(1) الهُتافُ الرَّبَّانيُّ
هذا هو الهُتافُ الرَّبَّانيُّ الكريمُ الذي تُردِّدُه الحناجرُ المؤمنةُ في رحلة الحَجِّ، تلك الرحلةُ الكريمةُ التي يُجدِّدُ المسلمُ فيها عَهْدَه لله عز وجل، وبيعتَه إيَّاه، مُنْخَلِعًا عن كل ألوانِ الجاهليةِ ومبادِئها الضالَّة، وأخلاقِها الفاسدة، مُعْلِنًا أنَّ كُلَّ ولائه هو للإسلامِ، وللإسلامِ وحْدَه.
- التصنيفات: فقه الحج والعمرة -
((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ)).
هذا هو الهُتافُ الرَّبَّانيُّ الكريمُ الذي تُردِّدُه الحناجرُ المؤمنةُ في رحلة الحَجِّ، تلك الرحلةُ الكريمةُ التي يُجدِّدُ المسلمُ فيها عَهْدَه لله عز وجل، وبيعتَه إيَّاه، مُنْخَلِعًا عن كل ألوانِ الجاهليةِ ومبادِئها الضالَّة، وأخلاقِها الفاسدة، مُعْلِنًا أنَّ كُلَّ ولائه هو للإسلامِ، وللإسلامِ وحْدَه.
وإنَّ في النداء الكريم الوضيء ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ)) كنوزًا من المعاني المشْرِقةِ الرائعةِ، والمشاعرِ الساميةِ النبيلةِ، والإشراقاتِ الرُّوْحانية النورانية، هذه الكنوزُ السماويةُ الغنيَّةُ، الطيِّبةُ الزكيةُ، لها دَوْرُها الكبيرُ في إحداث النُّقْلة الإيمانية في حياة الحجِّ نحو الأفضل والأكمل.
إنَّ ممَّا تؤدِّيه هذه الكنوزُ أنها تجعل الحاجَّ يُصحِّح عقيدتَه بادئ ذِي بَدْءٍ حتى يكونَ مسلمًا تامَّ الإسلامِ، مؤمنًا مكتملَ الإيمانِ، اللهُ عز وجل هو ربُّه وغايتُه، ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم نبيُّه وقائدُه وهاديه، والقرآنُ الكريمُ دستورُه وإمامُه وكتابُه، والكعبةُ الغَرَّاءُ قِبْلتُه، والمسلمون عشيرتُه وأهلُه وذَوُوه، جنسيَّتُه هي دينُه الذي ينتسبُ إليه، وجُهْدُه الدؤوبُ هو السعْيُ لإعلاءِ كلمةِ اللهِ عز وجل وتحكيمِ شريعتِه في الأرضِ.
ومن نتائجِ رحلةِ الحجِّ في نَفْسِ الحاجِّ، أن يظَلَّ يُحاسِبُ نفسَه، ويستشعرُ تقصيرَه، ويُجافي كُلَّ ما يُعوِّق سيرَه نحو الهدايةِ من عاداتٍ ومألوفاتٍ، وشهواتٍ ومُغْرياتٍ، وأهواءٍ وتطلُّعاتٍ، ويُسارعُ إلى كلِّ ما يستنقذُه من وَهْدَةِ الضَّعْفِ البشريِّ، ويحُثُّ خُطاهُ نحْوَ طاعةِ الرحمنِ، من عبادةٍ صادقةٍ، وارتفاعٍ فوق السَّفاسِف، وحمْلٍ للنَّفْس على ما تكرَه، وتلاوةٍ مُتدبِّرة، وذِكْرٍ مُتَفكِّر، وخدمةٍ لإخوانِه في اللهِ، وبَذْلٍ للمالِ والجُهْدِ والوقتِ والأعصابِ، وعملٍ موصولٍ من أجل إنقاذ المسلمين مما يعانون، ورغبةٍ في استئنافِ الحياةِ الإسلاميةِ من جديدٍ بكُلِّ أبْعادِها الطاهرةِ المباركةِ، وفي جميعِ ديارِ الإسلامِ.
وإذا كان المرءُ قد وجَدَ في التلبيةِ أمثالَ هذه المعاني الساميةِ جميعًا، فإنه كذلك سيجِدُ في كل مَناسِكِ الحجِّ الأخرى بُسْتانًا من الخيرات، وحديقةً وارِفةَ الظِّلالِ من المعاني السامية، والتأمُّلات الصادقة، وروضةً طيبةً مِعْطارةً تفُوح بالنشْر الذكيِّ، والمِسْك العاطِرِ، والعَبِيرِ الدَّافِقِ.
ويا لَسعادة مَنْ فاز بهذه المعطيات الرائعة الثريَّة! التي يَهُون المالُ والعمرُ، والوقتُ والجهدُ، والمشقةُ والتعبُ، من أجل بعضِ بعضِها، فكيف بها كلها؟! يا لَسعادته! ويا لَروعة ما فاز به من تعرض للرحمة الربَّانية التي لا تنفد خزائنُها على العطاء! وإن كثُر السائلون، ولا يَبْلى ثراؤها قطُّ، بل إنه لَيَزْدادُ، ولا يِجفُّ مَعِينُها أبدًا، بل إنه ليَغْزُر.
يا لَسعادته ويا لَهناءته! طُوبى له طُوبى! طُوبى له وحُسْن مآب! طُوبى له إذ يقف بالبيت العتيق، ويسعى بين الصَّفَا والمروة، ويقف بعرفة، ويبيت بمُزْدَلِفة، ويرمي الجِمارَ في مِنى! طُوبى له إذ يُلبِّي ويَنْحَر، ويحلِق ويُهَرْوِلُ، ويشُدُّ الرِّحال إلى مسجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
طُوبى له إذ يسفَحُ العَبَراتِ مُتذلِّلًا خاضِعًا باكيًا مستغفرًا! طُوبى له إذ يحتمل المتاعبَ والمشاقَّ بنفس راضيةٍ وروحٍ مشرقةٍ! وطُوبى له إذ يصبر على تبديل العادات والمألوفات والتزام التجرُّد عن كل مظهر يتنافى مع المساواةِ بين جميع القادمين! طُوبى له إذ يفعل ذلك كُلَّه! فعسى أن تترك في نفسه مثلُ هذه المعايشةِ الممتازةِ، في هذا المناخ العظيم الرائع، جوًّا نفسيًّا عاليًا، وأُفقًا رُوحيًّا ساميًا، وعَزْمًا وحَزْمًا، وهِمَّةً وقَّادة، أن يلمَح بسرعةٍ وشفافيةٍ كُلَّ خيرٍ فيُسارع إليه، وكُلَّ شَرٍّ فيُجانِبُه، وأن يُقرِّر قرارًا حاسمًا جازمًا أن يعيشَ بالإسلامِ وللإسلامِ، عليه يحيا، وله يجاهد، وعليه يموت، وأن يدخل إلى ساحة المَبَرَّاتِ والمكرماتِ والفضائلِ، والاستقامة والعِفَّة والطُّهْر، والصدق والمروءة والهداية، فترسَخ عطايا هذه الساحة المباركة في نفسِه، وتتعمَّق في ذاتِه، لتغدُو له خُلُقًا ثابتًا، يُرافقُه في حجِّه، وبعد مُنْقَلَبِه المبارك المشكور إلى أهله، وأوْبَتِه الميمونة الحميدة إلى بلده، وما أعظم هذا الكسب حين يفوزُ به! وما أكرمَه من زاد يُحصِّله في هذه الدنيا الفانية!
وإذا كانت كارثةُ الأقصى الحزينِ الأسيرِ وما حوله من ديارِ الإسلامِ في فِلَسْطِين المسلمةِ تنزل بِكَلْكَلِها الرهيبِ على صَدْر هذه الأمة المنكوبة، وما أكثرَ كوارثَ أُمَّتِنا المبتلاة في الفلبِّين وكشمير، وإريتريا وتركستان، وشتى ديار الإسلام في كل مكان! فإن على المسلم أن يعي بدقَّةٍ وجديةٍ خطورةَ كارثةِ الأقصى، فهو جزءٌ من دار الإسلام، له حقُّ الذَّوْد والدفاع والجهاد لاستخلاصه، لكنه ينفرد عن الأجزاء الأخرى الأسيرة المنكوبة، بأنه ثالثُ الحرمينِ الشريفينِ، ومَسْرى الرسولِ الكريمِ صلى الله عليه وسلم، وإذن فإن له علينا حقًّا مُضاعفًا ومسؤوليةً مؤكَّدةً، مما يجعل واجبَنا في السعي من أجل إنقاذه أكبرَ وأخطرَ.
يا أيُّها الإخوة الحجيج، يا أيُّها المسلمون عامة! حذارِ أن تبقى قُدْسُكم أسيرةً، وأن يبقى أقصاكم مُهانًا، وأن تبقى مآذنُه مكلومةً، وأن يبقى أذانُه جريحًا راعفًا.
واعلموا أن السبيلَ الوحيدَ لإنقاذِ القُدْسِ والأقْصَى وديارِ الإسلام جميعًا؛ إنما هو في الجهاد المؤمن الملتزم بكتاب الله عز وجل وسُنَّة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فالبِدارَ البِدارَ إلى الجهاد! فيه تُرْضُون ربَّكم، وتُحرِّرون بلدَكم، وتُقيمُون دولةَ إسلامِكم، وتَشِيدُون مجتمعَها الطاهرَ الذي يحكمه الإيمانُ والقرآنُ دستورًا ومنهجَ حياةٍ.
___________________________________________
الكاتب: د. حيدر الغدير