الهمة العالية

منذ ساعتين

إنها أمنية غالية يسعى لها الساعون من المؤمنين على مرّ العصور، إنها شعلة تحرك القلوب، وتحدوهم إلى ضرب الأمثلة في الجهاد والتضحية.

يقول رجاء بن حيْوة [1] أمرني عمر بن عبدالعزيز أن أشتري له ثوبًا بستة دراهم فأتيته به فجسّه، وقال: هو على ما أحبّ لولا أن فيه لينًا، فبكى رجاء بن حيوه، فقال له عمر: ما يبكيك، قال أتيتك وأنت أمير بثوب بـ 600 درهم فجسسته، وقلت هو على ما أحبّ لولا أن فيه خشونة، وأتيتك وأنت أمير المؤمنين ثوب بـ 6 دراهم فجسسته وقلت: هو على ما أحب لولا أن فيه لينًا.

 

فقال: يا رجاء إنّ لي نفسًا توّاقة [2] تاقت إلى فاطمة بنت عبدالملك فتزوجتها، وتاقت إلى الإمارة فَولِّيتُها، وتاقت إلى الخلافة فأدركتها، وقد تاقت إلى الجنّة، فأرجو أنْ أدركْها إن شاء الله عز وجل.

 

أيها الإخوة عندما تتلهف النفس إلى شيء عزيز، وعندما تشتاق إلى لقيا حبيب تصغر الأشياء، وتكون لا شيء أمام ما تتمناه النفس وتهواه.

 

وهذا عمير بن الحمام يشتاق للجنّة، ويقول: واهًا لرائحة الجنة إنّي لأشمها من دون أحد، فيقتل – رضي الله عنه - في غزوة أحد وقد طعن اثنتي عشرة طعنة[3].

 

وهذا عبدالله بن رواحة الأنصاري أحد الأمراء في غزوة مؤتة لما رأى في نفسه ترددًا لما قتل زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب أخذ يحدثها ويقول:

أقسمت يا نفس لتنزلنّـــــــــه   **   طائعة أو لتكرهنــــــــــــه 

إن أجلب الناس وشدوا الرنّة   **   مالي أراك تكرهين الجنّـه 

قد طال ما قد كنت مطمئنـة   **   هل أنت إلا نطفة في شنّه 

 

ثم نزل فقاتل حتى قتل.

 

وجاء في السيرة أنهم رُفعوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة على سرر من ذهب، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «فرأيت في سرير عبدالله بن رواحة ازورارًا»  [4] عن سريري صاحبيه فقلت عمّ هذا؟ فقيل لي: مضيا، وتردد عبدالله بعض التردد ثم مضى فقتل [5].

 

إنها أمنية غالية يسعى لها الساعون من المؤمنين على مرّ العصور، إنها شعلة تحرك القلوب، وتحدوهم إلى ضرب الأمثلة في الجهاد والتضحية.

 

في صحيح مسلم [6] أن أبا موسى الأشعري قال وهو أمام الأعداء قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف» فقال رجل رثُ الهيئة: يا أبا موسى أأنت سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول هذا؟

قال: نعم، فرجع إلى أصحابه فقال: أقرأ عليكم السلام. ثم كسر جَفْنَ سيفه فألقاه ثم قاتل العدو حتى قتل.

 

لتذهب هذه النفس وتنتهي شوقًا ولهفًا إلى جنة عرضها السموات والأرض.

 

جاء رجل[7] إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلم فبيّن له النبي -صلى الله عليه وسلم- الإسلام وكم يأخذ من الغنيمة، فقال الرجل: يا رسول الله ما على هذا بايعتك، إنما بايعتك على أن يدخل سهم من هاهنا ويخرج من هاهنا وأشار إلى رقبته، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن تصدق الله يصدقك» فقتل – رضى الله عنه - كما تمنى [8].

وإذا كان النفوس كبارا   **  تعبت في مرادها الأجسام 

 

عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي، قال: «إن شئت صبرتِ ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله عز وجل أن يعافيك»، قالت: أصبر، ثم قالت فإني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها [9].

 

فهذه امرأة سوداء عادية لا وزن لها في المجتمع[10] كانت تصرع بسبب الجان فأتيحت لها الفرصة للشفاء بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكنها لما سمعت أن هناك جنّة اشتاقت وتلهفت وقالت: أصبر وأتحمل المرض والأذى، لكنها طلبت أن يدعو لها المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أن لا تتكشف، يعني أن هذا الجان الخبيث يتسلط على هذه المرأة فيزيل ملابسها، وتتكشف أمام الناس، فدعا لها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصارت تصرع ولا تتكشف، وكان الثمن لهذه الهمة العالية هو: الجنة.

 

فعلى المسلم أن تكون له همة عالية، تسمو به إلى معالي الأمور فلا يرضى بالدون، ويكون في ذيل القافلة.

 

يقول الإمام الكيلاني يربي غلامه فيقول: يا غلام لا يكن همّك ما تأكل وما تشرب وما تلبس، وما تنكح وما تسكن وما تجمع، كل هذا همّ النفس والطبع، فأين همّ القلب[11].

 


[1] رجاء بن حيوة الكندي. شيخ أهل الشام في عصره، من العلماء كان ملازماً لعمر بن عبدالعزيز ت112هـ. الأعلام للزركلي 3/17.

[2] أي نفس تطمح إلى المعالي والرفعة.

[3] هذه كرامة لهذا الصحابي أن يشم رائحة الجنة وهو في الدنيا.

[4] أي: ميلاً واعوجاجاً.

[5] أسد الغابة 3/134.

[6] مسلم 1902.

[7] اسمه: شداد بن الهاد – رضى الله عنه -.

[8] النسائي 1955. المعجم الكبير للطبراني 7/271 رقم 7108.

[9] البخاري 5652. مسلم 54.

[10] قيل إن اسمها سعيدة الأسدية، فتح الباري 10/119.

[11] بصائر تربوية، د. عمر الأشقر ص137.

______________________________________________________
الكاتب: د. إبراهيم بن فهد بن إبراهيم الودعان

  • 0
  • 0
  • 35

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً