حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ..

خالد سعد النجار

قال ابن عاشور: وافتتاح الكلام ببيان بعض وسائل البر إيذان بأن شرائع الإسلام تدور على محور البر

  • التصنيفات: التفسير -

 

{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) }

{{لَنْ}} تفيد النفي {{تَنَالُوا}} لن تحصلوا عليه وتظفرا به، مِنْ ناله نيلاً إذا أصابه {{الْبِرَّ}} كلمة جامعة لكل خير، وقيل: المراد به هنا ثوابه وهو الجنة. والتعريف في البر تعريف الجنس: لأن هذا الجنس مركب من أفعال كثيرة منها الإنفاق المخصوص، فبدونه لا تتحقق هذه الحقيقة.

والخطابُ للمؤمنين وهو كلامٌ مستأنفٌ وقع معترضا بين جملة: {{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} } [آل عمران:91] الآية، وبين جملة: {{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ}} [آل عمران:93] سيق هذا الاستئناف لبيان ما ينفعُ المؤمنين ويُقبلُ منهم إثرَ بيانِ ما لا ينفعُ الكفرةَ ولا يُقبل منهم.. أي: لن تبلُغوا حقيقةَ البِرِّ الذي يتنافس فيه المتنافسون، ولن تُدركوا شأوَه ولن تلحَقوا بزُمْرة الأبرارِ، أو لن تنالوا برَّ الله تعالى وهو ثوابُه ورحمتُه ورضاه وجنتُه.

قال ابن عاشور: وافتتاح الكلام ببيان بعض وسائل البر إيذان بأن شرائع الإسلام تدور على محور البر، وأن البر معنى نفساني عظيم لا يخرم حقيقته إلا ما يفضي إلى نقض أصل من أصول الاستقامة النفسانية، فالمقصود من هذه الآية أمران: أولهما التحريض على الإنفاق والتنويه بأنه من البر، وثانيهما التنويه بالبر الذي الإنفاق خصلة من خصاله.

وقال أيضا: والبر كمال الخير وشموله في نوعه: إذ الخير قد يعظم بالكيفية، وبالكمية، وبهما معا، فبذل النفس في نصر الدين يعظم بالكيفية في ملاقاة العدو الكثير بالعدد القليل، وكذلك إنقاذ الغريق في حالة هول البحر، ولا يتصور في ذلك تعدد، وإطعام الجائع يعظم بالتعدد، والإنفاق يعظم بالأمرين جميعا، والجزاء على فعل الخير إذا بلغ كمال الجزاء وشموله كان برا أيضا.

{{حَتَّى تُنْفِقُوا}} تتصدقوا في سبيل الله، والإنفاق: إعطاء المال والقوت والكسوة.

وقد جعل الإنفاق من نفس المال المحب غاية لانتفاء نوال البر، ومقتضى الغاية أن نوال البر لا يحصل بدونها، وهو مشعر بأن قبل الإنفاق مسافات معنوية في الطريق الموصلة إلى البر، وتلك هي خصال البر كلها، بقيت غير مسلوكة، وإن البر لا يحصل إلا بنهايتها وهو الإنفاق من المحبوب، فظهر لـ «حتى» هنا موقع من البلاغة لا يخلفها فيه غيرها: لأنه لو قيل إلا أن تنفقوا مما تحبون، لتوهم السامع أن الإنفاق من المحب وحده يوجب نوال البر، وفاتت الدلالة على المسافات والدرجات التي أشعرت بها حتى الغائية.

قال أبو السعود: على أن المرادَ بالإنفاق مطلقُ البذلِ وفيه من الإيذان بعزة منالِ البرِّ ما لا يخفى.

{{مِمَّا}} من، في: مما تحبون، للتبعيض، ويدل على ذلك قراءة عبد الله: حتى تنفقوا بعض ما تحبون.

ويحتمل أن تكون لبيان الجنس، والفرق بينهما: أننا إذا جعلناها لبيان الجنس شمل المدح من تصدق بجميع ماله، وإذا جعلناها للتبعيض صار مختصاً بمن تصدق ببعض ماله. ويمكن أن نقول إنها صالحة للأمرين، فأحياناً يكون التصدق ببعض المال أفضل من التصدق بكله، وأحياناً يكون العكس.

** وفيه: جواز إنفاق المرء جميع ماله، بناء على أن «من» للجنس. وهذه المسألة اختلف فيها العلماء: هل يثاب الإنسان إذا تصدق بجميع ماله ويمدح، أو الأفضل أن لا تتصدق بجميع المال؟؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «(إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ)» [البخاري]، فجعل إبقاء بعض المال للورثة لئلا يتكففوا الناس خيراً من أن يحرموا من المال فيتكففوا الناس. وإذا كان هذا بالنسبة للورثة فهو بالنسبة للنفس من باب أولى.

ولما قال كعب بن مالك: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنِّي أَنْخَلِعُ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ)» [البخاري]

ومن العلماء من قال: بل يمدح الإنسان إذا تصدق بجميع ماله؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما حث على الصدقة ذات يوم جاء عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بشطر ماله، أي بنصفه. وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟)» قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [أبو داود]

والصحيح في هذه المسألة أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال، فمن علم من نفسه أنه إذا تصدق بماله لم يخنع لأحد، ولم يذل لأحد، وكان عنده من قوة التوكل على الله والعمل ما يغنيه عن السؤال فهنا يمدح على الصدقة بجميع ماله.

وكذلك لو فرض أن الحال تحتاج إلى الصدقة بجميع المال، لكون الناس في ضرورة إلى ذلك، كانت الصدقة بجميع المال أفضل.

وأما إذا كان الإنسان يخشى على نفسه أن يتصدق بماله، ويتكفف الناس فلا يتصدق؛ لأنه لا يمكن أن يفعل شيئاً مستحباً، ويدع شيئاً واجباً؛ لأن إعفاف نفسه وأهله واجب، فكونه يتصدق ثم يسأل الناس، لا شك أن هذا إذلال لنفسه. فالصحيح أن المسألة تختلف باختلاف الأحوال واختلاف الأشخاص.

{{تُحِبُّونَ}} من المال الذي تختارونه لأنفسكم وهو أفضل أمولكم وأطيبها وأنفسها وأحبّها إليكم. والمقصود نفائس المال وطيبه لا رديئه وخبيثه.

أي مما تهوَوْن ويُعجبُكم من كرائمِ أموالِكم وأحبَّها إليكم كما في قوله تعالى: {{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}} [البقرة:267]

والظاهر: أن المحبة هنا هو ميل النفس وتعلقها التعلق التام بالمنفق، فيكون إخراجه على النفس أشق وأصعب من إخراج ما لا تتعلق به النفس ذلك التعلق. كقوله تعالى: {{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً}} [الإنسان:8]

ولكن كلما كان المال أحب كان إنفاقه أقوى إيماناً، وأدل على محبة الإنسان للخير؛ لأن الشيء الذي تكون الرغبة فيه قليلة يسهل على الإنسان أن ينفقه، لكن الشيء الذي تتعلق به النفس كثيراً هو الذي تشح النفس في إنفاقه، فإذا أنفقه الإنسان مع قوة تعلق نفسه به كان ذلك دليلاً على قوة إيمانه؛ لأنه لا يدفع القوي إلا بما هو أقوى منه .

قال ابن عاشور: والمال المحبوب يختلف باختلاف أحوال المتصدقين، ورغباتهم، وسعة ثرواتهم، والإنفاق منه أي التصدق دليل على سخاء لوجه الله تعالى، وفي ذلك تزكية للنفس من بقية ما فيها من الشح، قال تعالى: {{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}} [الحشر:9] وفي ذلك صلاح عظيم للأمة إذ تجود أغنياؤها على فقرائها بما تطمح إليه نفوسهم من نفائس الأموال فتشتد بذلك أواصر الأخوة، ويهنأ عيش الجميع.

والذي يظهر أن الإنفاق هو في الندب، لأن المزكي لا يجب عليه أن يخرج أشرف أمواله ولا أحبها إليه، وأبعد من ذهب إلى أن هذه الآية منسوخة، لأن الترغيب في الندب لوجه الله لا ينافي الزكاة.

** وفيه: إثبات الأسباب، حيث إن الله أثبت للبر سبباً وهو الإنفاق مما نحب. وأنه كلما أنفق الإنسان مما هو أحب إليه، كان أكثر لبره وينقص بحسب ذلك الوصف.

  {{وَمَا}} شرطية تفيد العموم يؤكدها قوله من شيء {{تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ} } قَلَّ أو كثر {{فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} } تعليلٌ لجوابِ الشرطِ واقعٌ موقِعَه، أي فمجازيكم بحسَبه كثيرا كان أو قليلا.

وهو تذييل قصد به تعميم أنواع الإنفاق، وتبيين أن الله لا يخفى عليه شيء من مقاصد المنفقين، وقد يكون الشيء القليل نفيسا بحسب حال صاحبه كما قال تعالى: {{وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ}} [التوبة:79].

وقوله: {بِهِ عَلِيمٌ} قدم الجار والمجرور على متعلقه. والمعروف أن تقديم المعمول يفيد الحصر. فقدم المعمول لفائدتين:

الفائدة الأولى: لفظية، وهي مراعاة فواصل الآيات.. والفائدة الثانية معنوية، وهي بيان الاعتناء بهذا المقدم حتى كأن الله تعالى حصر علمه به. فتقديم المعمول هنا يدل على العناية والاهتمام بهذا الشيء الذي قدمه الإنسان لنفسه وأن الله به عليم.

وإن الله تعالى لم يذكر هذا العلم إلا لما يترتب عليه من المجازاة. فإن الله إذا علمه لا يمكن أبداً أن يضيعه {{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}} [الزلزلة:7-8]

وكان السلفُ -رضي الله عنهم- إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله عز وجل:

روى البخاري عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: «كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ [حديقة] وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ) فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ. [حسان بن ثابت وأبي بن كعب]»

وفيه دَلالةٌ على أن إنفاقَ أحبِّ الأموالِ على أقربِ الأقاربِ أفضلُ.

وروى مسلم عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ «أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: (إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا) قَالَ فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُبْتَاعُ [يشترى له] وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ قَالَ فَتَصَدَّقَ عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ وَفِي الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّيْفِ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ [أي غير متخذ منها مالاً ، أي ملكاً]. وفي رواية: (حَبِّسِ الْأَصْلَ، وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ)»

وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به يتأول قوله تعالى: {{لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}} فقال الحافظ أبو بكر البزار بسنده: قال عبد الله بن عمر: حضرتني هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} فذكرتُ ما أعطاني الله، فلم أجد شيئًا أحبَّ إليّ من جارية رُوميَّة، فقلتُ، هي حُرَّة لوجه الله. فلو أنِّي أعود في شيء جعلته لله لنكَحْتُها، يعني تَزوَّجتُها. [وفي رواية: فأنكحها نافع فهي أم ولده]

وجاء زيدُ بنُ حارثةَ بفرسٍ له كان يحبُّها فقال: "هذه في سبيل الله" فحمل عليها رسولُ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أسامةَ بنَ زيدٍ فكأن زيداً وجَدَ في نفسه وقال: "إنما أردتُ أن أتصدقَ بها"، فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(أما إن الله تعالى قد قبِلها منك)»

وكتب عمرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إلى أبي موسى الأشعريِّ أن يشتريَ له جاريةً من سبْي جَلولأَ يوم فُتِحت مدائنُ كسرى فلما جاءت إليه أعجبتْه فقال: إن الله تعالى يقول: {{لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}} فأعتقها.

وروي أن عمرَ بنَ عبد العزيز كانت لزوجته جاريةٌ بارعةُ الجمال وكان عمرُ راغباً فيها وكان قد طلبها منها مراراً فلم تُعطِها إياه، ثم لما وليَ الخِلافةَ زيَّنَتْها وأرسلتها إليه فقالت: قد وهبتُكَها يا أميرَ المؤمنين فلتخدُمْك، قال: من أين ملكتِها، قالت: جئتُ بها من بيت أبي عبدِ الملك، ففتش عن كيفية تملُّكِها إياها، فقيل: إنه كان على فلانٍ العاملِ ديونٌ فلما تُوفيَ أُخِذت من ترِكَته، ففتش عن حال العاملِ وأحضر ورثتَه وأرضاهم جميعاً بإعطاء المالِ ثم توجّه إلى الجارية وكان يهواها هوىً شديداً، فقال: أنت حرةٌ لوجه الله تعالى، فقالت: لمَ يا أميرَ المؤمنين وقد أزحْتَ عن أمرها كلَّ شُبهة؟ قال: لستُ إذن ممن نهى النفسَ عن الهوى.

وتصدق ابن عمر بالسكر واللوز لأنه كان يحبه، وأبو ذر بفحل خير إبله، وتلا الآية، والربيع بن خيثم بالسكر لحبه له.

روى البغوي في شرح السنة عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: « قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَيُّكُمْ مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ وَارِثِهِ؟) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا مِنْ أَحَدٍ إِلا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ وَارِثِهِ، قَالَ: (اعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)؟، قَالُوا: مَا نَعْلَمُ إِلا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: (مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ إِلا مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ) قَالُوا: كَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ (إِنَّمَا مَالُ أَحَدِكُمْ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ)» . [قال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ] يعني معناه أنك إذا بخلت بالمال وأبقيته فإنك سوف تذهب عنه وسوف يورث من بعدك. لكن إذا تصدقت به وأمضيته تجده أمامك. ولهذا ينبغي للإنسان أن يتأول هذه الآية ولو مرة واحدة، إذا أعجبه شيء من ماله فليتصدق به لعله ينال هذا البر.

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]