تفسير سورة الكافرون

منذ 2024-08-16

قريشًا وَعَدُوا رسولَ الله ﷺ أن يُعطُوه مالًا، فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوِّجوه ما أراد من النساء، ويَطَؤوا عقبه، فقالوا: هذا لك عندنا يا محمدُ، وكفَّ عن شتم آلهتنا فلا تذكُرْها بسوء...

بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1 - 6].

 

سورة الكافرون مكية، عدد آياتها 6 آيات.

 

سبب نزول السورة:

أخرج الطبري في التاريخ (2/ 337)، وفي التفسير (34/ 662)، والطبراني في المعجم الصغير رقم (751) عن عكرمة، عن ابن عباس، ((أن قريشًا وَعَدُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يُعطُوه مالًا، فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوِّجوه ما أراد من النساء، ويَطَؤوا عقبه، فقالوا: هذا لك عندنا يا محمدُ، وكفَّ عن شتم آلهتنا فلا تذكُرْها بسوء، فإن لم تفعل، فإنا نعرِض عليك خَصلةً واحدةً، فهي لك ولنا فيها صلاح، قال: «ما هي» ؟ قالوا: تعبد آلهتنا سنةً؛ اللات والعزى، ونعبد إلهك سنةً، قال: «حتى أنظر ما يأتي من عند ربي» ، فجاء الوحي من اللوح المحفوظ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1، 2]؛ السورة، وأنزل الله عز وجل: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64]، إلى قوله: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 66]))[1].

 

فضلها: أخرج الترمذي برقم (2894)، وصححه الألباني عن ابن عباس، مرفوعًا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] تعدل ثلث القرآن، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] تعدل ربع القرآن.

 

وأخرج أبو داود والترمذي عن فروة بن نوفل، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنوفل: (( «اقرأ» : {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ثم نَمْ على خاتمتها؛ فإنها براءة من الشرك))[2].

 

ومن فضلها أنه يُسَنُّ قراءتها مع سورة الإخلاص في الصلاة؛ فعن أبي هريرة: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]))[3]، وركعتا الفجر هما راتبة الفجر.

 

وأخرج مسلم في صحيحه برقم (1218) من حديث جابر رضي الله عنه: ((ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام؛ فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، فجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين، كان يقرأ في الركعتين: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1])).

 

الحكمة في ارتباط سورة الإخلاص بسورة الكافرون:

يرى المتأمل أن السورتين الكريمتين دلَّتا دلالة ظاهرة واضحة على مفهوم الولاء والبراء؛ ففي سورة الإخلاص تأكيد على ما جاءت به سورة الكافرون؛ من وجوب التوحيد الخالص، والبراءة مما خالف ذلك؛ لذلك كان من السُّنَّة قراءةُ هذه السورة، وسورة الكافرون، في راتبة المغرب والصبح.

 

قال الفخر الرازي في تفسيره (32/ 358): اشتركت السورتان - أعني: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] في بعض الأسامي؛ فهما الْمُقَشْقِشَتان والمبِّرئتان؛ من حيث إن كل واحدة منهما تفيد براءة القلب عما سوى الله تعالى، إلا أن: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] يفيد بلفظه البراءة عما سوى الله وملازمة الاشتغال بالله، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] يفيد بلفظه الاشتغال بالله، وملازمة الإعراض عن غير الله، أو من حيث إن: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] تفيد براءة القلب عن سائر المعبودين سوى الله، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] تفيد براءة المعبود عن كل ما لا يليق به؛ [انتهى].

 

مناسبتها لِما قبلها:

قبلها في المصحف سورة الكوثر، وفيها الأمر بشكر نعم الله تعالى بإقامة الصلاة، والذبح تقربًا إليه سبحانه؛ في قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، والمعنى: اجعل صلاتك لله لا لغيره، واجعل ذبحك باسم الله، لا باسم غيره كما يفعل المشركون، وفي سورة الكافرون تأكيد على هذا المعنى؛ وهو إخلاص العبادة لله وحده، والبراءة في شرك المشركين وكفرهم.

 

مقاصد السورة:

(1) البراءة من الشرك والكفر بكل صوره وأشكاله.

(2) الدعوة إلى توحيد الله تعالى، وإخلاص العبادة له سبحانه.

(3) وجوب الكفر بالطواغيت.

(4) عدم المداهنة، أو المهادنة، أو الترخُّص في أمور العقيدة والتوحيد.

 

تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]:

قل: أي: قل يا محمد.

 

الكافرون: أي: مشركو مكة من عُبَّاد الأوثان، وقيل: نزلت في أناس مخصوصين قد سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون، والخطاب وصفهم بالكفر لأنهم لا يؤمنون بالأنبياء، ولا بالكتب، ولا بالبعث يوم القيامة، بخلاف مشركي أهل الكتاب؛ لذا فالخطاب لم يصِفْهم بأهل الكتاب.

 

تفسير قوله تعالى: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 2]:

أي: اليوم، وكذا في المستقبل، فــ«لا» لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال، والنفي لفعل العبادة والتعظيم، والمعنى: لا أعبد أصنامكم وأوثانكم أبدًا.

 

تفسير قوله تعالى: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 3]:

أي: وما كانت عبادتكم في وقت مضى ولا اليوم للذي أعبد؛ وهو الله تعالى؛ لأنهم كانوا على عبادة الأوثان يظنون أنها تنفعهم، أو تقربهم إلى الله، أو تشفع لهم؛ كما قال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3].

 

قال القرطبي في تفسيره (15/ 233): قال قتادة: كانوا إذا قيل لهم: من ربكم وخالقكم؟ ومن خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماءً؟ قالوا: الله، فيُقال لهم: ما معنى عبادتكم الأصنام؟ قالوا: ليقربونا إلى الله زلفى، ويشفعوا لنا عنده.

 

وقوله: {مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 3] مقابلة للآية السابقة {مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 2]، والمعنى: الذي أعبد.

 

وقيل: ما مصدرية، أي: لا أعبد مثل عبادتكم، ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي.

 

والمعنى: أنكم لا تزادون بالآيات إلا عنادًا؛ كما قال تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة: 64].

 

تفسير قوله تعالى: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} [الكافرون: 4]:

أي: ولا أنا عابد في المستقبل، ولا فاعل ما تطلبونه مني أبدًا من تعظيم الأصنام والأوثان، والجملة الاسمية تفيد الدوام والاستمرار.

 

قال أبو حيان في البحر المحيط (10/ 559): {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} [الكافرون: 4]: أي: وما كنت قط عابدًا فيما سلف ما عبدتم؛ يعني: لم تُعهَد مني عبادة صنم في الجاهلية، فكيف تُرجى مني في الإسلام؟؛ [انتهى].

 

تفسير قوله تعالى: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 5]:

{وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 5] في الحال وكذا في الاستقبال، وهذا خطاب لمن سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون.

 

ووجه التكرار: قال أكثر أهل المعاني: هو أن القرآن نزل بلسان العرب، وعلى مجاري خطابهم، ومن مذاهبهم التكرار إرادة التوكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والإيجاز[4]، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم - وهو أفصح من نطق بلغة العرب - كان إذا تكلم بالكلمة، أعادها ثلاث مرات.

 

تفسير قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]:

{لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون: 6]: أي: الذي أنتم عليه ولا تتركونه؛ وهو الكفر والشرك بالله بعبادة الأوثان.

 

{وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]، وفي قراءة يعقوب: (ولي ديني)، الإسلام دين التوحيد المنافي للشرك، الذي أنا عليه، لا أرفضه ولا أتركه.

 

ومثلها قوله تعالى: {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41].

 

ومن معاني الدين كذلك الحساب والجزاء، ويوم الدين هو يوم القيامة؛ لِما فيه من الحساب والجزاء، وذهب بعض المفسرين إلى أن الآية منسوخة بآية السيف، وقيل: ليست بمنسوخة؛ لأنها أخبار، والأخبار لا يدخلها النسخ.

 

والآية الأخيرة، بل السورة كلها، مفاصلة وبراءة من الكفر وأهله، وليست إقرارًا لهم على باطلهم.

 

قال ابن القيم:

ومعاذ الله أن تكون الآية اقتضت تقريرًا لهم، أو إقرارًا على دينهم أبدًا، بل لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه، أشدَّ في الإنكار عليهم وعَيبِ دينهم وتقبيحه، والنهي عنه والتهديد والوعيد كل وقت وفي كل نادٍ، وقد سألوه أن يكُفَّ عن ذكر آلهتهم، وعَيبِ دينهم، ويتركونه وشأنه، فأبى إلا مُضِيًّا على الإنكار عليهم وعيب دينهم، فكيف يُقال: إن الآية اقتضت تقريره لهم؟ معاذ الله من هذا الزعم الباطل، وإنما الآية اقتضت البراءة المحضة كما تقدم، وأن ما هم عليه من الدين لا نوافقكم عليه أبدًا؛ فإنه دين باطل، فهو مختص بكم لا نشرككم فيه، ولا أنتم تشركوننا في ديننا الحق، فهذا غاية البراءة والتنصُّل من موافقتهم في دينهم، فأين الإقرار حتى يُدَّعى النسخ أو التخصيص؟ أفترى إذا جُوهِدوا بالسيف كما جُوهِدوا بالحُجَّة لا يصح أن يُقال: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]؟! بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين والكافرين، إلى أن يُطهِّر الله منهم عباده وبلاده، وكذلك حكم هذه البراءة بين أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم أهل سنته، وبين أهل البدع المخالفين لِما جاء به، الداعين إلى غير سنته، إذا قال لهم خلفاء الرسول وورثته: لكم دينكم ولنا ديننا، لا يقتضي هذا إقرارهم على بدعتهم، بل يقولون لهم: هذه براءة منها، وهم مع هذا منتصبون للرد عليهم، ولجهادهم بحسب الإمكان[5]؛ ا.هـ.

 

انتهى تفسير سورة الكافرون.

 


[1] قال الحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 333): وقد أخرج ابن أبي حاتم من حديث ابن عباس قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: كُفَّ عن آلهتنا فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فاعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فنزلت، وفي إسناده أبو خلف عبدالله بن عيسى، وهو ضعيف.

[2] صحيح: أخرجه أبو داود (5055)، والترمذي (3403)، وأحمد (23807)، والنسائي في الكبرى (10568)، والدارمي (3470)، وصححه الألباني.

[3] أخرجه مسلم برقم (726)، وأبو داود (1256)، والنسائي (945).

[4] تفسير البغوي معالم التنزيل (5/ 318).

[5] بدائع الفوائد (1/ 141).

______________________________________________
الكاتب: أبو عاصم البركاتي المصري

  • 0
  • 0
  • 468
  • عنان عوني العنزي

      منذ
    تناسي الكــفـار خـلافاتهم في حـربـهـم الـمـجاهدين. لم يعد يخفى على أحد، في كل الساحات التي تمددت إليها الدولة الإسلامية، من شرق آسيا إلى أقاصي إفريقية، أنه ما إن يسيطر جنودها على أرض مهما صغرت؛ حتى تُعقد ضدهم التحالفات العسكرية "الدولية أو الإقليمية"، وتؤجل بين المتحالفين كل الخلافات وتسخّر كل الإمكانيات للتفرغ لحربهم، إلا أنه مع طول أمد المعارك، تبدأ هذه التحالفات بالتصدع شيئا فشيئا، فالتبعات التي ترهق ميزانياتها ومعنويات جنودها، تحتّم على الدول المشاركة الانكفاء على نفسها، وإعادة النظر في مخاطر "استنزاف مواردها" على مدى السنين القادمة، خصوصا أولئك الذين يقاتلون في أرض غير أرضهم، فهم وإن كانوا يدركون أن ما يفعلونه يهدف لدرء المخاطر التي تهدد مستقبلهم، وأنهم إن لم يقاتلوا المجاهدين حيث كانوا سيضطرون لقتالهم على أرضهم، إلا أن الأقدار لا تجري وفق ما يشتهون ويؤملون ويخططون، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}. [افتتاحية النبأ" فشل في الصميم"443]

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً