مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ
و "الملك" أخص من "المالك". وفي الجمع بين القراءتين فائدة عظيمة؛ وهي أن مُلكه جلّ وعلا ملك حقيقي؛ لأن مِن الخلق مَن يكون مَلِكاً، ولكن ليس بمالك
يقول تعالى في سورة الفاتحة:
{{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}} هو يوم القيامة؛ و {{الدِّينِ} } هنا بمعنى الجزاء؛ يعني أنه سبحانه وتعالى مالك لذلك اليوم الذي يجازى فيه الخلائق؛ فلا مالك غيره في ذلك اليوم؛ و «الدين» تارة يراد به الجزاء، كما في هذه الآية، ومنه قوله تعالى: { {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ}} [النور:25]، أي جزاء أعمالهم بالعدل؛ ويقال: «كما تدين تدان»، أي كما تعمل تُجازى. وتارة يراد به العمل، كما في قوله تعالى: {{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}} [الكافرون:6]
** وفي قوله تعالى: {{مالك}} قراءة سبعية: { {مَلِك}} ، قرأه الجمهور بدون ألف بعد الميم، وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب وخلف {{مَالِك} } بالألف. وكلتاهما صحيحة ثابتة كما هو شأن القراءات المتواترة.
و "الملك" أخص من "المالك". وفي الجمع بين القراءتين فائدة عظيمة؛ وهي أن مُلكه جلّ وعلا ملك حقيقي؛ لأن مِن الخلق مَن يكون مَلِكاً، ولكن ليس بمالك: يسمى ملكاً اسماً وليس له من التدبير شيء؛ ومِن الناس مَن يكون مالكاً، ولا يكون مَلِكاً: كعامة الناس؛ ولكن الرب عزّ وجلّ مَالكٌ مَلِك.
فالأول {{مَالِك}} صفة مشبهة صارت اسما لصاحب الْمُلْكِ، والثاني {{مَلِك}} اسم فاعل من مَلَكَ إذا اتصف بِالْمِلْكِ، وكلاهما مشتق من (مَلَكَ)، فأصل مادة مَلَكَ في اللغة ترجع تصاريفها إلى معنى «الشد والضبط» كما قاله ابن عطية، ثم يتصرف ذلك بالحقيقة والمجاز، والتحقيق والاعتبار، وقراءة (مَلِكِ) بدون ألف تدل على تمثيل الهيئة في نفوس السامعين لأن الْمَلِكَ هو ذو الْمُلْكِ وَالْمُلْكُ أَخَصُّ مِنَ الْمِلْكِ، إِذِ الْمُلْكُ هو التصرف في الموجودات والاستيلاء ويختص بتدبير أمور العقلاء وسياسة جمهورهم وأفرادهم ومواطنهم فلذلك يقال مَلِكِ النَّاسِ وَلَا يُقَالُ: مَلِكِ الدَّوَابِّ أَوِ الدَّرَاهِمِ، وَأَمَّا الْمِلْكُ، فهو الاختصاص بالأشياء ومنافعها دون غيره.
واعلم أن وصفه تعالى بملك يوم الدين تكملة لإجراء مجامع صفات العظمة والكمال على اسمه تعالى، فإنه بعد أن وصف بأنه رب العالمين وذلك معنى الإلهية الحقة إذ يفوق ما كانوا ينعتون به آلهتهم من قولهم: "إله بني فلان" فقد كانت الأمم تتخذ آلهة خاصة لها كما حكى الله عن بعضهم: {{فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى}} [طه:88] وقال: {{قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}} [لأعراف:138] وكانت لبعض قبائل العرب آلهة خاصة، فقد عبدت ثقيف اللات، وفي حديث عائشة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- في الموطأ: " كَانَ الْأَنْصَارُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ الْمُشَلَّل". الحديث.
فوصف الله تعالى بأنه رب العالمين كلهم، ثم عقب بوصفي الرحمن الرحيم لإفادة عظم رحمته، ثم وصف بأنه ملك يوم الدين وهو وصف بما هو أعظم مما قبله لأنه ينبئ عن عموم التصرف في المخلوقات في يوم الجزاء الذي هو أول أيام الخلود، فمَلك ذلك الزمان هو صاحب المُلك الذي لا يشذ شيء عن الدخول تحت مُلكه، وهو الذي لا ينتهي ملكه ولا ينقضي، فأين هذا الوصف من أوصاف المبالغة التي يفيضها الناس على أعظم الملوك: مثل ملك الملوك "شاهان شاه" وملك الزمان وملك الدنيا "شاه جهان" وما شابه ذلك.
