، وتتضرعوا إلى ربكم، وتعفروا وجوهكم، وتطرقوا باب السماء بسهام دعائكم اقتداءً بنيكم صلى الله عليه وسلم الذي قال في غزوة حنين: «اللهم أنجز لي ما وعدتني» فأنجز الله وعده، وصدق عبده، وهزم الأحزاب وحده..
إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير أصحاب لخير نبي، وهم خير أمة أُخرجت للناس، ولكنهم لم يُنصروا حتى لبّوا نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا كل تعلّق بالدنيا، {ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 26] قال السعدي رحمه الله: "والسكينة: ما يجعله اللّه في القلوب وقت القلاقل والزلازل والمفظعات ما يثبتها ويسكنها ويجعلها مطمئنة، وهي من نِعم اللّه العظيمة على العباد، {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} وهم الملائكة أنزلهم اللّه معونة للمسلمين يوم حنين يثبتونهم ويبشرونهم بالنصر. {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالهزيمة والقتل واستيلاء المسلمين على نسائهم وأولادهم وأموالهم. {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} يعذبهم اللّه في الدنيا، ثم يردهم في الآخرة إلى عذاب غليظ" (انتهى) ..

إن هذه اللحظات الحاسمة في تأريخ صراعكم مع باطل القذافي لا يمكن أن تُحسم بعددكم ولا بعتادكم، ولستم بأعز عند الله من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله الله في قلوبكم فإنها تتقلّب أشدّ مما تظنّون..

على القادة الميدانيين أن يأمروا الجنود بتوخي الحيطة والحذر من المعاصي والذنوب أشد من حذرهم من صواريخ القذافي وقذائفه، وأن يكونوا أشد حرصاً على تجنّب الغفلات منهم من رصاص القنّاصة والمرتزقة، وعليهم أن يحضّوا جنودهم على الذكر والدعاء والتذلّل بين يدي الله سبحانه وتعالى، وتذكيرهم بحقيقة النصر وأسبابه وحقيقة المعركة التي يخوضونها، وعليهم أن يعلّموا جنودهم بأنه لا نصر إلا بالتوكّل على الله حق التوكل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]، ومن تأمّل هذه الآية العظيمة وجد أنها قد جمعت أسباب النصر والظّفر، فلينقشها المجاهدون في قلوبهم، وليحفروها في عقولهم، وليعضّوا عليها بنواجذهم، وليعيشوها في واقعهم..

أكثروا من ذكر الله وقراءة القرآن، ومن الاستغفار والتوبة، وأبدوا الندم والتضرع بين يدي الله تعالى، واسقوا ترابكم بدموعكم قبل دمائكم، وكونوا على يقين بأن النصر لم يتأخر إلا بسبب بعض الذنوب والمعاصي فقد حرّرتم المدن والقُرى من قبل وأنتم أقل عدة وعتاداً منكم اليوم، ولا يضمن لكم أحد أن لا تنقلب الدائرة عليكم ويكون القذافي هو المنتصر في هذه الحرب إن لم ترجعوا إلى ربّكم، فكم من طاغية ظالم انتصر على الأمم بسبب معاصيها وذنوبها، ولله الأمر من قبل ومن بعد وإليه المصير، فعليه توكّلوا وإليه أنيبوا، وتوبوا إليه جميعاً أيها المؤمنون لعلّكم تُفلحون..

اللهم انصر المجاهدين في ليبيا على عدوّهم.. اللهم لا تكلهم إلى أقوالهم وأفعالهم، والطف بهم وارحمهم، وكن لهم ولا تكن عليهم.. اللهم اجعلهم من المؤمنين الذاكرين الوجلين المتوكّلين عليك حق التوكّل، واجعلهم اللهم من التائبين العابدين القانتين المنيبين.. اللهم اجعلهم من الناصرين لدينك، المستحقين لنصرك يا رب العالمين.. اللهم أنزل عليهم نصرك وثبّت أقدامهم وزلزل الأرض تحت أقدام عدوّهم يا ناصر يا معين..

والله أعلم.. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
كتبه حسين ين محمود 18 شوال 1432هـ.
  • 0
  • 2
  • 4,294
  • بسام

      منذ
    الله يجزيك الخير وا أخي الكريم والله إنك أصبت الحق بمقالك هذا ووالله لقد أثرت شجوني وأسلت مدمعي ‏/‏ إني تذكرت والذكرى مؤرقة.../‏ نعم أخي الكريم أصبت بقولك عن تأخرالنصربسبب العجب نعم لم ينتصرثوار ليبياإلابعدأن توكلواغلى ربهم ولجأوا إليه فنصرهم سبحانه وسخر لهم من خلقه من يعينهم على الظالم وهكذا‏= إن تنصروا الله ينصركم‏=‏

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً