بك نستعين يا الله..
الاستعانة بالله عز وجل من أعظم واجبات الإيمان، وأفضل الأعمال المقرِّبة للرحمن؛ فإن الأمور كلها لا تحصل ولا تتم إلا بالاستعانة بالله
- التصنيفات: تزكية النفس - نصائح ومواعظ -
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]، ولا نجاةَ للعباد من فتن الدنيا، وأحداث الزمان، وتسلُّط العدو، وشر النفوس، وسيِّئ الأسقام والأمراض - إلا بالاستعانة بالله، التي تعني طلب العون من الله تعالى، المتضمن لكمال الذل من العبد لربه سبحانه، وتفويض الأمر إليه وحده، واعتقاد العبد كفايته سبحانه وقدرته على كل شيء.
أيها المسلمون: الاستعانة بالله عز وجل من أعظم واجبات الإيمان، وأفضل الأعمال المقرِّبة للرحمن؛ فإن الأمور كلها لا تحصل ولا تتم إلا بالاستعانة بالله، وقد أمر الأنبياء أقوامهم بالاستعانة بالله وحده؛ قال سبحانه: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]، وأمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالاستعانة بالله وحده؛ فقال عليه الصلاة والسلام: «إذا استعنْتَ فاستعِنْ بالله»؛ (رواه الترمذي)، فالعبد أحوجُ إلى مولاه في طلب إعانته على فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات؛ قال سيدنا يعقوب صلى الله عليه وسلم في الصبر على المقدور: {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، ولِعِظَمِ هذه العبادة وأهميتها، فإن الله أفردها من بين سائر العبادات، وتعبَّد المسلم بها في كل ركعة يصليها؛ فإنه يقرأ قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، وفي هذه الآية اجتمع أمران عظيمان عليهما مدار العبودية؛ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] تبرؤٌ من الشرك، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] تبرؤ من الحَولِ والقوة؛ فالمعنى: لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك.
ولذلك علَّم النبي عليه الصلاة والسلام معاذًا دعاءً يحافظ عليه بعد كل صلاة مكتوبة، يطلب العون من ربه في أداء عبادته؛ فعن معاذ بن جبل، أنه قال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيدي يومًا، ثم قال: يا معاذُ، «والله إني لأُحِبُّك»، فقال معاذ: بأبي وأمي يا رسول الله، وأنا والله أحبك، فقال: «أوصيك يا معاذ، لا تدَعَنَّ في دُبُرِ كل صلاة أن تقول: اللهم أعِنِّي على ذِكْرِك، وشكرك، وحسن عبادتك»؛ (رواه أبو داود والنسائي وأحمد).
عبــــاد الله: إن للاستعانة بالله قوةً لا حدود لها، فكل ما يخطر ببالك قليل بالنسبة للحقيقة، فانظر كيف واجه الأنبياء فساد البشرية، وظلم الظالمين، وجحود المستكبرين، وكيف تغلَّب الصالحون على ابتلاءات الزمان، وكيف تجاوز الناسُ الكثيرَ من مصاعب الحياة وتغلبوا عليها، وكيف تبدَّلت أحوال الدول والمجتمعات والقرى من ضعف إلى قوة، ومن خوف إلى أمْنٍ، ومن شقاء وتعاسة إلى سعادة وإخاء، وما ذلك على الله ببعيد؛ وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «احرِصْ على ما ينفعك، واستعِنْ بالله، ولا تعجِز»؛ (أخرجه مسلم)؛ يعني: لا تعتمد على الحرص فقط، ولكن مع الحرص استعن بالله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا غِنى لك عن الله، ومهما بذلتَ من الأسباب، فإنها لا تنفع إلا بإذن الله، لقد رَكِبَ يونس عليه السلام البحرَ، فساهم مع ركَّاب السفينة التي أشرفت على الغرق، أيهم يُلقَى منها لتخفيف حمولتها، فكان من المدحضين، فأُلْقِيَ في لُجَجِ البحار، وانقطع عنه النهار، والْتَقَمَهُ الحوت، فصار في ظلمات بعضها فوق بعض، فبمن استعان؟! وبمن اعتصم؟! لقد نادى في الظلمات: {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، فسمع الله نداءه، وأجاب دعاءه، فنجَّاه من الغمِّ، وكذلك يُنجي المؤمنين، وانظروا لمن استعان بغير الله، هل وجد النجاة؟ وهل وصل إلى مبتغاه؟ هذا ابن نوح عليه السلام قال تعالى عنه: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 42، 43]، وكتب الحسن إلى عمر بن عبدالعزيز: "لا تستَعِنْ بغير الله؛ فيَكِلَك الله إليه"، ومن كلام بعض السلف: "يا رب، عجِبتُ لمن يعرفك، كيف يستعين بغيرك؟".
عباد الله: إن تحقيق الاستعانة بالله تعالى على وجهها المشروع عنوانُ السعادة، ودليل الفلاح، ورأس الخير، وإن المسلمين جميعًا يرددون في صلاتهم قول الحق سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، يرددون ذلك مراتٍ ومرات في اليوم والليلة، ولكن القليل منهم من يعقِل معنى الاستعانة بالله، ويدرك أنها من أعظم العبادات التي يجب إخلاصها لله سبحانه؛ ولهذا نَلْحَظُ في أوساط الناس من يُعْرِضون عن الاستعانة بالله، فلا يسألونه قضاء الحوائج، ولا تفريج الكربات، ولا دَفْعَ المضارِّ والضوائق، ولا دفع الأوبئة وشفاء المرضى، ولا تبدُّلَ الظروف وتغيُّرَ الأحوال، وهم مع ذلك قد أنزلوا حاجاتهم بالمخلوقين الضعفاء الذين لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلًا.
فاستعينوا بربكم وثِقوا به؛ وردِّدوا: «بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض، ولا في السماء»؛ (صحيح الترمذي)، من الذي يضر وينفع؟ من الذي يقدِّر الأمر؟ من الذي يُجري الأقدار؟ من الذي يكوِّر الليل على النهار؟ إنه الواحد القهَّار سبحانه وتعالى، فإليه فافزعوا، وإليه فالجؤوا، وإليه المآب، فبه تحصَّنوا، وبه تعوَّذوا، وعليه توكَّلوا، وإليه أنيبوا، وإليه تُوبُوا، وبه استعينوا، وإليه الأكُفَّ فارفعوا.
رأى إبراهيم بن أدهم رجلًا مهمومًا، فقال له: أيها الرجل، إني أسألك عن ثلاث تجيبني؟ قال الرجل: نعم، فقال له إبراهيم بن أدهم: أيجري في هذا الكون شيء لا يريده الله؟ قال: كلا، قال إبراهيم: أفَيَنْقُص من رزقك شيء قدَّره الله لك؟ قال: لا، قال إبراهيم: أفينقص من أجَلِكَ لحظة كتبها الله في الحياة؟ قال: كلا، فقال له إبراهيم بن أدم: فعَلَامَ الحزن يا رجل؟ ويقول الإمام الشافعي رحمه الله:
سهِرَتْ أعينٌ ونامت عيـــــــــــــونٌ ** في أمور تكونُ أو لا تكونُ
فادْرَأ الهمَّ ما استطعت عن النفس ** فحِملانُك الهمومَ جنـــــونُ
إن ربًّا كفاك بالأمس ما كــــــــــان ** سيكفيك في غدٍ ما يكــونُ
فاستعينوا - يا عباد الله - على أنفسكم وتقصيرها بالله، والتزموا أمره وأدُّوا فرائضه، واستعينوا على أموركم وأحوالكم بالله، واستعينوا بالله في صلاح الأولاد، وجلب الأرزاق، واستعينوا على نوائب الدهر، وفتن الزمان، وتقلُّبات الأحوال بالله، يجعل لكم من كل همٍّ فَرَجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل عسر يسرًا، واصبروا في مرضات الله وعلى طاعاته، واثبتوا على الحق مهما قلَّ السالكون طريقَه، ولا يغرنَّكم هَولُ الباطل وضجيجه، وادفعوه بما استطعتم من أسباب؛ فإنه إلى زوال؛ قال سبحانه: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]، واعلموا أن الله أمركم بأمرٍ بـــــــدأ فيه بنفسه، وثنَّـــى بملائكته المسبِّحة بقُدْسِهِ، وثلَّـــث بكم - أيها المؤمنون - من جِنِّه وإنسِه؛ فقال قولًا كريمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]،