الشهود الخرس

محمد بن عبد الله السحيم

وشهادةُ تلك الأعضاءِ الخُرْسِ تكونُ ساعةَ الحسابِ إثْرَ إنكارِ العبدِ سيءَّ عملِه حين يُعرَضُ عليه، وأنه لا يَقبلُ شاهدًا عليه إلا من نفسِه"

  • التصنيفات: الدار الآخرة -

الدنيا دارُ إمهالٍ وعملٍ، والآخرةُ دارُ جزاءٍ وتوفيةٍ وتناصفٍ، تناهى فيها ميزانُ العدلِ حتى حوى مثاقيلَ الذَّرِّ، وفيها تَجلو الحقائقُ التي طالما غُيِّبتْ في الدنيا بشهودٍ متنوِّعينَ كثرةً، {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 79]؛ حتى لا يبقى لأحدٍ على اللهِ عذرٌ؛ إذ لا أحدَ أحبُّ إليه العذرُ مِن اللهِ! ومِن أعجبِ نبأِ الشهودِ الذين يَشهدون على أعمالِ العبادِ شهادةُ الخُرْسِ الصُّمْتِ الذين طالما لم يُؤْبَهْ باستحضارِ شهادتِهم يومَ الدينِ، وأنَّ لهم لسانًا ذا بيانٍ يَنطقُ بالحقائقِ يومَ الجزاءِ واستيفاءِ الحقوقِ وردِّ المظالمِ!

ومِن أولئك الخُرْسِ الشهودِ الأرضُ التي وضعَها اللهُ للأنامِ مِهادًا، تَحْويهم أحياءً وأمواتًا؛ تَشهدُ على أعمالِ العبادِ بجبالِها وسهولِها وأوديتِها وبرِّها وبحرِها وحبَّاتِ رملِها وعددِ حَجَرِها ومَدَرِها وشجرِها. فلأولئك الجماداتِ الخُرْسِ يومَ الدينِ موقفُ صدقٍ للشهادةِ عظيمٌ حين تَشهدُ بين يدي اللهِ بأعمالِ العبادِ، كما قال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 1 - 4]. قال أبو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4]، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا» ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا؛ أَنْ تَقُولَ: عَمِلَ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا»، قَالَ: «فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا» (رواه أحمدُ وصحَّحَه ابنُ حبانَ).

وتُحدِّثُ الأرضُ التي كُنَّا بِهـــا  **  أخبارَها في الحَشرِ للرّحمـنِ 

وتَظَلُّ تَشهدُ وَهْيَ عَدْلٌ بالذي  **  مِن فوقِهَا قد أَحدَثَ الثَّقَلانِ 

 

عبادَ اللهِ!

وتَدِقُّ شهادةُ الخُرْسِ، ويَعظمُ خطرُها أكثرَ حين تكونُ أقربَ ما يكونُ للمشهودِ عليه، بل هي جزءٌ منه وأبْعاضٌ من جسدِه؛ أعضاءٌ لا يَكادُ يَنفكُّ عملُ عاملٍ من مباشرتِها له؛ تُقِرُّ بالأعمالِ، ولا عذرَ بعدَ إقرارٍ. شهادةٌ قد نوَّهَ اللهُ بشأنِها في كتابِه مُحَذِّرًا عبادَه، وحاديًا لهم باستشعارِ رقابتِها والتحوّطِ لها. فللأيدي والأرجلِ والألْسُنِ والأعينِ والأسماعِ والجلودِ والعظامِ شهاداتٌ تَشيبُ لها مَفارِقُ الوِلدانِ يومَ الفصلِ، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65]، {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24]، {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت: 19، 20].

وشهادةُ تلك الأعضاءِ الخُرْسِ تكونُ ساعةَ الحسابِ إثْرَ إنكارِ العبدِ سيءَّ عملِه حين يُعرَضُ عليه، وأنه لا يَقبلُ شاهدًا عليه إلا من نفسِه، كما قال أبو هريرةَ -رضيَ اللهُ عنه-: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَضَحِكَ، فَقَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ» ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ ربَّه؛ يقولُ: يا ربِّ، ألم تُجِزْني مِنَ الظُّلْمِ؟» ! قَالَ: «يَقُولُ: بَلَى»، قَالَ: «فَيَقُولُ: فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي»، قَالَ: يَ «قُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا! وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا!» قَالَ: «فَيَخْتِمُ عَلَى فِيهِ، فَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ»، قَالَ: «ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ»، قَالَ: «فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ!»

وَفِي حَدِيثٍ: «ثُمَّ يُقَالُ: الْآنَ نَبْعَثُ شاهدَنا عَلَيْكَ، وَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ؟! فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ وَلَحْمِهِ وَعِظَامِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ؛ وَذَلِكَ لِيُعْذَرَ مِنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ، وَذَلِكَ الَّذِي سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ» (رواهما مسلمٌ).

هَلْ يَسْتَطِيعُ جُحُودَ ذَنْبٍ وَاحِدٍ   **   رَجُلٌ جَوَارِحُهُ عَلَيْهِ شُهُودُ 

 

أيها المسلمون!

وصفةُ تلك الشهاداتِ قد أبانَتْها النصوصُ بأنها شهاداتُ صدقٍ يَسمعُها بفهمٍ دقيقٍ كلُّ عاملٍ، يُنطقُ اللهُ تلك الجوارحَ الخُرْسَ بشهادةِ الصدقِ يومَ الدينِ، بلسانٍ بيِّنٍ؛ لتَقطعَ عذرَ العاملِ إنْ خانَها، وتَقَرَّ عينُه إنْ صانَها.

وبعدَ شهادةِ الأعضاءِ يكونُ حوارُ الأسى والندمِ بين مَن خانَ تلك الجوارحَ وبينَ جوارحِه التي شهدتْ عليه بأعمالِه المَشينةِ، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 21 - 23].

محاورةٌ تُقَطِّعُ نِياطَ قلوبِ الذين يَخشون ربَّهم بالغيبِ وهم من الساعةِ مُشفقونَ، حين كانت تلك الجوارحُ الصامتةُ ألسنًا يومَ القيامةِ بالشهادةِ ناطقةً، تُلْقِمُ مَن شهدتْ عليهم غُصصَ المرارةِ بسدادِ الجوابِ المُوجِعِ المُفْظِعِ؛ وذلك بما أبدتْ لهم من سرِّ إنطاقِها بتلك الشهاداتِ، والسببِ الذي أفضى بأولئك المشهودِ عليهم من أهلِ الشقاوةِ إلى دَرَكِ الشَّقاءِ؛ وذلك حين بادروا جلودَهم التي تواجهُهم وكان غالبُ الأعضاءِ الشهودِ من مادتِها باستهجانِ شهادتِها ظانينَ أنها الأعضاءُ التي كانت في الدنيا لا تنطقُ ولا تمتنعُ من تحقيقِ مراداتِهم ومآربِهم في مباشرةِ السيئاتِ، قائلين بأسلوبِ الاستفهامِ التعجبيِّ الإنكاريِّ: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} [فصلت: 21]؟! فتَبْهَتُهمُ الأعضاءُ بجوابٍ مُلْجِمٍ لم يَحْسِبِ الفجَّارُ حسابَه قائلةً: {أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت: 21]؛ فالذي أنطقَ هذه الأعضاءَ الخُرْسَ هو الذي أنطقَ كلَّ ناطقٍ في حينِه، وهو الذي تفرَّدَ بالخلقِ الذي ليس الإنطاقُ بأصعبَ منه -وكلُّه عليه يسيرٌ-، وإليه مرجعُ الخلقِ وعاقبةُ الأمورِ.

 

أيها المؤمنون!

وفي المحاورةِ القرآنيةِ الدائرةِ بين الأعضاءِ الخُرْسِ الشهودِ وبين مَن شهدوا عليهم بيانُ سببِ الشقاءِ الذي كانت به شهادةُ الأعضاءِ: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 22، 23]؛ ذلكمُ السببُ الذي جرَّأَهم على تقحُّمِ حرماتِ اللهِ وتعدِّي حدودِه هو ضعفُ استشعارِهم مراقبةَ اللهِ لهم وإحصاءَه أعمالَهم؛ فكانوا لوقارِ اللهِ غيرَ مُعَظِّمين، ولحسابِ الآخرةِ غافلين، وبصمتِ تلك الجوارحِ وأمنِهم مِن شهادتِها عليهم مُغترِّين، وذلك كلُّه مِن ظَنِّ السَّوْءِ باللهِ الذي قادَهم إلى سوءِ الحالِ والمآلِ؛ فكانت خسارتُهم في الآخرةِ فادحةً؛ لبقائِها، وعدمِ إمكانِ التعويضِ فيها! فيا شقاءَ مِن غَفَلَ عن استشعارِ شهادةِ المخلوقاتِ الخُرْسِ، وظنَّ أنَّ اللهَ لا يعلمُ كثيرًا مما يفعلُ!

 

عبادَ اللهِ!

لئِنْ كان الشهودُ الخُرْسُ شاهدين على قومٍ بالشقاءِ، فإنِّ لهم شهادةَ صدقٍ لقومٍ بالنَّجاءِ يومَ الجزاءِ! وذلك في حقِّ مَنِ استحضرَ تلك الشهادةَ واستصحبَ مراقبةَ الإلهِ ونظرَه؛ فكان ذلك أعظمَ حاجزٍ له عن الاقترابِ مِن حِمى الحُرُماتِ، وإنْ دَنَتْ وتيسرتْ أسبابُها، وخفيتْ عن الأعينِ ملاحظتُها، وكان ذلك الاستشعارُ أقوى دافعٍ لتوبةِ العبدِ إنْ زلَّتْ به قَدَمٌ وتلطَّخَ بأوْضارِ الذنوبِ؛ فكانتِ الأرضُ وجوارحُ الأعضاءِ التي صانَها بالخوفِ ودموعِ التوبةِ شاهدةً له عند ربِّه، ويا فوزَ مَن شهدتْ له الأرضُ والأعضاءُ! وكفى باللهِ شهيدًا!

وَحَصِّنْ عَنْ الْفَحْشَا الْجَوَارِحَ كُلَّهَا   **  تَكُنْ لَك فِي يَوْمِ الْجَزَا خَيْرَ ‌شُهَّدِ