مع ما في تعريف ذلك اليوم بإضافته إلى الدين (أي الجزاء) من إدماج التنبيه على عدم حكم الله لأن إيثار لفظ الدين (أي الجزاء) للإشعار بأنه معاملة العامل بما يعادل أعماله المجزي عليها في الخير والشر، وذلك العدل الخاص قال تعالى: {{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ}} [غافر:17] فلذلك لم يقل مَلِكِ يَوْمِ الْحِسَابِ فوصفه بأنه مَلِكُ يَوْمِ الْعَدْلِ الصِّرْفِ وصف له بأشرف معنى الْمُلْكِ فإن الملوك تتخلد محامدهم بمقدار تفاضلهم في إقامة العدل وقد عرف العرب الْمِدْحَةَ بذلك.
** ولما اتصف تعالى بالرحمة، انبسط العبد وغلب عليه الرجاء، فنبه بصفة الملك أو المالك ليكون من عمله على وجل، وأن لعمله يوماً تظهر له فيه ثمرته من خير وشر.
قال ابن عاشور: إتباع الأوصاف الثلاثة المتقدمة بهذا ليس لمجرد سرد صفات من صفاته تعالى، بل هو مما أثارته الأوصاف المتقدمة، فإنه لما وصف تعالى بأنه: رب العالمين، الرحمن الرحيم، وكان ذلك مفيدا لما قدمناه من التنبيه على كمال رفقه تعالى بالمربوبين في سائر أكوانهم، ثم التنبيه بأن تصرفه تعالى في الأكوان والأطوار تصرف رحمة عند المعتبر، وكان من جملة تلك التصرفات تصرفات الأمر والنهي المعبر عنها بالتشريع الراجع إلى حفظ مصالح الناس عامة وخاصة، وكان معظم تلك التشريعات مشتملا على إخراج المكلف عن داعية الهوى الذي يلائمه اتباعه وفي نزعه عنه إرغام له ومشقة، خيف أن تكون تلك الأوصاف المتقدمة في فاتحة الكتاب مخففا عن المكلفين عبء العصيان لما أمروا به ومثيرا لأطماعهم في العفو عن استخفافهم بذلك، وأن يمتلكهم الطمع فيعتمدوا على ما علموا من الربوبية والرحمة المؤكدة فلا يخشوا غائلة الإعراض عن التكاليف، لذلك كان من مقتضى المقام تعقيبه بذكر أنه صاحب الحكم في يوم الجزاء {{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}} [غافر:17] لأن الجزاء على الفعل سبب في الامتثال والاجتناب لحفظ مصالح العالم، وأحيط ذلك بالوعد والوعيد، وجعل مصداق ذلك الجزاء يوم القيامة. ولذلك اختير هنا وصف ملك أو مالك مضافا إلى يوم الدين.
فأما ملك فهو مؤذن بإقامة العدل وعدم الهوادة فيه لأن شأن الملك أن يدبر صلاح الرعية ويذب عنهم، ولذلك أقام الناس الملوك عليهم. ولو قيل: "رب يوم الدين" لكان فيه مطمع للمفسدين يجدون من شأن الرب رحمة وصفحا، وأما مالك فمثل تلك في إشعاره بإقامة الجزاء على أوفق كيفياته بالأفعال المجزى عليها.
** فإن قال قائل: أليس مالك يوم الدين والدنيا؟ فالجواب: بلى؛ لكن ظهور ملكوته وملكه وسلطانه، إنما يكون في ذلك اليوم؛ لأن الله تعالى ينادي: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فلا يجيب أحد؛ فيقول تعالى: { {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}} [غافر:16]؛ في الدنيا يظهر ملوك؛ بل يظهر ملوك يعتقد شعوبهم أنه لا مالك إلا هم؛ فالشيوعيون مثلاً لا يرون أن هناك رباً للسموات والأرض؛ يرون أن الحياة: أرحام تدفع، وأرض تبلع؛ وأن ربهم هو رئيسهم.
قال في البحر المحيط: وفائدة تخصيص هذه الإضافة، وإن كان الله تعالى مالك الأزمنة كلها والأمكنة ومن حلها والملك فيها، التنبيه على عظم هذا اليوم بما يقع فيه من الأمور العظام والأهوال الجسام من قيامهم فيه لله تعالى، والاستشفاع لتعجيل الحساب والفصل بين المحسن والمسيء واستقرارهما فيما وعدهما الله تعالى به، أو على أنه يوم يرجع فيه إلى الله جميع ما ملكه لعباده وخوّلهم فيه ويزول فيه ملك كل مالك، قال تعالى: { {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} } [مريم:95] {{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}} [الأنعام:94]
وإجراء هذه الأوصاف الجليلة على اسمه تعالى إيماء بأن موصوفها حقيق بالحمد الكامل الذي أعربت عنه جملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ}، لأن تقييد مفاد الكلام بأوصاف متعلق ذلك المفاد يشعر بمناسبة بين تلك الأوصاف وبين مفاد الكلام مناسبة تفهم من المقام مثل التعليل في مقام هذه الآية.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: